استطاع الهولندي فنسنت فان جوخ أن يأسر مخيلة مبدعي السينما، ربما أكثر من أي فنان آخر. فقد استلهم العديد من المخرجين السينمائيين لوحاته في تكويناتهم البصرية داخل أفلامهم، لكن ظل الإلهام الأكبر لهم هو إلهام الحكاية نفسها، حكاية الفنان المعذب وعمره القصير المحترق في أتون المعاناة والفن.

لماذا فان جوخ؟ ولماذا ظل المخرجون يعودون إلى حكايته وأعماله فيلمًا بعد آخر؟

تمتلك حكاية فان جوخ كل عناصر الحكاية العظيمة: الشغف، الألم، الصراع والغموض. نتوقف قليلًا عند عنصر الغموض، ففي حياة فان جوخ حادثتان كبيرتان يكتنفهما الغموض، أولهما: حادثة قطع أذنه، والثانية حادثة انتحاره/قتله. فلا تزال هناك بعض السرديات التي تشكك في حقيقة انتحاره وإن كان صوتها أكثر خفوتًا من تلك التي تتبنى انتحاره. هذا الغموض مغوٍ لأي حكاء.

نجد أيضًا أن بعض المخرجين يستخدمون حكاية أو شخصية فان جوخ كنوع من تأمل الذات أو التوحد مع هذة الشخصية الحاضرة دومًا في ذاكرة الفن كمثال ناصع للفنان المعذب. يتحقق ذلك في فيلم «Dreams» للمخرج الياباني الكبير أكيرا كوراساوا. الفيلم ينتمي لأفلامه المتأخرة ذات الطابع التأملي، والتي يستكشف خلالها أحلامه ومخاوفه العميقة. تظهر الشخصية التي تعادل شخصية كوراساوا نفسه في الحلم المعنون بالغربان، يسير داخل مناظر ريفية تبدو كما لو كانت مرسومة بفرشاة فان جوخ، ويقابل شخصية فان جوخ نفسه (يؤديها المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي) يسأل كورساوا فان جوخ عن الضماد حول أذنه فيجيبه:

بالأمس كنت أحاول أن أكمل بورتريهًا ذاتيًّا، لكنني لم أستطع أن أرسم الأذن بالطريقة الصحيحة، فقمت بقطعها وإلقائها بعيدًا.

يتضح من خلال هذا الحلم نظرة الافتتان التي يتطلع بها كوراساوا نحو فان جوخ. نرى كوراساو يحاول يائسًا أن يتبع طريق فان جوخ، في أحد الكادرات، نجد كورساوا في بداية طريق وصل فان جوخ نهايته.

يستحضر الحلم حالة من المزاج السوداوي ممثلة في أسراب الغربان التي تلتهم سماء المشهد الفاتن. وهي الحالة التي توحد بين فان جوخ وكوراساوا، فكلاهما عانى من نوبات اكتئاب عميقة. في عام 1971 ارتكب كوراساوا محاولة انتحار فاشلة إثر نوبة اكتئاب عنيفة، وهي وشيجة أخرى تربطه روحيًّا بفان جوخ.

نستعرض هنا المحاولات السينمائية الأبرز في توثيق حياة فنسنت فان جوخ التي كانت ولا تزال ملهمة لمبدعي فن السينما.


(Van Gogh (1948

https://www.youtube.com/watch?v=FrRGhYvrbbg

فيلم قصير أخرجه الفرنسي آلان رينيه، والذي سيصير فيما بعد أحد رواد الحداثة السينمائية في الستينيات في بداية مسيرته السينمائية.

يختصر رينيه السرد الفيلمي الذي يحكي حياة الفنان ويسعى لتجسيد أزمته النفسية عبر التعليق الصوتي الخارجي وشريط الصورة الذي يستعرض لوحات فان جوخ بالأبيض والأسود، خالقًا معناه عبر حركة الكاميرا والمونتاج. اختيار الأبيض والأسود لم يكن صائبًا فقد حد من القوة التعبيرية للوحات فنان كان اللون أحد هواجسه الفنية الأساسية.

يعتبر الفيلم كنواة لفكرة سرد حكاية فان جوخ عبر أعماله، والتي ستتحقق فيما بعد وبشكل مثالي في فيلم «Loving Vincent». الفيلم وعلى نحو آخر هو تدريب أسلوبي لمخرجه الذي سيتطور مع الزمن ليصنع أعمالًا بقيمة «هيروشيما حبي»، و«العام الماضي في ميرنباد».


(Lust for life (1956

الفيلم الذي أخرجه فنسنت مينيلي مبني على رواية تحمل الاسم نفسه للروائي الأمريكي أرفينج ستون، تستلهم حياة فان جوخ.

يبدأ الفيلم بتطوع فان جوخ/كيرك دوجلاس للعمل كمبشر في إقليم مناجم الفحم ببلجيكا ليكتشف حياة الفقر والمعاناة التي يعيشها هؤلاء البشر مرورًا بالمحطات الدرامية الكبرى في حياته وصولًا لحادثة انتحاره. يعكس الفيلم لنا فان جوخ كفنان ذي حساسية مفرطة وعاشق سيئ الحظ، كما يتجلى هنا أكثر من أي فيلم آخر الحس الديني الخاص والأصيل لديه.

الفيلم مصنوع بتقنية السينما سكوب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات عادة في الأفلام الملونة والملحمية. الشاشة العريضة للسينما سكوب لم تكن مناسبة لأبعاد لوحات فان جوخ التي يستعرضها الفيلم؛ مما دفع المخرج لاستخدام حركات كاميرا مجانية فقط لإظهار محتوى اللوحة.


الفيلم من إخراج الأمريكي الكبير روبرت ألتمان. يفتتح ألتمان فيلمه بمشهد لبيع إحدى لوحات فان جوخ بملايين الدولارات في أحد المزادات الفنية، ثم ينتقل إلى فان جوخ نفسه (تيم روث) ينام في حالة بائسة في غرفة متداعية في الفترة التي عمل بها مع عمال مناجم الفحم، وكأنه يضع بذلك سيرته بين قوسين: الفقر والمعاناة والنكران أثناء حياته، والمجد والتقدير المستحق بعد موته.

ما يميز فيلم ألتمان عن الأفلام الأخرى التي تناولت حياة فان جوخ هو تركيزه الشديد على العلاقة بين الأخوين فنسنت وثيو، واحدة من أغرب وأندر علاقات الأخوة في تاريخ الفن. العلاقة بين الأخوين هي أساس الفيلم، فثيو حاضر دائمًا ولا يكاد يغيب عن الشاشة في محاولة من ألتمان لفهم شخصية الشقيق الذي كان العون المادي والنفسي الوحيد لأخيه. عادة ما توحي الأفلام التي تحكي حكاية فنسنت أن ثيو شخصية مستقرة نفسيًّا ولا تعاني من أي أزمات، هنا في فيلم ألتمان نجد شخصية ثيو لا تقل مرضًا واضطرابًا عن شخصية أخيه.


(Van Gogh (1991

الفيلم من كتابة وإخراج الفرنسي موريس بيالا، والذي كان رسامًا لعقدين من الزمن قبل أن يصير مخرجًا سينمائيًّا. عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان كان عام 1991، ووصفه المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار بالفيلم المدهش.

يتجنب بيالا في فيلمه ذي النبرة الهادئة والطبيعية كل اللحظات الدرامية المهمة في حياة فان جوخ ليركز فقط عمله تقريبًا على الشهور الثلاثة التي تسبق حادثة انتحاره. ينزع بيالا عن فان جوخ هالة الفنان المعذب التي طالما وسمت الأعمال السابقة التي تناولت سيرة فان جوخ، إنه يحاول قدر المستطاع أن يصور معاناة إنسان عادي يرزح تحت إحساس ثقيل بالفشل ومخاوف عميقة من نوبات جنونه القادمة بأقصى قدر من الطبيعية وأقل قدر من العاطفية.

يخفف بيالا كثيرًا من قتامة وميلانكوليا الأفلام السابقة المصنوعة عن فان جوخ. فيلم بيالا به قدر من البهجة مفقود من الأعمال السابقة، نجده في مشاهد الأكل والجنس والرقص. فان جوخ قريب جدًّا من أبطال بيالا في أفلامه السابقة، فشخصياته دائمًا تحركها رغبة مظلمة في تدمير الذات.


(Loving Vincent (2017

استغرق العمل على هذا الفيلم ما يزيد عن 5 سنوات، وذلك من أجل إنجاز أول فيلم مرسوم بالكامل بالألوان الزيتية. اعتمادًا على أكثر من 125 لوحة من أهم لوحات فان جوخ، وبنفس تقنية الرسم التي ميزت أعماله، يحكي المخرجان دوروتا كوبيلا وهيو ويلشمان عبر هذه اللوحات سيرة الفنان.

تدور أحداث الفيلم بعد عام من وفاة فنسنت. عبر رحلة الشاب أرماند رولان لتسليم رسالة كتبها فنسنت لشقيقة ثيو قبل وفاته. نكتشف تفاصيل حياة وملامح شخصية فنسنت مسرودة من وجهات نظر متعددة للشخصيات التي عاش بينهم أيامه الأخيرة ورسمهم في لوحاته.

يلقي الفيلم بظلال من الشك على حادثة انتحاره ويجعل من مقتله إمكانية واردة. لا ينحاز الفيلم لوجهة نظر محددة بشأن حادثة وفاته الغامضة. الفيلم أشبه برحلة مدهشة في معرض للوحات فان جوخ وقد دبت فيها الحياة. فيلم مصنوع بقدر هائل من الشغف والمحبة لهذا الفن الملهم.


(At Eternity’s Gate (2018

الفيلم من إخراج الرسام والمخرج جوليان شنابل، ومن كتابة شنابل، وجان كلود كاريير. يتناول العمل الأعوام الأخيرة في حياة فان جوخ. يختار شنابل أن تكون الكاميرا هي عين الشخصية، فكل شيء مرئي من وجهة نظر شخصيته الرئيسية موحدًا بذلك بينها وبين المشاهد. وهذا الخيار الأسلوبي يرجح رغبة شنابل في أن يأسر رؤية فان جوخ للعالم مثلما حياته عبر شريطه السينمائي.

ينجح شنابل إلى حد بعيد في تأطير حالات العزلة والوحدة التي يعيشها فان جوخ والتعبير بصريًّا عن الرؤية المضطربة والمشوشة له أثناء نوبات مرضه. يتبنى الفيلم نظرية مقتل فان جوخ وليس انتحاره. الفيلم يعد إضافة حقيقية للسينما التي تناولت حياة فان جوخ مع أداء مدهش من الممثل الأمريكي وليم دافو كأحدث تجسيد سينمائي لهذا الهولندي المعذب.