إنها لليلة مخيبة للآمال، لن أقود حزب العمال في أي انتخابات عامة مستقبلًا.
جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال معلقًا على خسارته في الانتخابات

خط الناخبون البريطانيون الخميس الماضي سطرًا جديدًا في مشهد بريطانيا المضطرب. فاز حزب المحافظين بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون، بأغلبية 365 مقعدًا في مجلس العموم، النتيجة التي تُمكن جونسون من تشكيل الحكومة منفردًا، وإنهاء الجدل بخصوص البريكست، الذي عرقله حزب العمال خلال العام الحالي.

العمال بقيادة جيرمي كوربن، مُني بهزيمة مذلة بعد أن خسر 59 مقعدًا، وحصل بذلك على 203 مقعد فقط. كانت الخسارة مضاعفة بهزيمة الحزب الفادحة في قلاعه التاريخية، كدوائر بلايث فالي ووركنغتون ودارلينغتون ومقعد نورثمبلاند.

سطّر الناخبون كذلك شهادة وفاة الزعيم السياسي، جيرمي كوربن، الرجل الذي كان حجر عثرة في طريق حزبه لتحقيق الفوز، وسببًا لانحياز الناخب لبوريس جونسون وإن خصخص الرعاية الصحية وجلد ظهورهم. فما هي الأسباب الرئيسية التي حالت دون تحقيق حزب العمال الفوز في الانتخابات؟

1. كوربن: حجر عثرة في طريق حزبه

حقق كوربن مفاجأة من العيار الثقيل بعد فوزه برئاسة الحزب عام 2015، بعد سلسلة من الانقسامات أدت إلى استقالة اد ميليباند من رئاسة الحزب. جاء هذا الفوز التاريخي بعد أعوام من التزام كوربن المقاعد الخلفية في الحزب، على إثر معاداته لبعض سياسات الحزب في ذلك الوقت.

لم يكن كوربن مقبولًا جماهيريًا بالشكل الذي يُصور عبر وسائل الإعلام، فالرجل ليس من طينة السياسيين الذين يقبلهم الشارع بسهولة. مواقف الرجل كانت سببًا في الريبة تجاهه، رجل من طينة كيلمنت أتلي أول رئيس وزراء من حزب العمال، الذي انحاز للمهمشين والمتضررين من الحرب العالمية الثانية، رجل الخلاص من حطابي الحرب وإن انتصروا فيها. لكن أتلي بمواقفه الحادة تخلى عن أرباب المصالح والمستفيدين من الحرب، الذين لم يألوا جهدًا في تشويهه.

وكما استُخدمت الدعايا ضد أتلي، الرجل فاحش الثراء الذي ينحاز للفقراء على حد وصف كارهيه، جرى تشويه كوربن، الذي أخذ حظًا وافرًا من الدنيا، هذا بالإضافة إلى موقف كوربين الداعم لمنظمات المقاومة في أيرلندا الشمالية، التي جلبت له مزيدًا من العداء كرجل غير قومي. أما مواقف الرجل السياسية بخصوص قضايا فلسطين والمهاجرين والمسلمين، فكلفته الكثير في زمن صعود اليمين الشعبوي، الشعبوية التي تسعى إلى تسطيح مشكلات النيوليبرالية العميقة، ويكأن هذه المشكلات العميقة تتعلق بالهجرة، وتراجع القومية، ومشكلات الاندماج في مواجهة تعدد الثقافات، إرث أوروبا الاستعماري الذي حاصرها، يكاد أن تختنق به.

تلك العوامل جعلت نسبة كبيرة من البريطانيين يرون في نهج كوربن نهجًا مغايرًا لما يتخيله ذلك الشعب عن نفسه، رئيسًا جيدًا للخارج البريطاني، مشكوكًا في فعاليته الداخلية، أو بعبارة كلاسيكية رجل غير مخلص للوطنية.

كانت راديكالية الرجل، وتمسكه بمبادئه حائلًا دون التوافق الحزبي، سواء داخل حزبه مع تيار «العمال الجديد» أو مع الأحزاب الأخرى في مواجهة المحافظين مثل حزبي الديموقراطيين الأحرار، والحزب القومي الأسكتلندي.

كوربين (يمين) مشيرًا إلى تضامنه مع ضحايا رابعة العدوية.
Blurrech / Own work / CC BY-SA 4.0

ذلك التحدي لم يكن هو السبب الوحيد، فآلة التشويه الإعلامي كانت حاضرة وممولة من منظمات صهيونية وأخرى سعودية، الأخيرة رأت في وصول كوربن للحكم مشكلة تهدد شرعية نظام ولي العهد، الذي عاداه كوربين مباشرة، وأشار إلى تعليق بيع الأسلحة للسعودية، بما في ذلك من ضرر لكرتلات المستثمرين في قطاع صناعة السلاح البريطاني، أما موقفه من الاستيطان وحصار غزة فجعله عرضة لاتهامه بمعاداة السامية، تلك التهمة التي نفاها عن نفسه مرارًا وتكرارًا.

2. موقف غير حاسم من البريكست

طوال العام الحالي، الذي كان مقررًا فيه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سعى حزب العمال بمجلس العموم، إلى عرقلة كل جهود المحافظين في إنهاء البريكست. وعلى الرغم من أن اتفاقات المحافظين كانت بالفعل سيئة، إلا أن المواطن البريطاني ملّ من الشلل الذي أصاب الحياة الاقتصادية من جراء تلك العرقلة.

لم يكن كوربن أيضًا يُظهر ما يُبطن، لم يحسم رغبته في الذهاب إلى استفتاء آخر على الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكنه يؤكد أنه لا يزال خيارًا مطروحًا ولا يعقد العزم على إقراره، بل عارض كل أعضاء حزبه الذين طالبوه بإعلان إجراء الاستفتاء في حال الفوز، أعطى ذلك شعورًا بعدم الارتياح لدى الناخب البريطاني، فالخروج أيًا كانت نتيجته سلبية، خير من اللا موقف.

في المقابل كان شعار بوريس جونسون في الحملة «دعونا ننهي البريكست»، الشعار الذي اختزل كل مشكلات بريطانيا في تلك المرحلة الانتقالية، موحيًا بأنه بعد إنهاء البريكست ثمة خطوات عملية ثابتة لإزالة آثاره. إن الثقافة الأنجلوساكسونية جُبلت على ثقافة اللحظة، وإدارتها جيدًا للانتقال لما بعدها، ذلك الذي أدى للعملية الانتقالية بينها وبين الرأسمالية، وهي أيضًا أداة الشعبوية اليوم، إن أنهينا البريكست فهناك خطوة جديدة ما بعدها، سنأخذها نحو الأفضل المتخيل في أذهانكم، من دون أن توجد شواهد ملموسة على أرض الواقع!

3. نزعة قومية وأخطاء تنسيق

 

كانت ليلة الخميس كاشفةً لتغير مزاج الناخب البريطاني، فكما جاءت لندن عُمالية، فإن بقية المناطق تباينت فيها النتائج بشكل صادم للعمال ولحزب الديموقراطيين الأحرار. الأخير كان الكتلة الثالثة في مجلس العموم بعد المحافظين والعمال، من أحزاب الوسط أو ما يُعرف بالليبرالية الاجتماعية.

خسرت زعيمة حزب الديموقراطيين في موطنها إسكتلندا أمام مرشحة الحزب القومي الأسكتلندي، بفارق ضئيل، 129 صوتًا، أدت أزمة البريكست لصعود أحزاب قومية مثل الحزب الأسكتلندي، والذي أصبح الكتلة الثالثة في المجلس بعد المحافظين والعمال.

تراجع الحزب الوحدوي الأيرلندي، ما يدل على عودة إشكالية أيرلندا الشمالية للواجهة. مشكلة العمال أنه لم يدرك تلك التحولات، ولم يستوعب أزمة البريكست التي حفزت صعود الأزمات القومية داخل المملكة المتحدة، حيث دفع المد الشعبوي واليميني بصعود القوميات الذاتية المختلفة.

تشتتت أصوات العمال أمام أحزاب صغيرة مثل حزب البريكست وفوز نايجل فاراج، في مقعد نورثمبلاند، الذي ذهب إليهم بأصوات ضئيلة. كان التنسيق بين العمال وحزب الأحرار كفيلًا لحسم مقعد الولاية، وهي من قلاع العمال التاريخية. ينسحب الأمر على أحزاب الوسط التي شتتت الأصوات، والملاحظ أن هناك اتجاهًا ما زال يتشكل، بتحول ميول الناخب إلى أحزاب الوسط ونبذ التباين الحاد بين يمينية المحافظين ويسارية العمال.

4. أن تكون يساريًا أكثر من اللازم

وُلد حزب العمال البريطاني برجوازيًا، وأخذ الاهتمام به يزداد على إثر الحرب العالمية الأولى. تعمق دوره مع تماسك الحزب داخليًا، ومع نمو الحركة العمالية والتمرد على الحرب ورموزها. انتُخب العمال لأول مرة على رأس الوزارة، بعد الحرب العالمية الثانية. اتخذ العمال سياسات تحررية تجاه بعض مستعمرات بريطانيا كالهند وباكستان، ونقيض ذلك مع مصر.

كان موقف العمال الأول مزيجًا بين الاشتراكية والرأسمالية، بل إنه كان يتمتع بأيديولوجيا قريبة لما يتبناها حزب الديموقراطيين الأحرار، فبالمزيج بين البرجوازية والعمال قدم الحزب دولة الرفاه، التي كانت تحت قيادة هارولد ويلسون، الديموقراطي الاشتراكي الذي امتاز عهده بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.

امتاز ذلك العصر بالسعي الحثيث من ويلسون لدخول السوق المشتركة الأوروبية، والانضمام للجماعات الأوروبية، ثم أدى استخدام شارل ديجول لحق الفيتو ضد بريطانيا، ذات النزعة الأمريكية والأنجلوساكسون، والتي انحازت لأمريكا بعد حرب السويس 1956، أدى ذلك للانقسام داخل البلاد بين يميني يرى أهمية الحفاظ على القومية البريطانية وآخرين منفتحين على محيطها.

عدم الاحتواء الأوروبي أحد أسباب الأزمة الاقتصادية البريطانية، خصوصًا وأن بريطانيا إن دخلت السوق ستصبح القوى الكبرى فيه وقد تتسيده، وذلك تحديدًا ما كان يفزع فرنسا. كانت هناك ظروف أخرى للأزمة كتخلي بريطانيا عن مستعمراتها، والانكفاء على الذات. فاقمت تلك التحولات من مشكلة النقابات العمالية والحزب، ما دفع ويلسون لطلب المساعدة من أمريكا، التي قبلت على شرط جبرها على الانسحاب من شرق السويس والخليج العربي وماليزيا، والزج بها في حرب فيتنام. كل ذلك أدى إلى صعود اليسار الحاد، تزامنًا مع انتفاضة مايو 1968.

إقرأ أيضًا: جيرمي كوربين: الرجل ذو الظل الأحمر

رحل ديجول ودخلت بريطانيا الجماعات الأوروبية والسوق المشتركة، في عهد المحافظ إدوارد هيث، وتأزم وضع العمال الذي بدأ بالتشظي بسبب الاستقطاب بين الوسط وأقصى اليسار، وجاء عهد المحافظين بقيادة مارجريت تاتشر التي عانت فترتها الأولى من أزمات اقتصادية طاحنة، بدأت معها استخدام إجراءات نيوليبرالية حاسمة بالتعاون مع البنك الدولي، كالخصخصة وتخلي الدولة عن دور الرفاه، إرث ويلسون.

ارتفعت أزمة النقابات العمالية وحزب العمال حتى بدأ عهد الإصلاحيين، وهم أقرب إلى الوسط وأبعد ما يكونون عن الاشتراكية. مع صعود الحزب بمسماه حزب العمال الجديد 1983، أو تيار «البليريين»، وتقدم شخصيات على غرار توني بلير 1994، امتاز برنامج الحزب بأنه أقرب لحفظ سياسات تاتشر النيوليبرالية، وعمليات الخصخصة، متخليًا عن إرث ويلسون، ومهمشًا لتيار «النقابات العمالية»، أقصى اليسار وعلى رأسه كوربن.

أدار الحزب بقيادة جوردن براون الأزمة الاقتصادية 2008 عبر سياسات ليبرالية، وسياسات قبول الهجرة، إلا أن آثار النيوليبرالية على الداخل البريطاني كالهجرة فاقمت من تبعات أزمة 2008 في بريطانيا، ما دفع بها إلى سياسات التقشف، والتي وضعت تحديات جمة على حزب العمال. أدى ذلك إلى تراجع تيار الوسط لصالح اليسار، الرافض للتقشف والممارسات النيوليبرالية، خصوصًا مع موجة 2011.

مع تصاعد الهجرة ومشكلاتها، والمشكلات الاقتصادية صعدت النزعة القومية والشعبوية اليمينية التي تختزل مشكلات الاقتصاد في أسباب ربما يكون بعضها واهيًا. ارتكب اليسار بناءً على أيديولوجيته مزيدًا من الأخطاء، وذلك عبر تجاوزه المكوّن القومي، وتبني أيديولوجيا عابرة للقومية، ومشكلات أخرى تتعلق بعدم الفعالية أمام الوجود الكثيف للممارسات والمؤسسات النيوليبرالية.

وعن أزمة الهجرة، فاليسار يفاقم من تأزيم مشكلة الهجرة، عبر طرح حلول غير مناسبة. مثلًا، طرح الحفاظ على تعدد الثقافات، على حساب الدمج والانصهار، حيث الأولى عابرة للقومية، مفككة للجماعة والتعاون داخلها[1]، والشعور بالأمان، في مقابل محاولة الحفاظ على لوحة فنية تخفي التناقضات، وتضع المهاجرين في مجتمعات هي أشبه بالمستوطنات.

أدت عالمية كوربن، وأزمة الحزب والتحولات داخله لصعود الأحزاب القومية والوسط على حساب العمال، وأثرت في أدائه لصالح المحافظين، حيث كان سبيل العمال لمواجهة تلك الوجات الذهاب بعيدًا باتجاه اليسار، كمواجهة مشكلة الهجرة بتجريم معاداتها أو النقاش حولها، وعبور ما هو قومي إلى ما هو كوني، لهذه الأسباب وغيرها تبدو خسارة العمال منطقية وأزمته عميقة ومتعددة الأسباب.

المراجع
  1. بول كوليير، الهجرة كيف تؤثر في عالمنا، عالم المعرفة 2016.