في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، افتتح مهرجان روتردام السينمائي الدولي دورته الثامنة والأربعين. يعتمد المهرجان في برمجته على تقديم العديد من الأفلام التي حازت اهتمامًا في الفترة الأخيرة، وعرض العديد من الأفلام الجديدة سواء كعرض عالمي أو دولي أول، لكنه بالأساس يعمل كبانوراما كبيرة تعرض كل ما هو جديد في عالم السينما، وتسلط الضوء على تجارب قد لا تحظى بالاهتمام الكافي.

وفي هذا المقال، سنحاول تسليط الأضواء على 5 تجارب مميزة عرضها المهرجان هذا العام. اختيار هذه التجارب جاء بناء على استخدامها لأسلوب بصري جديد، أو معالجة جديدة لموضوع معتاد، أو حتى سعي للوصول إلى طموح على مستوى الشكل أو الموضوع.


1. Sons of Denmark

ربما يبدو الأمر نمطيًا بعض الشيء عندما نتحدث عن فيلم يعالج قضية الإرهاب في الدنمارك. وربما تشي بدايات الفيلم بهذا أيضًا، حيث نبدأ مع زكريا، ذلك الفتى المرتبك الذي يقع عرضة لتأثير الجماعات الإرهابية في الدنمارك وينضم إليهم، فيما يبدو كإعادة لأفلام شاهدناها من قبل، لكن بمرور النصف ساعة الأولى من الفيلم نكتشف تغير مجرى الأحداث فجأة، الأمر الذي يجعلنا ندرك أهمية البناء الدرامي في البداية.

يستغل المخرج علاوي سليم هذه النمطية المتكررة في البداية ليغير مجرى الأحداث، وبطل الفيلم ذاته، الذي يظهر كشخصية ثانوية في البداية، ثم يتدرج ليحتل مساحة البطولة فيما بعد. أضواء نيون قوية، كادرات مائلة، وموسيقى أبوكاليبتيك (نسبة إلى الأبوكاليبس أو نهاية العالم) ترسم أجواء الفيلم السينمائية، لكن يبقى السيناريو المميز الذي يطرح سؤال التطرف سواء الإسلامي أو القومي الفاشي بشكل به كثير من الموضوعية، وينتهي بشكل غير متوقع، هو العامل الأهم بجانب أسلوب المخرج، وأداء الممثلين المُقنع، حتى وإن احتوى الفيلم بعض الأخطاء المتعلقة باللهجة التي يتحدث بها الأبطال العربية.


يُعد فيلم «X&Y» واحدًا من تلك الأفلام ذات سيناريو الـ«High Concept»، وهو نوع من السيناريوهات عادة ما يُبنى على سؤال «ماذا لو؟»، ويمكن أن يثير انتباه المشاهد بمجرد سماعه سطر تعريف الفيلم (Logline).

تختار المخرجة أنا أوديل، أن تبني أستوديو لها ولموديل مشهور، حيث يعيشان فيه بعيدًا عن تأثيرات العالم الخارجي، ليس هذا فحسب، بل يختار كل منهما ثلاثة أشخاص، يُعبر كل شخص فيهم عن طبع معين بداخل المخرجة والموديل.

تأمر المخرجة كل شخصية أن تؤدي دورها بشكل دائم، وتذكر في بداية الفيلم، أن المميز في هذا المشروع، هو أننا لن نستطيع التفريق بين ما هو حقيقي، وما هو مُعد (staged) للتصوير. تُظهر تلك الطريقة الفريدة التي تختارها أوديل، مدى تعقيد شخصياتنا البشرية، وكأننا أربعة أشخاص/أصوات تعيش بداخل الشخص الواحد، وترافقه طوال يومه.

تعيش تلك الشخصيات في الأستوديو، وتتصرف بشكل يبدو طبيعيًا للغاية، بحيث تنجح المخرجة في خلق هذه الحالة الملتبسة بين الواقع والتمثيل.


3. Present, Perfect

ماذا غيرت السوشيال ميديا في البشر؟ هل جعلتهم مخلوقات أفضل أم أسوأ؟

ربما لم تغير من البشر ذاتهم، لكنها جعلت التواصل بينهم أسهل، والإفصاح عن رغباتهم المكنونة أكثر اعتيادية. من هذا المبدأ، تنطلق المخرجة الشابة شينج زو في فيلمها التسجيلي الطويل «Present, Perfect»، إذ تجمع اللقطات من فيديوهات البث الحي المنتشرة في الصين، والتي توفر دخلًا للذين يحصلون على عدد أكبر من المشاهدين، هذه اللقطات التي تذكر المخرجة أنها تجاوزت 800 ساعة مادة مصورة.

تختار زو من هذه الساعات أن تتبع بعضًا من القصص/الأشخاص، عن طريق المونتاج لفيديوهاتهم، فقط لخلق ملاحظة موضوعية لما يحدث. إنها لا تتدخل في أي لقطة من الفيلم (عدا في اختيارها لعرض الفيلم بالأبيض والأسود) فقط تواصل إظهار هذه المقاطع المصورة التي تجعلنا نفكر في هذه الشخصيات المهمشة أو المشوهة أو المريضة والمستعدة لفعل أي شيء فقط لجني المال، وقبل ذلك التواصل عن طريق فرصة ربما لم تكن لتتاح في ظروف أخرى. في النهاية، قد يكون الفيلم به بعض من التطويل، لكنه يجعلك تفكر بقوة عما صنعته منصات التواصل الاجتماعي بنا، وعما نفعله بها.


4. Take Me Somewhere Nice

في فيلمها الروائي الطويل الأول، تختار المخرجة إينا سندرافيتش أن تحكي قصة عابرة للحدود نوعًا ما.

يحكي الفيلم عن فتاة هولندية تُدعى الما، تذهب لزيارة والدها المريض في البوسنة. هذه الرحلة التي تتعرف فيها مجددًا على ابن عمها أمير، وصديقه دينيس، الذي تقع الما في حبه. أكثر ما يميز الفيلم هو حسيته الشديدة، لدرجة تكاد تشعر بأنك تلمسه، وتشمه، ويسيطر على كل حواسك.

على مستوى الشكل، تختار المخرجة تكوينات بصرية مختلفة بعض الشيء لتصوير رحلة الما، إطار عرض مربع بعض الشيء (1:1,37)، وزوايا كاميرا غريبة، وإضاءات تُحمل الفيلم/الرحلة طابعًا واقعيًا سحريًا إلى حد ما. اللافت للانتباه أيضًا هو ذلك التأويل الممكن للقصة كعلاقة بين بلدين، تروى من خلال شخصين يقعان في الحب، ودون أي مباشرة في السرد. حاز الفيلم جائزة الإنجاز الفني الاستثنائي في المهرجان، وهو اختيار موفق نظرًا لتميز السرد السينمائي، حتى وإن كانت القصة مكررة.


5. Symfonia Fabryki Ursus

احتل مصنع اورسس في السابق مساحة 170 هكتارًا، وضم 20 ألف موظف وعامل في بولندا، والذين أنتجت جهودهم 100 جرار في اليوم، لكن الأمور تغيرت في الأيام الحالية، حيث أصبح المصنع أرضًا خاوية، وتقاعد العاملون، وسكتت أصوات الجرارات. من هذا المنطلق تبني المخرجة ياسمينا فويشيك، فيلمها التسجيلي.

تعيد المخرجة خلق كل ما كان يحدث في المصنع، ليس عن طريق التسجيلات التقليدية (الإنترفيوهات) مع العاملين، ولكن عن طريق الارتجال المستمر معهم من أجل إنتاج نفس الحركات والأصوات التي أنتجها ذات العمال في يوم ما. حين ننظر إلى فعل العمال، وأصواتهم التي تستخدمها المخرجة لخلق شريط صوت مميز، في وسط مساحات فارغة، نتأمل قيمة العمل التي تخيلها هؤلاء العاملون يومًا ما عن وظيفتهم وعن نظام دولتهم الذي كان كما كان المصنع الذي هُدم.