الزمن..بطيء جدًا لمن ينتظر..سريع جدًا لمن يخشى..طويل جدًا لمن يتألم..قصير جدًا لمن يحتفل

قليلة هي الأعمال الفنية المصرية التي تترك ندوبها في قلبك، خاصة مؤخرًا حيث الأعمال المكتوبة لدى ترزية الدراما لفنان بعينه، قليلة هي الأعمال التي تجبرك على الإحساس والتفكير والشعور باضطراب قلبك بين ضلوعك من فرط الانفعال، قليلة هي الأعمال الفنية المصرية التي من الممكن أن تغير الواقع، تغيره بقسوة صادمة وباستعراض الحقائق المروعة، وبجمال فني واحترافية درامية، قليلة جدًا هي الأعمال الفنية المصرية التي تشبه مسلسل ستين دقيقة.

رجل وامرأة

المسلسل يدور حول رجل وامرأة، المرأة محكوم عليها بالإعدام كونها قتلت الرجل الذي هو زوجها، ياسمين التي تقوم بدورها ياسمين رئيس زوجة تقف بملابس الإعدام الحمراء في انتظار تنفيذ الحكم عليها لقتلها زوجها الطبيب النفسي أدهم نور الدين، ولكنها تطلب من هيئة تنفيذ الحكم طلبًا أخيرًا هو أن يطلقوها من زوجها الميت، وفي خلال تباحث المسئولين حول طلبها تدور تسع حلقات نعرف من خلالها لماذا قتلت ياسمين زوجها، ولماذا تطلب الطلاق منه وهو ميت.

المسلسل صناعة رجل وامرأة، الرجل هو المؤلف محمد هشام عبية، الذي كتب تسع حلقات من الصدق الدرامي والحياتي الذي يدعوك للبكاء من فرط الحساسية، البكاء من فرط الذكاء والاحترافية والصدق، تبكي لأنك تشاهد عملاً فنيًا جميلاً وقاتمًا ومحكمًا، وتبكي لأن من صنع هذا العمل الذي ينتصر للمرأة ويستعرض أدق أسرارها المسكوت عنها والتي يظن المجتمع الذي يدفن رأسه في الرمال بإصرار مدهش أن هذه الأسرار “حوادث فردية” ويردد كالمعاتيه كليشيهات محفوظة فقدت معناها وأصبحت إفيهات من فرط ابتذالها كالكليشيه الشهير “إيه اللي وداها هناك” أو “إيه اللي سكتها كل ده”، من كتب هذا العمل هو رجل.

المرأة هي المخرجة الذكية التي وصلت إلى أنضج حالاتها الفنية مريم أحمدي والتي لم تكن أعمالها السابقة -رغم جودتها النسبية- تنبئ عن هذه الموهبة الفذة، مريم أحمدي استطاعت أن تترجم الكتابة المذهلة التي كتبها عبية إلى صورة أكثر إبهارًا فخرجت لنا بعمل حقيقي وصادق وقاتم ويستحق مكانة مميزة بين الأعمال الفنية التي سوف يشار إليها ويقال هذا عمل مهم يجب أن نضعه نصب أعيننا ونحن نصنع الدراما، نجحت مريم أحمدي في كل تفاصيل العمل بداية من اختيار الممثلين وتوجيههم، إلى الحفاظ على إيقاع الحلقات، وحتى أماكن التصوير وزوايا الكاميرا وفلاتر الإضاءة، كان كل شيء محسوبًا بمهارة، مهارة حقيقية تجعلنا نفخر بها تمامًا.

خلطة تمثيلية ناجحة

المسلسل من بطولة محمود نصر وياسمين رئيس وسوسن بدر وشيرين رضا، محمود نصر وجه جديد على الدراما المصرية رغم أنه نجم سوري معروف ومحبوب، خاصة بعد دوره في مسلسل ممالك النار والمختلف تمامًا عن دوره في مسلسل دفعة بيروت، من قمة الجدية إلى نقيضها الهزلي والذي يثبت أن نصر ممثل متمكن من أدواته، وهنا في ستين دقيقة يثبت مرة أخرى أنه ممثل حقيقي، فدور الدكتور أدهم نور الدين لم يكن سهلاً، وحتى لكنته الثقيلة أحيانًا أضفت على الشخصية غموضًا ومهابة ولم تكن عائقًا كما هو من المفترض أن تكون، الأداء الجامد والبوكر فيس الذي كان يتحول في لحظات لوجه ضعيف يستجدي التعاطف أو لوجه شرير يضرم النار في ضحيته، استطاع نصر أن يجسد الشخص النرجسي السايكوباتي الذي يعاني من خلل نفسي حقيقي يجعله خطرًا على من حوله.

كانت ياسمين رئيس أيضًا مناسبة للدور رغم أنها قامت بأدوار أخرى تشبهه إلى حد كبير حتى في ملابس الشخصية، فمثلاً دورها في أنا شهيرة أنا الخائن لا يختلف تمامًا، ولكنها على كل حال استطاعت أن تؤدي دور الزوجة المتحيرة المتلاعب بها، والتي يتحرر من داخلها وحش يدمر كل شيء، خاصة في مشهد المواجهة بينها وبين سوسن بدر، وضحكتها المجلجلة فيه، هذا المشهد هو ما جعل الدور إضافة لها وليس تكرارًا لأدوار سابقة.

سوسن بدر أيضًا ملائمة جدًا، ولن نستطيع أن نقول بضمير مستريح إنها تكرر نفسها، فتاريخ سوسن بدر الفني يجعلها بالفعل قامت بكل الأدوار، فليس من المنصف أن نقول إنها تكرر نفسها، ولكن لنقل إنها استطاعت أن تحافظ على قدراتها وأن تكون قطعة البازل الملائمة تمامًا للوحة.

شيرين رضا كانت مناسبة حتى مشهد المحاكمة الذي كان “واسعًا” عليها، خالد كمال قدم دورًا مهمًا وأداءً ليس غريبًا عليه، رغم أن مساحة الدور لم تكن كبيرة ولكنه كان مضيئًا جدًا وواضحًا وفارضًا لنفسه حتى وهو صامت، عيون خالد كمال تمثل من تلقاء نفسها لا تحتاج توجيهًا من أحد.

باقي الأدوار أيضًا كانت ملائمة خاصة مروة الأزلي التي قامت بدور سوسن بدر أو الدكتورة نوال وهي شابة، استطاعت أن تتقمص روح سوسن بدر تمامًا دون أن تشعرك أنها تقلدها بابتذال، فاطمة البنوي التي قامت بدور سارة كانت موفقة ونبرة صوتها كانت ملائمة جدًا للحالة التي تقدمها.

تسع حلقات فقط؟

تخيل مؤلفًا ومخرجة يجتمعان ليناقشا خطة عمل مسلسل من تسع حلقات، تسع حلقات فقط ليواكب التطور الهائل في صناعة الدراما والذي تروج له المنصات العالمية المدفوعة، مسلسل قصير من تسع حلقات حول جريمة قتل لها أبعاد أخلاقية تتعلق بمهنة شريفة، ثم يكون مسلسلك ذكيًا بالقدر الكافي الذي يجعله في هذه التسع حلقات يناقش التحرش المسكوت عنه، والعلاقات الزوجية التي تحتوي جنسًا غير رضائي وتلاعبًا نفسيًا، الأسر المضطربة والأمراض النفسية التي ينكرها الأهل وتأثير ذلك على الأبناء، ويناقش أيضًا سكوت المجتمع عن كل هذا، مع العلاقات الزوجية التي تفشل لاضطرابات جنسية وخبرات الطفولة والمراهقة، وتكون ضربته النهائية هو المرور سريعًا على كيف يتعامل القانون مع جرائم الشرف التي تقوم بها النساء في مقابل الرجال. كم أنت صانع دراما متمكن من أدواتك لتستطيع فعل كل ذلك؟

الأمر ليس ذكاءً واحترافية فقط، الأمر في رأيي يتعلق بالصدق، الإيمان الحقيقي بعدالة القضية التي يناقشانها والذي يجعلهما يطوعان أدواتهما لينتجا عملاً قصيرًا مكثفًا وذكيًا وحقيقيًا وناجحًا، نحن لا نطلق هنا أحكامًا عامة، فردود فعل الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي تشيد بالمسلسل إشادة كبيرة، الآراء كلها تتمحور حول مدى ثقل المادة المعروضة ومدى أهميتها جنبًا إلى جنب مع الإشادة بجودة صناعة المسلسل.

الحديث عن المشكلات الجنسية في الزواج تابو مجتمعي لا يريد أحد أن يقترب منه، وإذا اقترب ترى ابتذالاً للقضية يجعلك تخجل من الدفاع عنها، هنا استعرض المسلسل ثلاث مشكلات جنسية في الزواج بثلاث طرق مختلفة، مشكلة رفض العلاقة الجنسية الناتج عن اكتئاب ما بعد الولادة، ومشكلة السيطرة الجنسية السادية غير الرضائية، ومشكلة العجز الجنسي نتيجة إدمان مشاهدة المواد الإباحية، والحقيقة أن المجتمع يعج فعلاً بهذه المشكلات، ولكننا لا نتحدث. التحرش داخل عيادات الطب النفسي أو غيرها موجود وبكثافة، في الحقيقة فإن القضاء المصري ينظر الآن بالتحديد في قضية مشابهة تمامًا لهذه الملابسات، أما الأمهات اللاتي يرفضن الاعتراف بمرض أبنائهم النفسي ويخرجون لنا وحوشًا فهم في كل مكان حولنا، كل مكان حرفيًا، على الأغلب ابنك أو ابنتك في المدرسة يجلس بجانبه الآن وحش متخفٍّ في اليونيفورم الأنيق.

الخوف والصمت وانتظار الزمن ليمر هي سمات معروفة لمجتمعنا، مجتمع يفضل أن يصمت على أن يتكلم ويضطر لأن يحل، مجتمع تحكمه قوانين تجعل الرجل يخرج من قاعة المحكمة بعد قتله زوجته مرفوع الرأس محمولاً على الأعناق إذا استطاع إثبات أنها قضية شرف، وتعدم المرأة لو ارتكبت نفس الجرم وكانت كل الإثباتات في صالحها أنها لم تكن فقط تدافع عن شرفها وشرف باقي النساء ولكنها كانت تدافع عن حياتها نفسها، كان المسلسل صادقًا وصادمًا عندما أنهى المسلسل هذه النهاية الحقيقية ولم ينجرف وراء الرومانسية الدرامية، فهذه هي الحقيقة بكل قبحها وواقعيتها، وعلينا أن ننفض الرمال عن رؤوسنا لنراها، ربما وقتها يمكننا أن نحمي من تبقى من النساء.