أعطني القدرة على أن أمتلك أشياء لي وحدي، مهما كان ذلك مثيرًا للوحدة أحيانًا، أعطني الوقت والقدرة على الانتظار حتى ولو لم أعلم ماذا أنتظر، أعطني شجاعة الاعتراف أن الأشياء ليست على ما يرام، لأنها لا تكون كذلك أحيانًا، أعطني القدرة على أن أكون عكس ذاتي، وفي النهاية عندما تغلق كل المنافذ، عندما تصمت كل موسيقى تعزف في المطاعم، عندما لا يتبقى أحد في المكاتب وعندما تمتلئ الشوارع بعزلتها الذاتية، دعني أموت شاخصة كالأشجار.

لم يكن 2020 عامًا جيدًا للسينما لكنه كان عامًا مليئًا بالمفارقات السينمائية ومع مرور أيام من العام 2021 تصدر أفلام تأخر موعدها أو تتاح على نطاق أوسع من عروض المهرجانات، تكمن المفارقة في كون بعض تلك الأفلام صالحة لوصف الوضع الذي نعيشه الآن ومنذ مارس الماضي، لم تقصد أي منها أن تعمل كمجاز لأوضاع حالية ذات قواعد اجتماعية مستجدة وتغيير جذري تاريخي على المستوى العام والخاص، لأن معظمها كان مخططًا له من مدد طويلة قبل أن تبدأ 2020 أو يواجه العالم بفيروس لا يرى بالعين المجردة يغيره ويغير كيف يتعامل الأفراد مع حيواتهم الجديدة، سواء فقدوا أعمالهم أو أحباءهم أو شعروا بعزلة غير محتملة، بل إن النظر إليها كأعمال فنية تعبر عن وضع معاصر هو مجرد تأويل يعتمد على المصادفة والرؤية الشخصية، لكن تكررت تلك التأويلات في تجارب العديدين من النقاد والجمهور أثناء مشاهدتها.

ما يجعل تلك الأعمال مطمئنة في تلك اللحظة هو اتسامها بهدوء وسكينة في مواجهة أحداث تاريخية أو شخصية كبرى، تتناول تلك الأفلام قصص أناس عاديين يشبهوننا، لا يملكون تأثيرات واسعة ولن تكتب إنجازاتهم في التاريخ، أفراد يحاولون تخطي كل يوم بيومه، ينضجون ويتعلمون التخلي عن الأمل واكتسابه مجددًا، أشخاص يعيشون على الهامش ويعانون نوعًا من أنواع الفقد، يطرأ عليهم ويغير سكون حيواتهم فيبدأون معه في محاولة التأقلم على واقع جديد.

يواجه هؤلاء في أزمنة مختلفة بتغييرات كبرى تشابه ما نمر به جميعًا الآن، فيصاب أحدهم بمرض مفاجئ أو يفقد محل سكنه أو أحد أحبائه أو مصدر رزقه، ربما ستصبح الأفلام أكثر ابتذالًا ومباشرة عندما يبدأ صناعها في التفكير بوعي في اللحظة الراهنة ومحاولة التكسب من وراء تمثيلها في أفلام تصور عالمًا يعيش في ظل وباء، أفلام ذات سرديات تقليدية وأهداف موجهة، أما الأفلام المتناولة هنا فلا تهدف بشكل مباشر للمتاجرة بالحاضر بل جعلتها المصادفة تجربة مشاهدة مطمئنة في أوقات ليست كذلك.

1. صوت الميتال Sound of Metal: عالم دون ضوضاء

أعطني شجاعة الاعتراف أن الأشياء ليست على ما يرام.

يلعب روبين (ريز أحمد) الطبول في فرقة ميتال مكونة من شخصين هو وحبيبته لو، معًا يعيشان حياة بسيطة وإن لم تكن فارهة، يحبان بعضهما ويتبعان شغفهما حتى إن لم يدر عليهما الأموال التي يأملانها، حياة روبن مستقرة ونمطية إلى حد كبير، فلقد تعافى من الإدمان ويحاول الحصول على حفلات أكبر ذات جماهير أعرض، لكن في لحظة ما ينهار عالمه كما يعرفه، يبدأ صوت العالم حوله في التغير، في تلك المرحلة يصنع داريوس ماردر في فيلمه الروائي الأول عالمًا سينمائيًّا يدمج فيه المشاهد فيما يشعر به البطل، يفقد روبين سمعه تدريجيًّا ومعه يفقد شريط صوت الفيلم ضوضاءه، نختبر ما يختبر وتصبح لدينا فكرة عن معاناته، يقع ذلك الفقد المفاجئ عليه كصاعقة حقيقية، فحياته كلها تعتمد على الموسيقى، لا يتقبل كون ذلك الأمر الطارئ غير قابل للتعديل؛ لأنه لا يوجد له علاج متكامل بعد.

يلجأ روبين بضغط من لو إلى مجتمع شبه منعزل من الصم من مختلف الأعمار، يعتمد على فكرة التأقلم مع وضع جديد، في ذلك المجتمع لا يعد الصمم مرضًا بل حياة جديدة يجب التأقلم معها دون غضب أو ضجر، ففيه يتعلم الفرد “كيف يكون أصم”، يلغي ذلك فكرة الإعاقة ويصبح الصمم تنويعًا على الحالة الإنسانية، لكن روبين لا يملك بعد ذلك النوع من الرضا عن وضع لم يحتسب حدوثه، فتلك ليست الحياة التي اعتاد أن يعيشها، يمكن تلقي ذلك الفيلم بمستواه الظاهر والمحدد وهو رحلة روبين في تقبل حالته الجديدة، لكن يوجد تشابه فيما تعرض له مع ما يعيشه العالم حاليًّا، مرض مفاجئ يقلب حياته ويلجأ بسببه لعزلة لا يعلم متى تنتهي لكنه وللحظات يستوعب أخيرًا أنه يحتاج أن يتوقف العالم عن الدوران ويمنحه لحظات من الهدوء التام.

2. أرض الرحل Nomadland: معنى السكن

أعطني القدرة على أن أمتلك أشياء لي وحدي، مهما كان ذلك مثيرًا للوحدة أحيانًا.

يبدأ فيلم أرض الرحل بإقرار حدث حقيقي، حيث تم إغلاق  مصانع الجبس في مقاطعة نيفادا وتهجير سكانها، من تلك المأساة العامة ينتقل الفيلم إلى مأساة بطلته الخاصة وهي فقدان زوجها بجانب فقدان منزلها، فبعد ذلك التغيير الكبير لم يعد لفكرة المنزل معنى صلب بالنسبة لها، قررت فيرن (فرانسيس مكدورمند)  أن تعيش كالبدو تنتقل في شاحنتها وتعمل في وظائف مؤقتة وموسمية تتعرف فيها على طبيعة لم تكن تعرفها وأراضٍ جديدة، تجارب حياتية مختلفة وأناس يعيشون كأسرة دون أعباء التمسك بمكان واحد، تحاول فيرن التأقلم مع وضع جديد مفاجئ سببته أزمة اقتصادية وأزمة أخرى شخصية، في أحد المشاهد ترد على تساؤل إذا ما كانت متشردة بأنها ليست كذلك، هي فقط لا تملك منزلًا.

يستكشف الفيلم ما يجعل المنازل سكنًا وما معنى ذلك السكن، هل يعني مزيدًا من الاستقرار أم أنه مجرد بناء اجتماعي رأسمالي يمكن الاستعاضة عنه بطرائق أخرى للعيش؟ ربما كانت فيرن أسعد حينما عاشت مستقرة مع زوجها داخل مؤسسة ثابتة وعمل بدخل ثابت، لكن في وجه تغيير كذلك لا يملك المرء إلا محاولة التأقلم والبحث عن معنى للحياة خارج ما اعتاد عليه، يحرر منطق عدم الثبات فيرن من التشبث بما يمكن فقده، بكل ما هو عابر وقابل للتغيير.

3. البقرة الأولى First cow: كل ما تحتاجه هو صديق

أعطني الوقت والقدرة على الانتظار حتى ولو لم أعلم ماذا أنتظر.

يبدأ فيلم البقرة الأولى بمشهد تقع أحداثه في الحاضر قبل أن تنتقل الأحداث إلى القرن التاسع عشر عندما كانت أمريكا لا تزال أرضًا فتية، تتبع القصة الطاهي “كوكي” (جون مجارو) في محاولاته لكسب المال وعيش حياة كريمة بعدما فقد عمله طاهيًا لمجموعة من الصيادين، تبدأ حياته في التغير عندما يصادق هاربًا صينيًّا يدعى كينج لو يحرضه على سرقة الحليب من البقرة الوحيدة والأولى في المنطقة ويملكها تاجر مستبد، يصنع كوكي كعكات لذيذة من مكونات بسيطة من ضمنها حليب البقرة، وتباع في لمح البصر، فالجميع في حاجة إلى تلك الرفاهية البسيطة ليشعروا أفضل تجاه حيواتهم ولو لفترة تناولهم لها فقط.

على الرغم من بساطة الفيلم وهدوئه فإن مخرجته كيلي رايكارت تعلق برقة على عدة قضايا، منها الرأسمالية المتمثلة في التاجر ومحاولة كوكي وصديقه في الترقي الاجتماعي بشكل ملتف بسبب احتكاره للموارد، لكنها أيضًا تقر ببساطة أن الحياة الجيدة يمكن أن تتمثل في صداقة حقيقية ومتع صغيرة مثل صنع وجبة شهية ومشاركتها مع الآخرين بهدف تذوقها فعلًا وليس مجرد سد الجوع، ترسم رايكارت بطلًا رقيق الصوت والحركة مسالمًا ووحيدًا وسط رجال لغتهم هي العنف، ينطلق الفيلم من فرضية بسيطة وهي أن الرفقة تعمل كمضاد لحياة لا معنى لها، كوكي وصديقه يمثلان جزءًا من تاريخ أرض لا تزال وليدة لن تكتب أسماءهم في تاريخها، لكن التحمل والنجاة هي قصتهما، سوف يفنى معظمنا على الأغلب من ذاكرة العالم إلى الأبد، لكننا كنا هنا عشنا وعانينا، تناولنا الحلوى ووجدنا قوتنا في صحبة بعضنا عندما ضاق بنا العالم.

4. تحول الطيور The metamorphosis of birds: أن تعيش دون أم

دعني أموت شاخصة كالأشجار.

مصدر كل الصلوات السابقة هو ذلك الفيلم تحول الطيور، ليس فيلمًا كبيرًا، ولم يعرض بشكل واسع لكنه في تلك القائمة لأنه بأكمله يعمل كصلاة هادئة في ليلة حزينة، مرثية لأكبر أنواع الفقد، فقد الأم، تروي المخرجة قصة ثلاثة أجيال من عائلتها، لكنها تركز بشكل رئيسي على جدتها، أولًا كفتاة عاشت قصة حب حميمية مع زوجها الذي يعمل في البحر ويغيب طويلًا، ثم كأم حانية أطفالها هم كل حياتها، اعتمدت المخرجة كاتارينا فاسكونسيلوس في سردها على الخطابات بين الزوجين، تروي تريز لزوجها مغامرات أولادهما وتطوراتهم اليومية، تفاصيل أيامهم الصغيرة وكيف يفتقدونه كل لحظة.

نسمع ذلك في صوت راوٍ رقيق يقص علينا حكاية طويلة أشبه برواية ويتزاوج ذلك السرد مع صور باعثة على الحنين ذات ألوان دافئة وتكوينات محدودة تظهر أفراد الأسرة في أشد لحظاتهم عادية، تصنع الأم وجباتها الشهية بينما يختبئ الأطفال في ثنايا المنزل، تلك اللحظات الصغيرة التي عشناها بشكل مكثف في عزلة منازلنا الجبرية هي ما يجعل ذلك الفيلم مشاهدة مطمئنة، لكنها مؤثرة فهو يتعامل مع مفهوم الأمومة وبالتبعية هول فقدها، يتحول سرد الفيلم من التجهيل إلى التعريف بعدما تفقد صانعته والدتها يصنع ذلك رابطًا جديدًا وخاصًّا مع والدها الذي فقد أمه تريز موضوع الفيلم الرئيسي، لا ينجرف الفيلم في الحزن الذي يتبع فقدًا بذلك الحجم لكنه يعمل كوسيلة لتذكر هؤلاء الذين أثروا فينا وجعلونا ما نحن عليه.

تحول الطيور هو أحد أهدأ الأفلام منذ سنوات، لا أحداث كبيرة، لا مطاردات أو تحولات درامية، فقط صوت يقص حكاية أشبه بقصة قبل النوم وتتابع بصري أشبه بمشاهدة ألبوم صور عائلتك الخاص، كذلك صوت الميتال، أرض الرحل والبقرة الأولى، أفلام ذات قيمة تأملية وصورة تتحرك كالماء الراكد، تعامل أبطالها وحيواتهم الصغيرة برفق ورقة فينعكس ذلك على مشاهدتنا لها في أوقات صعبة تحتاج إلى فسحة ولو ضئيلة من الجمال والأمل.