قبل الشروع في تصوير فيلمها الأحدث the power of the dog أرسلت المخرجة (جين كامبيون) ممثلها الرئيسي بيندكت كامبرباتش إلى مونتانا، حيث تدور أحداث الرواية المقتبس عنها الفيلم؛ ليتعلم ما يتوجب عليه أن يتقنه في أداء دوره كراعي بقر عنيف وذكوري يدعى (فيل)، تحديدًا الجانب المادي من الشخصية؛ كيف يركب الخيل، يصنع الأحبال، أو يركب حدوة حصان.

اصطحبت كامبيون بعدها فريق ممثليها قبل بدء التصوير إلى مواقع التصوير من أجل البروفات، يطهون ويأكلون معًا في ملابس الشخصيات. يجلسون صامتين في غرفهم متقمصين شخصياتهم في الفيلم. طلبت من كامبرباتش أن يراقص جيسي بليمونز الذي يؤدي دور أخيه، أرادت أن يقتربا بعضهما من بعض أكثر خلال هذه الفترة التحضيرية، أن يفعلا معًا ما يفعل الإخوة، وأن يكتشف كل منهما الآخر بشكل حميمي، أشياء كرائحة الجسد وملمسه. طلبت أيضًا من كامبرباتش متقمصًا شخصية “فيل” أن يكتب خطابًا لحبيبه ومعلمه الميت برونكو هنري.

قبل البدء في تصوير شخصيته في فيلم سكورسيزي The Age of Innocence يقيم دانيال دي لويس بأحد فنادق نيويورك تحت اسم (نيولاند آرشر)، وهو الشخصية التي يجسدها بالفيلم. يدخل ويخرج بثياب الشخصية التي تنتمي للقرن التاسع عشر، متحركًا بين أروقة المكان وقاعاته كشبح صامت من زمن آخر.

 في غرفته بفندق تشيلسيا بنيويورك يجلس الإسباني خافيير بارديم في ضوء خافت يخط قصائد للروائي والشاعر الكوبي المنتحر رينالدو أريناس على شكل رسائل موجهة للشاعر نفسه، والذي على وشك تجسيد حياته في فيلم Before Night Falls على الشاشة مفتتحًا كل رسالة بهذه الكلمة: ساعدني.

حكايات كهذه تمنحنا تصورًا سحريًّا عن فن التمثيل؛ إذ يبدو التمثيل في أفضل حالاته وتجلياته كطقس سحري من طقوس استحضار الأرواح، كل ممثل يقدم طقوسه ويجد طريقته الخاصة في استحضار روح الشخصية التي يجسدها. لا يوجد مرجع يقطع بشكل جازم كيف بدأ فن التمثيل، وإن كانت هناك بعض النظريات والتكهنات بالطبع.

أميل باقتناع نحو الحكاية التي تقول إنه ولد في قلب المعبد وفي قدس الأقداس، حيث بدأ كطقس ديني؛ إذ يدخل الكاهن ومعه الأضاحي المقدمة من الناس، ومع كل قربان يتقمص أمام الرب شخصية صاحبه ويصلي صلاته نيابة عنه. هناك أيضًا شيء طوطمي متجذر في فن التمثيل، كأنه شيء باقٍ من سحر الديانات القديمة حين يلجأ الممثل إلى شيء مادي بسيط في العادة يقربه أكثر من أي شيء آخر للشخصية، وكأن روح الشخصية موجوده في هذه الشيء، وهو ما سنورده في الحكايات التالية.

 أحاول منذ فترة طويلة كتابة هذا المقال، لكنه يفلت دائمًا مني وسط فوضى الحكايات والملاحظات التي لا تدور حول شيء سوى افتتاني الخاص بفن التمثيل، وإيماني بأن الأداء التمثيلي هو جزء من النص المجسد، وأن كل أداء جيد يكشف روح الشخصية والنص. هذه أربع حكايات مختلفة عن كيف يستحضر ممثل روح شخصيته الفيلمية، حكايات تمنح تصورًا عامًّا عن الطيف الشاسع لفن التمثيل.

The Untouchables: دي نيرو والسراويل الحريرية لآل كابوني

لا يوجد ممثل آخر، هذا إذا  استثنينا دانيال دي لويس، يأخذ حرفته بمثل هذا القدر من الجدية مثل دي نيرو. لأداء دوره في فيلم دي بالما The Untouchables يقرر أن يشاهد كل المواد الأرشيفية المتاحة عن آل كابوني، وهو الشخصية التي يجسدها في الفيلم، كذلك كل التجسيدات الدرامية التي استوحت ملامح أبطالها من رجل العصابات الأيقوني مثل أفلام the little caesar – the public enemy، في محاولة لتحليل الأداء الحركي لكابونى ولزماته الجسدية. دي نيرو ليس الشخصية الرئيسية في الفيلم ومشاهده في الفيلم لن تتجاوز العشرة المشاهد. لكني أعتقد أنه كان سيفعل كل ما فعله حتى إذا كان سيظهر في مشهد واحد فقط.

يعول دي نيرو كثيرًا على الجسد في تقمصه لشخصياته. يبدأ دائمًا من الجسد، الذي هو مفتاحه الأساسي للتقمص؛ لذا كان ضروريًّا بالنسبة له دراسة لغة جسد آل كابوني. حين  يصر على الزيادة الفعلية لجسده في الثور الهائج لسكورسيزي وهو يؤدي جاك لاموتا بعد اعتزاله الملاكمة، يعرف أن كل تفاصيل الأداء ستتغير إذا امتلك جسده على نحو فعلي هذا الوزن الزائد، بداية من الطريقة التي يتحرك بها وصولًا للحمولة النفسية لهذه الزيادة على رجل اعتاد ان يكون ملاكمًا.

يهتم دي نيرو على نحو استحواذي بما ترتديه شخصياته، يرى أن أزياء الشخصيات تقول هي الأخرى شيئًا عن الشخصية. تحكي ميريل ستريب عن تجربتها مع دي نيرو في اختيار جاكيت لشخصيته في فيلمها falling in love، وأنه راح يجرب لساعات ويختار بين 37 صندوقًا من الجواكيت – بدت لها جميعًا متشابهة – حتى عثر في النهاية على جاكيت الشخصية. 

 يؤدي دي نيرو هنا آل كابوني كنجم، شخصية عامة أقرب لأسطورة. إنه showman، قادر على تقديم عرضه الخاص ببراعة أمام الجمهور. كان يهتم جدًّا بأزيائه كما يليق بنجم يعول كثيرًا على مظهره؛ لذلك يصر دي نيرو على أن يرتدي بدلات لها نفس خامة وتصميم البدلات الخاصة بآل كابوني، لكن أكثر الأشياء غرابة كان إصرار دي نيرو على ارتداء سراويل تحتية من الحرير، كان اعتاد آل كابوني على ارتدائها.

ما يرتديه آل كابوني يقول شيئًا عن شخصيته، إنه شخص يحاول أن يستمتع بثروته وسلطته، ويصر على أن  يظهر ذلك للآخرين. حين يرتدي دي نيرو سراويل آل كابوني الحريرية فإن جسده يستشعر على نحو ما هنا سلطته وغناه الفاحش، ومن ثم سيصبح جسده  قادرًا على الحركة مثله. ما يقدمه دي نيرو بيده وما يقدمه بحركاته وإيماءاته للشخصية هو لغة جسد مؤدٍّ استعراضي/ performer يحتاج دائمًا مساحة للحركة والظهور، يحتاج دائمًا إلى مسرح وجمهور.

اعتاد دي نيرو أن يكتب على هوامش المشاهد  في سيناريوهات أفلامه ما يحتاج ان يفعله بالتحديد في كل مشهد. في واحد من أكثر المشاهد إثارة في الفيلم، وهو مشهد يضرب فيه آل كابوني رأس أحد أتباعه الخائنين بمضرب بيسبول على مائدة الطعام وأمام الجميع بعد خطبة تحفيزية. يكتب دي نيرو إلى جانب المشهد أنه من أجل أن يحصل على الغضب اللازم للمشهد، فعليه أن يفكر في خيانة شخصية حدثت له في حياته.

يكتب أيضًا أنه على حق، فإذا لم يكن يشعر أنه على حق فيما يفعل فلن يفعل ذلك بهذه الطريقة. يقدم دي نيرو هنا أداءً مؤسلبًا جدًّا، بمعنى أن أسلوبيته في تقمص الشخصية واضحة، وكأنه يبرز بشكل واضح كل حركة يفعلها وكل كلمة يقولها؛ لأن كلماته وحركاته هي أسلوبه في ممارسة سلطته على الجمهور، وهي أسلوبية ملائمة تمامًا لشخصية تتحرك في الحياة كنجم وليس كرجل عصابات تقليدي.

Dog Day Afternoon: آل باتشينو ونظارة فرويد

 ترى (ستيلا أدلر)، وهي واحدة من أهم مدرسي التمثيل في القرن العشرين، ومخلصة تمامًا  لمنهج ستانسلافسكي، أن الكلمات في ذاتها غير مهمة بالنسبة للممثل، وربما الأفعال أيضًا، لكن المهم هو المكان الذي تأتي منه هذه الكلمات والأفعال، المهم هو المشاعر والأفكار التي تنبع منها الكلمات والأفعال. جزء مهم من عمل الممثل أن يلمس مثل هذا المكان جيدًا، أن يحلل جيدًا دوافع وأفكار الشخصية التي يجسدها.

في أحد أفضل أداءات آل باتشينو، وهو سوني في فيلم (عصر يوم قائظ) (Dog Day Afternoon)، للمخرج سيدني لوميت، يشاهد آل بعد مرور ثلاثة أيام من التصوير اللقطات التي صورها. يشعر آل باتشينو أن الشخصية قد أفلتت منه، يبدو كوعاء فارغ في انتظار حضور الشخصية التي يجسدها. يقضي الليلة محاولًا العمل على الشخصية مجددًا، ثم حين يعود في الصباح يطلب من المنتج والمخرج إعادة تصوير اللقطات الأولى التي كانت تُصوِّر وصول الشخصية إلى البنك.

كانت الشخصية في هذه اللقطات ترتدي نظارة شمسية. يقترح آل أن على الشخصية التي يؤديها أن تنسى النظارة وأن تدخل المصرف بدونها، لأنها حسب إدراكه ترغب وعلى نحو غير واعٍ أن يُقبَض عليها، وهو ما كان. هذا الفهم العميق من آل لجوهر الشخصية التي يؤديها هو وسيلته لتقمُّص الشخصية ولأدائه الفذ. يتخذ هنا آل مدخلًا فرويديًّا لفهم شخصيته باعتبار أن هناك جوهرًا خفيًّا يحرك الشخصية، ونسيان النظارة هنا أقرب لزلة اللسان التى تكشف النوايا الحقيقية للشخصية.

يشعر سوني محارب فيتنام ،الذي لا يجد عملًا وثنائي الميول الجنسية، أنه غير مرئي في كل علاقاته، حتى مع أقرب الناس إليه، زوجته وأمه، مع إحساس عميق بالقهر. يفهم آل جيدًا أن هذه هي لحظة سوني، إنه يرغب أن يكون مرئيًّا ومسموعًا من الجميع. إنه  أقرب لممثل يبحث عن جمهور. يتحوَّل الرصيف أمام المصرف الذي يقوم بسرقته إلى مسرحه الخاص، فرغم المأزق الذي يعيشه كلص محاصر بالشرطة، تأمَّل الخفة التي يتحرك بها أمام الجماهير والكاميرا، وتلك الطاقة التي تتلبَّسه، مثل كومبارس صار فجأة بطل المسرحية لليلة واحدة.

علينا أن نشاهده أيضًا قرب النهاية وهو مستنزف جسدًا وروحًا بعد أن أدرك انتهاء لحظته في المشهد الذي يُملي فيه وصيته الأخيرة على إحدى الرهائن، يبلغ المدى التعبيري لآل في هذا الفيلم حده الأقصى.

Howards End: أنتوني هوبكنز وشارب جدّه


الصور بالتريب من أفلام (howard’s end- nixon- hunchback of notre dam 1939-the father)

هوبكنز سهل كالماء. يخبر من يسأله عن حرفته: فقط ادرس السيناريو جيدًا واتبع حدسك. يبدأ هوبكنز دائمًا من الخارج بالعمل على الخاصية الجسمانية للشخصية وإيقاع حركتها، ثم يجد طريقه إلى الداخل. كيف يجد هوبكنز طريقه للداخل؟ يستخدم هوبكنز ماضيه وخبراته العاطفية السابقة للدخول لشخصياته، يستدعي أحداثًا صغيرة علقت في عقله أو أشخاصًا حقيقيين. إنه يحاول دائمًا أن يجد في الشخصيات التي يجسدها ما يجعلها مألوفة له على المستوى الداخلي. يحكي هوبكنز شارحًا تقمصه لشخصية الملك لير على المسرح البريطاني في شبابه:

«غضب الملك لير مثل البركان، غضبه يمزقه تمامًا، وكان لديَّ على الدوام الغضب نفسه بداخلي».

 حين اختاره أوليفر ستون لتجسيد شخصية الرئيس الأمريكي نيكسون لفيلمه Nixon يسأله هوبكنز عن سر اختياره، إنه لا يشبهه، إنه ليس أمريكيًّا حتى؟ يجيبه ستون: قرأت في حوار معك أنك عانيت طويلًا من الوحدة، كذلك كان نيكسون. كان أوليفر يرغب في تقديم بورتريه نفسي لشخصية معقدة كنيكسون، وكان هوبكنز هو الرجل المطلوب.

يبرع هوبكنز في  تجسيد ألم  نيكسون الداخلي كرجل تستولي عليه شكوكه وانعدام أمان عميق. يقدم تقمصًا عاطفيًّا مدهشًا لوحدته المصمتة بين ارتيابه وخطاياه كرجل لم يعرف الانتماء طيلة حياته.

هناك نمط واضح في الشخصيات التي يجسدها هوبكنز على شاشة السينما، وهو نمط الشخصيات المكبوتة وشديدة التحفظ في التعبير عن مشاعرها، شخصيات باردة على السطح، لكنها سنتمنتالية وتتوق تحت هذا السطح لتجاوز هذا الكبت الفيكتوري. من هذه الشخصيات مستر ويلكوكس في فيلم جيمس أيفوري نهاية هاوارد Howard’s End. كان شارب الشخصية هو مدخل هوبكنز لها. طريقته لتصبح مألوفة لديها. حين نظر لنفسه في المرآة بالشارب لأول من مرة كان مستر ويلكوكس ينظر إليه من قلب المرآة. كان الشارب يجعله شبيهًا بجده، وكان جده شخصية متحفظة جدًّا، ومثال للكبت الفيكتوري تمامًا مثل الشخصية التي يجسدها. عاطفية جدًّا وهذا كان القلب العاطفي لشخصيته في الفيلم.

بداية من هذا الفيلم تظهر حركة ما لدى هوبكنز ستعاود الظهور في أفلام لاحقة كلازمة أداء لهذا النمط من الشخصيات. يواجه شخصية مستر ويلكوكس في Howards End زوجته بشأن أمر مخزٍ من ماضيه، يضع يده كحجاب أمام وجهه؛ لأنه لا يريد أن ينظر في عينيها أو أن تبصر هي الخزي في عينيه. تصير هذه الحركة مثل إيماءة تتكرر لدى عديد من الشخصيات التي يجسدها في أفلام Nixon، the dresser، وهي شخصيات يربطها معًا، كونها شخصيات ذات سلطة وهيبة خارجية وهشاشة داخلية، وبهذه الحركة تحاول أن تخفي لحظة ضعفها.

  يعترف هوبكنز أن هذه الحركة قد سرقها من تشارلز لوتون في فيلم أحدب نوتردام، كان بجوار أزميرالدا المرأة الوحيدة التي عطفت عليه، كانت قريبة منه، وكان فيما يبدو يشفق عليها أن ترى قبحه، فحاول مداراة وجهه بيده. «كانت حركة تستحق السرقة». يقول هوبكنز.

في فيلم الأب The Father للمخرج فلوريان زيلر الذي يؤدي فيه شخصية أنتوني، وهو رجل عنيد في خريف العمر بدأ يعاني من خرف الشيخوخة، لكن عناده يجعل حياته وحياة من حوله أكثر صعوبة.  هناك مشهد بكاء قرب نهاية الفيلم، حين شاهدته للمرة الأولى، تساءلت هل سيضع هذه المرة يده أمام وجهه، ثم جاوبت أيضًا على نفسي سريعًا: بالطبع لا، إنه هنا رجل حرمه الخرف من أي وعي بذاته، إنه لا يعرف حتى من هو ولا أين هو، إنه طفل الآن، ويعتقد أن الممرضة التي تقف قربه في المشهد هي أمه. إنه يريدها أن تراه، وأن ترى دموعه وضعفه.

The Missouri Breaks:  براندو ونسخة مبكرة من الجوكر

 يبدو براندو في أدواره الأولى كأنه يتحرك أكثر من الداخل، حيث أغلب شخصياته تلمس جرحًا حقيقيًّا في داخله وتتشابه معه في رغبته في التمرد وعدم الامتثال. في النصف الثاني من مسيرته مع استثناءات قليلة بدأ يجنح نحو الصنعة، نحو التفنن في الحرفة، يعمل على الشخصية من الخارج، يمنحها سطحًا شديد الإثارة، فاتنًا، ويترك القليل للداخل. 

في واحد من أكثر أداءاته غير المقدرة في فيلم آرثر بن The Missouri Breaks يؤدي براندو دور قاتل مأجور يدعى لي كلايتون. يبدو كنسخة مبكرة من شخصية الجوكر، فهو رسول للفوضى، لا يبدو مهتمًّا بالمال ولا بأي شيء سوى أن ينفذ مهمته وبطريقته الخاصة. يصف (بن) طريقة أداء براندو للدور بأنه «سرطان يلتهم ما يستوطنه ببطء قبل أن يقضي عليه نهائيًّا».

 أول ظهور لبراندو في الفيلم هو اختيار خارجي بارع يكشف طبيعته الشخصية؛ إذ نشاهد حصانين يقتربان من بيت صاحب المزرعة الذي استأجر كلايتون. يقترب الحصانان دون أن نشاهد أي راكب لهما من ابنة صاحب المزرعة التي تقف أمام باب البيت.  نشاهد كلايتون يتدلى من حصانه ليصبح رأسه لأسفل ويتحدث معها بهذه الطريقة. تقول له إنه أرعبها، وإن كل ما شاهدته كان حصانه، فيجيبها هذا ما كان ينبغي لها أن تراه. نعرف بداية من هذه اللحظة أننا أمام شخص غير متوقع ويضع الآخر دائمًا في وضع حرج.

لي كلايتون شخصية شديدة القسوة، لكنه يموه هذه القسوة دائمًا بأقنعة شفافة، يرتدي زيًّا مبهرجًا، يعزف الهارمونيكا، يرتدي زي كاهن أو ثياب خادمة عجوز، لا يهمه في الحقيقة دقة التنكر، فلا أحد سيخطئ من يكون المهرج. إنه لا يتخفى بل يشير إلى نفسه. كنت سأحب كثيرًا أن أشاهد براندو يلعب شخصية الجوكر. واحدة من التفاصيل التي تبدو في محلها تمامًا أنه يظهر كثيرًا وهو يلتهم شيئًا ما، يمضغه ببطء شديد قبل أن يبتلعه ليس فقط كدلالة على طبيعته المفترسة، ولكن أيضًا فكرة أنه يأخذ وقته تمامًا قبل أن ينقض على فريسته، وكأن القنص في ذاته هو متعته، وهو ما يفعله في مشاهد القتل في الفيلم، إنه يحولها إلى نوع من الاستعراض.

يمكن هنا أن تلمس معنى هالة الممثل وثقل حضوره. براندو لا يظهر إلا بعد ثلث زمن الفيلم، ولا يظهر في مشاهد كثيرة، ويقف أمامه جاك نيكلسون وهاري دين ستانتون، لكن براندو يستولى على كل مشهد يظهر فيه، وحتى بعد انتهاء الفيلم فإن أداءه هو ما يبقى عالقًا بالذاكرة.