تضيع الحقيقةُ ما بيننا.. ويَصلى البرىءُ مــــع المذنبِ

ويُهضم فينا الأمام الحكيمُ.. ويُكرم فينا الجهول الغبي

كان شباب السادس من أبريل قد نشروا، للمرة الأولى، القصيدة التي تضم الأبيات السابقة على صفحتهم الرسمية على فيسبوك بعد أشهر قليلة من تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك. والقصيدة هي حَطَمْتُ اليَراعَ فلا تَعْجَبِي لحافظ إبراهيم، والتي كان قد كتبها آسفاً على أحوال مصر في زمانه، وناقداً إنحياز بعض أهلها لأولي السُلطة والنفوذ على حساب الحق والعدل. في وقت كانت حملات التشوية والتخوين – التي لم تنقطع – ضد الحركة على أشدها، وجد الشباب في كلمات شاعر النيل تجسيداً لحسرتهم وآسفهم على ما نالهم في وطنهم بعد ثورة 25 يناير التي أبهرت العالم بأسره، والتي كان لهم فيها دور بارز لا يُنسى.

لم يعد مستغرباً أن تستمع في التلفزيونات والإذاعات عن قصص درامية ومثيرة عن عمالة شباب هذه الحركة لأجهزة مخابرات أجنبية، أو عن أنهار أموال التمويل التي تجري من تحتهم جراء خيانتهم لوطنهم. ليس شيئاً مُلفتاً الآن أن تقرأ إسم الحركة في صحيفة ورقية أو بوابة إليكترونية مقروناً بلفظ “المحظورة”، وبخاصة بعد أن أيدت محكمة الأمور المستعجلة في مارس الماضي الحكم بحظر الحركة وأنشطتها. ورغم الإتهامات التي لا تنقطع ضد الحركة، فإن أحداً من أعضائها لم يدان بأي مخالفة أو جريمة ذات صلة بحملات التشهير ضدها. وأبسط مثال على ذلك، أن القيادات البارزة من الحركة، أحمد ماهر ومحمد عادل، ومعهم شباب 6 أبريل وشباب الثورة القابعون في معتقلات النظام الحالي يُحاكمون بتهمة خرق قانون التظاهر ومشتقاتها، وليس أكثر من ذلك.

الأكيد أن حركة 6 أبريل ليست تجمعاً للملائكة، وأن هذا الكيان كغيره من الكيانات السياسية المصرية قد ارتكب العديد من الأخطاء في السنوات الأخيرة، لكنه من غير المنصف محاولة تزييف التاريخ ومحو تضحيات هؤلاء الشباب ووقوفهم في وجه الظلم والفساد والطغيان، وبذر الأمل في مستقبل أفضل لمصر وشعبها. وفيما يلي، من هذا المقال، عرضاً موجزاً لنشاطات شباب 6 أبريل خلال السنوات السبع الماضية والتي وقد تميزت فيما قبل – وحتى إندلاع – ثورة 25 يناير بالتركيز على الابداع التكنولوجي والابتكار وبث روح المعرفة والامل والحلم. فيما بعد 25 يناير والشروخ العميقة التي ضربت وحدة البنيان الاجتماعي في مصر فقد كانت محاربة الإستقطاب والقطعانية العمياء، ودعوة المصريين – وإن لم يفلحوا في ذلك – إلى كلمة سواء هي سمات تحركات الحركة ونشاطاتها.

عيال لاسعة

مع بدايات ظهور شباب الفيسبوك الداعي لإضراب 6 أبريل، ومن بعده إضراب 4 مايو، عام 2008 وصفهم رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، بأنهم شوية عيال لاسعة. موقف السعيد الذي إستخف بهؤلاء الشباب وحاول النيل من قدرهم، لم يكن في حقيقة الأمر سوى إنعكاس للنهج الذي إتبعته السلطات تجاه شباب 6 أبريل، والشباب المُعارض عموماً، حتى قيام ثورة 25 يناير. لم يحاول الشباب – الذين خرج من بين صفوفهم لاحقاً شباب 6 أبريل – إنكار شباب الفيسبوك، بل إحتفوا بهذا التوصيف، وأبدعوا في إستخدام الإنترنت والمنشورات ورسائل الهاتف المحمول من أجل تحويل دعوة إضراب عمال مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى في 6 أبريل 2008، إلى دعوة عامة للإضراب في مصر.

“يوم 6 أبريل، خليك قاعد في البيت، إوعى تنزل، ماتروحش الشغل، ماتروحش الجامعة..”. كانت تلك مقدمة رسالة إضراب 6 أبريل التي إنتشرت كالنار في الهشيم داعية المصريين إلى المشاركة في الإضراب. منذ تأسيسه وحتى موعد الإضراب إجتذب جروب “6 أبريل إضراب عام لشعب مصر” (لم تكن صفحات فيسبوك العامة قد وُجدت بعد) حوالي الـ 75000 مشترك، وهذا الرقم كان حدثاً إستثنائياً فريداً، بالنظر إلى عدم شهرة موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك حينها، معه أصبح هذا الجروب هو الأكبر عربياً، وكذلك كان – تبعاً لبعض التقديرات – أحد أضخم التجمعات السياسية الإليكترونية على مستوى العالم في تلك الآونة.

لم يتوقف شباب 6 أبريل عن إستخدام فيسبوك، يوتيوب، تويتر والمدونات وغيرها من وسائل الإعلام الجديد بشكل إبداعي لنشر رسائل الأمل في التغيير، وتوعية الشباب بقضايا وطنهم، وفضح الفساد. مثال على ذلك، كان الدعوة المبتكرة لعقد مؤتمر موازي، على الإنترنت، للمؤتمر السنوي للحزب الوطني الديموقراطي، تحت مسمى “مؤتمر القلة المندسة”. خلال فعاليات هذا المؤتمر عمدت الحركة إلى إستضافة الكثير من خبراء السياسة والإقتصاد وعلوم الاجتماع للرد على أكاذيب الحزب الوطني ومزاعمه عن التنمية الاقتصادية في مصر وتحسين أحوال المصريين المعيشية. في وقت كانت المعارضة الحزبية في غياب، نال مؤتمر القلة المندسة ومعه شباب 6 أبريل قدر لا بأس به من التغطية الإعلامية، وصارت رسالتهم تصل لشرائح أكبر من المجتمع بإستمرار.

أيضاً بتصفح مواقع الحركة في الفضاء الإليكتروني، نجد أن هؤلاء الشباب قد أولوا عناية فائقة لإستخدام الفنون والآداب في تطوير الوعى وشحذ الهمم وتشجيع الشباب على الإنخراط في العمل العام. فعلى سبيل المثال غبر صفحتها الرسمية، عمدت الحركة، إلى التعريف بعدد من الكتب والمؤلفات وكذلك الأعمال الدرامية والأفلام السينمائية التي تخاطب عقل القارىء والمشاهد وتعمل على توسيع مداركه وتساعده على زيادة خبراته وذلك بالتعرف على خبرات العالم من حوله. دأب شباب الحركة على دراسة تجارب الدول التي نجحت في التحول من الديكتاتورية إلى الديموقراطية، وكذلك فلسفة التغيير والنضال المدني السلمي، وعملوا على نشر هذه المعارف لمتابعي ومشتركي صفحاتهم ومواقعهم الإليكترونية.

يبقى أن نؤكد على رسالة الأمل الغالبة على خطاب شباب هذه الحركة، فصرخة “لا تيأس.. لا تمل.. لا تتوقف” قد لازمت منشوراتهم الإليكترونية والمطبوعة منذ تأسيسها وحتى اليوم. التفكُّر في الطريقة التي يحتفي بها شباب 6 أبريل بالذكرى السنوية لتأسيس حركتهم تنزع دوماً إلى المستقبل، فلا يحتفلون بمرور سبع أعوام مضت، بل يستعدون مثلاً، طبقاً لمشاركاتهم وبياناتهم، لإنطلاقة ثامنة.

الأرض الوسيطة

في مصر، كما في المجتمعات التي عاشت لسنين تحت حكم الطغيان والقمع، كان متوقعاً أن تدفع نشوة التحرر والديموقراطية بعض الأفراد والجماعات إلى التعبير عن ذواتهم وعن خططهم للمستقبل، بشكل يصطدم مع تطلعات فئات أخرى من المجتمع، أو بشكل يهدد عملية الدمقرطة والتحرر ذاتها. لذلك فحتى قبل أن يتنحى مبارك في 11 فبراير 2011، قد أولى شباب 6 أبريل – من وجهة نظرهم على الأقل – إهتماماً دؤوباً بالعمل على لم شمل المصريين. في رسالتهم التي نشروها في 10 فبراير 2011، لخص شباب 6 أبريل النهج الذي التزموه ودعوا إليه من وجوب إعلاء مبادئ الثورة على الأهداف الحزبية والفئوية، وإنكار الذات، والعمل من أجل خدمة مصر قبل السعي إلى حُكمها، حين قالوا أن ما تمثله 25 يناير هو ” ثورة مش حزب أو جماعة.. شعب مش فرد أو شخص.. وطن مش سلطة أو حكم”.

عندما نظر الشباب إلى تجارب الدول الأخرى الراسخة ديموقراطياتها، وجدوا أنه في دول كبريطانيا، ألمانيا، الولايات المتحدة وغيرهم هناك دوماً كتلتين سياسيتين هائلتين، كمثل العمال والمحافظين في حالة الأولى، الديموقراطيون الإشتراكيون والتحالف المسيحي الديموقراطي في الثانية، الجمهوريون والديمقراطيون في الأخيرة، تتمتعان بالوزن السياسي الأثقل، لكن يظل نسبة المنتمين إليهما، إلى عموم الشعب في تلك البلدان، أقلية. بمعنى أن الأغلبية في تلك البلدان، هي أغلبية متأرجحة تحدد إختياراتها بناءً على أسباب موضوعية من مستوى الخدمات التي قدمها هذا الحزب أو ذاك وقت أن كان في الحكم، قدرات المرشحين المتنافسين، البرامج التي يعتزم كل حزب تطبيقه حال وصل للسلطة من جديد، وهكذا. هذه الأغلبية المتأرجحة يمكن تسميتها بالأرض الوسيطة، التي كلما إتسعت مساحتها، ترسخت الديموقراطية وإستقرت البلاد وإرتقى المستوى المعيشي للشعوب. وعلى النقيض، كلما إنكمشت رقعة الأرض الوسيطة تلك، كلما إرتفعت إحتمالات الصدام السياسي، وإهتزت الديموقراطية وأطلت الفوضى برأسها وتعثر الاقتصاد وساءت أحوال الناس.

ومع الإقرار بإنه في الحالة المصرية، لم تكن القوى السياسية المدنية منافساً كفأً للقوى السياسية الدينية، إلا أن شباب 6 من أبريل قد عملوا من ناحية على مد الجسور بين هذين الفصيلين ودعوتهما مراراً إلى كلمة سواء، ومن ناحية أخرى سعوا إلى زيادة رقعة الأرض الوسيطة، بمعنى أنهم قد إجتهدوا في حث المواطنين على نبذ الثقافة القطعانية لاولئك المؤيدين على الدوام او المعارضين بإستمرار، وأن يكون التفاعل والتعاطي مع الأحزاب والسياسيين مُؤسساً على قدرة هؤلاء على خدمة مصر، وتحديثها، والإرتقاء بالمستوى المعيشي لشعبها.

ولمّا كانت 6 أبريل قد وضعت “الوطنية فوق السياسة.. والمبادئ فوق المصالح” شعاراً لها فيما بعد ثورة 25 يناير، فإن الكثير من مبادرات الحركة وأنشطتها – سواء إختلفنا أو إتفقنا حولها – قد إتسقت مع ذلك الشعار. ففي سبتمبر 2011، أطلقت الحركة حملة الدائرة البيضاء والدائرة السوداء لتعريف المواطنين بمرشحي فلول الحزب الوطني في انتخابات البرلمان، وذلك رغم أن الحركة لما تسعى لترشيح أي من أعضاءها في تلك الانتخابات.

في يونيو 2012، لم تصد الخلافات الفكرية والسياسية العميقة بين شباب 6 أبريل والإخوان المسلمين، الأولى – بعد تصويت ديموقراطي داخل صفوفها – عن أن تكون جزءً من تحالف وطني واسع لدعم مرشح الأخيرة في انتخابات الإعادة لرئاسة الجمهورية بعد تعهدات ووعود واضحة قطعها مرسي على نفسه. وقد تعرضت الحركة لإنتقادات لاذعة بسبب هذه الخطوة، وإن كان كثير من هؤلاء الناقدين يتجاهلون – عمداً أو بغير معرفة – العديد من الحقائق التالية.

الحقيقة الأولى أن 6 ابريل قد بذلت جهوداً مضنية بين عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي وخالد علي لتقديم مرشح رئاسي واحد كى لا تُفتت وتضيع أصوات مؤيدي 25 يناير فيما بينهم، لكن هذه الجهود قد ذهبت هباءً، وذلك ما أوصل مرسي وشفيق للجولة النهائية. الحقيقة الثانية، أن الحركة لم تدعم مرسي منفردة بل كانت ضمن جبهة وطنية اصطف فيها ثوريون، ومدنيون، وإسلاميون لمواجهة مرشح النظام القديم.

كما أن هذا الدعم قد جاء مشروطاً ومقروناً بوعود قطعها مرسي على نفسه وأخلفها فيما بعد. يبقى التذكير بإن هذا القرار قد إتخذته الحركة بعد تصويت ديموقراطي داخل صفوفها شارك فيه أعضاءها على مستوى الجمهورية، وأن الحركة، طبقاً لبياناتها، كانت ترغب في رؤية تجربة مصرية تُلهم العالم يتعاون فيها التيار المدني مع التيار الإسلامي، متجاوزين خلافات الماضي وعدواته، بلا إقصاءٍ أو تمييز من أجل مستقبل أفضل بالجميع، وللجميع، وهذا ما لم يحدث.

مواقف الحركة التالية، كانت تأكيداً لمسلكها السابق في مد أواصر الثقة وإتاحة الفرصة كاملة للإسلاميين، فقد ارتأت الحركة التريث في معارضة محمد مرسي بعد إنتهاء الـ 100 يوم الأولى من حكمه بدون أي إنجاز يُذكر، بل ودشنت الحركة ذاتها حملة نبض المواطن في سبتمبر 2012 على مستوى الجمهورية للعمل على حل مشاكل المواطنين، في مجتمعاتهم الحالية، عن طريق فتح قنوات اتصال مباشرة بين المواطنين والمسؤولين المحليين.

ولمّا كان جلياً أن الطريقة التي يدير بها الرئيس محمد مرسي دفة الأمور لن تودي بأى خير، ومع صم الآذان عن دعوات التغيير ولم شمل المصريين، ومع تصاعد أعمال العنف والإشتباكات بين مؤيدي ومعارضي الرئيس، والتي كان من أكثرها بشاعة تعذيب الثوار على أسوار الإتحادية على أيدي أتباع جماعة الإخوان المسلمين. ومع تحالف مرسي مع الأجهزة التي أفشلت رئاسته، بدلاً من مواجهتها، إستقرت الحركة على وجوب رحيل رئيس مرسي عن السلطة، وهو ما سعت الحركة أن يكون طوعياً، لكن عناد الرئاسة والإعتداد بكثرة الأتباع وغرور القوة قد ساهمت في تسيير الأوضاع إلى نقطة الإنقلاب العسكري في 3 يوليو 2013.

وحتى بعد الإطاحة بمرسي، لم ينح شباب 6 أبريل إنحيازهم الإنساني والأخلاقي جانباً، ورفضوا بشكل حاسم منح الفريق السيسي التفويض الذي طلبه لمكافحة الإرهاب المحتمل. وعددوا من ضمن أسباب هذا الرفض، أن عبارة “مكافحة الإرهاب” مطاطة بالشكل الذي لا يستبعد إمكانية إستخدامها لسحق الخصوم السياسيين وقمع حقوق وحريات البشر. وهذا ما حدث بالفعل في مجزرة رابعة العدوية في الشهر اللاحق، لتظل جرحاً غائراً ووصمة عار لن تُمحي من التاريخ المصري المعاصر، تلك المجزرة التي إرتقت – طبقاً لتقارير حقوقية – إلى “مصاف الجرائم ضد الإنسانية”.

إلى هنا، كان ذلك إستعراضاً موجزاً لبعض فعاليات ومواقف الحركة فيما قبل وبعد 25 يناير، وذلك – على سبيل التكرار – ليس من قبيل الادعاء بأن هذا الكيان الشبابي منزه عن الأخطاء، أو أنه تجمعاً للمثاليين والأنقياء. لكن كان الغرض إعادة تسليط الضوء على جوانب مشرقة في تاريخ حركة، يعمل الكثيرون ممن يخدمون سلطة الفساد والإستبداد أو ياتمرون بأمرها على تغييبه ومحو آثاره. إن مصر في تلك الأونة، لهى في أشد الحاجة لكل أولئك الذين يبثون روح الأمل والحلم، وكل أولئك الذين يدعون إلى المجتمع إلى كلمة سواء، وكل أولئك الذين ينشدون الرفعة والإزدهار والتحديث لمصر، والكرامة، والحرية، والعدالة لشعبها. وشباب 6 أبريل – إتفقنا أو إختلفنا معهم – جزء أصيل من تلك الفئات وعوناً لهم.