من يتتبع أفلام أهم المخرجين في تاريخ السينما منذ نشأتها سيلاحظ التشابه الكبير، الذي ربما يصل إلى التكرار، بين معظم أفلامهم، سواء على مستوى الصورة أو الصنف أو المضمون أو الهم الفنّي الذي دفع بصاحبه لصناعة الأفلام، مثلا.. اهتم ياسوجيرو أوزو بالمجتمع الياباني، تحدث كيوبريك عن الشر الإنساني، قدم أنطونيوني العزلة النفسية والبحث عن قيمة الوجود، صوّر بيرجمان هواجسه عن نفسه وعن الدين، وانتقد بونويل السلطة الأبوية والبرجوازية، ولكل منهم أسلوبه المميز في صناعة الفيلم، للدرجة التي تجعل المشاهد المتمرس قادرًا على تخمين اسم صانع الفيلم من مشهد أو جملة حوارية أو حتّى مضمون الفيلم.

لكن ماذا لو هجر المخرج عالمه السينمائي؟ هل يستطيع تحقيق نفس النجاح الذي ارتبط بأفلامه السابقة؟ أم سيصبح مثل السمك الذي لا يستطيع البقاء حيًا خارج المياه.

1. سيرجيو ليوني: Once Upon a Time in America

في بداية ظهوره قام سيرجيو ليوني بابتكار صنف سينمائي جديد، خلط عصارة أفلام العصابات الإيطالية مع أفلام الويسترن الأمريكية ليظهر إلى النور ما سُمي فيما بعد بالـ «سباجيتي ويسترن»، كانت الأفلام الثلاثة A Fistful of Dollars – For a Few Dollars More – The Good, the Bad and the Ugly.

أدار فيها «كلينت ايستوود» وصنع نجوميته في دور الرجل الذي لا يحمل اسمًا القائم بدور نقيض البطل Anti-Hero الذي يستخف بالجميع ولا يسعى لتطبيق العدالة أو نشر الخير، وإنما يريد النجاة ولا ينظر إلا لذاته، وتميزت هذه الأفلام بالعنف والإيقاع السريع ومشاهد الحركة والمعارك والموسيقى الأوبرالية.

فُتن ليوني فيما بعد برواية لجيمس جراي اسمها The Hoods، انقطع عن العمل في السينما منذ أواخر الستينيات متفرغاً ليصنع Once Upon a time in America، رفض أن يتولّى إخراج (الأب الروحي) واستغرق أربعة عشر عامًا كاملة في صناعة هذا الفيلم، وتعتبر فترة زمنية كبير جدًا قياسًا بأنه صنع ثلاثية السباجيتي كاملة في ثلاث سنوات متتالية.

في أفلام السباجيتي ويسترن لم يكن الماضي شيئًا مهمًا، ولم تكن الشخصيات فيها ذات أهمية واضحة، الأهمية كلها كانت للحدث وكيف سنصل للنهاية، بطل الفيلم حتى لا يعلم المشاهد اسمه، لكن في Once Upon a time in America الذكريات التي تحملها الشخصيات هي الركن الأهم، ذكريات يعيشها المشاهد عبر ساعات أربع تمر بإيقاع هادئ مصحوب بموسيقى شاعرية لرفيق رحلته انيو موريكوني، ويعيشها الأبطال في فترة زمنية تقارب الخمسين عامًا، شخصيات الفيلم تحمل الماضي على عاتقها وفي النهاية يشعر المشاهد بثقلها، يعيش مشاعر الندم ويتفهم كل الخيارات وردود الأفعال والقرارات التي تضرب في صميم الروح.

2. ديفيد لينش: The Straight Story

بوجه خال من الانفعالات، اشتهر ديفيد لينش بعوالمه الغريبة وشخصياته المضطربة وشياطينه السيريالية، أفلامه تلتصق بالذاكرة من فرط البشاعة، وتسيطر على العقل ولا تبرح الذاكرة، كم شخص استطاع فهم Mulholland Drive من أول مشاهدة؟ هل يستطيع أحد أن ينسى مشهد الطفل المشوّه في Eraserhead أو الأذن المبتورة في Blue Velvet؟

بعد أن ثبّت لينش أقدامه في أسلوبه الشهير بإخراجه لـ Blue Velvet وLost Highway وقبل أن يقدّم تحفته الأهم Mulholland Drive قرر لينش أن يهجر عوالمه الغريبة لمرة واحدة فقط ويقدم مقطوعته الأكثر اختلافاً، فيلم بسيط يحكي قصّة مزارع عجوز يستقل عربة الحقل ليقطع مسافات ضخمة حتى يصل لأخيه المريض.

يقول ديفيد لينش إن صناعة هذا الفيلم بالنسبة له كانت أعقد من صناعة أي فيلم آخر في مسيرته، لأنه تعوّد على تشابك خطوط السرد والتجريب والهلاوس البصريّة، لكن في «قصة ستريت» ترك كل تلك الأمور وراءه، فيلم عظيم يتتبع الحياة الحقيقيّة والحب والرغبة الصادقة في الصفح قبل الوصول للمحطّة الأخيرة. ترشح الفيلم لجائزة أوسكار أفضل ممثل رئيسي.

3. جورج لوكاس: American Graffiti

من الطبيعي أن يتذكر المرء سلسلة أفلام Star Wars عندما يُذكر اسم جورج لوكاس، لكن قبل إخراجه لأربعة أجزاء من السلسلة وتقديمه لعلاقة الإنسان بالتكنولوجيا وكيف يؤثر كل منهما في الآخر، قدّم لوكاس فيلمه American Graffiti المختلف تمامًا عن السلسلة الخيال العلمي الشهيرة.

الفيلم يتتبع ثقافة الروك اند رول ويروي قصّة مجموعة من المراهقين في ليلة واحدة، دارت أحداثه في كاليفورنيا في أوائل الستينيات. وعلى الرغم من ارتباط اسم لوكاس بالميزانيات الضخمة في صناعة الأفلام، فإنه صنع American Graffiti بميزانية لم تتجاوز المليون دولار، محققًا أرباح تتجاوز المائة مليون دولار في شباك التذاكر، وحصد 5 ترشيحات أوسكارية.

4. وودي آلن: Interiors

وودي آلان يسخر من الجميع ويسخر من ذاته، في 1977 كان قد وصل إلى قمة السينما في فيلمه Annie Hall كأحد أهم أفلام الكوميديا ونجح في حصد أربع جوائز أوسكار من بينها أفضل مخرج وأفضل سيناريو لوودي نفسه.

بعدها بعام واحد قرر وودي أن يفاجئ الجميع، قدم تحيته الخاصة إلى أستاذه المخرج السويدي انجمار بيرجمان، في Interiors المرشح لخمس جوائز أوسكار، لا يظهر وودي آلان كممثل لأول مرة في أفلامه، وتخلى عن وجود موسيقى تصويرية، صور الفيلم في أجواء كئيبة ذكرت الجمهور حينها بفيلم بيرجمان Cries and Whispers.

يأخذنا الفيلم في رحلة مؤلمة في نفوس أعضاء عائلة كانت مثالاً يحتذى به في المجتمع يومًا ما، أصاب الأم انهيار نفسي، أما أولادها فإحداهما كاتبة ناجحة لكنها ترى أن علاقاتها مع من حولها محاطة بالنفاق وعدم الصراحة، والثانية تتجاهل كل شيء وتعيش حياة مرحة سطحية، والأخيرة تشعر بالاغتراب وبفقدان الهوية وتحاول البحث عنها.

5. مارتن سكورسيزي: Hugo

هذا هو أكثر الأفلام تفردًا واختلافًا في مسيرة مارتن سكورسيزي، لا يمكن بأي حال مراوغة أنه وضع فيه شيئًا من روحه أيضًا، لكن هذه المرة حدث ذلك بشكل مختلف وفي عالم مختلف تماماً.

يحكي الفيلم قصة الصبي هوجو الذي يعيش وحيداً بعيداً عن الأنظار في محطة قطارات في باريس وكل مهمته أن يضبط ساعات المحطة، وعلى الرغم من إدراك الصبي لأهمية عمله، فإنه يشعر بأن شيئاً أهم ينتظره، هذا الشيء هو إصلاحه لآلة الأوتوميتون، وكل شيء مدون عنها في كتيب صغير يضيع منه عندما يضبطه صاحب محل ألعاب محاولاً سرقة قطعة منه، وتدور الأحداث محاولة كشف سر الآلة الغامضة.

عوالم مارتن سكورسيزي دائماً ما تكون مظلمة وقاسية ومليئة بالدماء، لكن Hugo الذي استخدمت فيه التقنية ثلاثية الأبعاد، فيلم بطله طفل للمرة الأولى في مسيرة مارتن ويقفز فيه على حاجز التصنيفية ويقدم عالماً خيالياً حالماً، ورغم كل هذا الاختلاف عن عوالمه السابقة فإنه يصنع شخصيات حية ويعبر فيه عن شغفه وتقديره للمخرج الرائد جورج ميلييس، ترشح الفيلم لـ 11 جائزة أوسكار نال عنها خمس جوائز.