وجه مألوف، رجل ولد وتربى وعاش في مصر، قبل أن يغادرها ويتجول في الدنيا كممثل رحالة، قبل أن يعود لمصر بعد نهاية مرحلة الشباب ليصبح وجهًا مألوفًا للمصريين في العصر الذهبي للتليفزيون والسينما، يحمل وسامة ويتصف بحسن الهندام، ولكنه يظل وجهًا مصريًا.

انتقل ببراعة بين الأداء بالعامية المصرية، العربية الفصحى، العامية التونسية، الإنجليزية، والفرنسية. ولكننا اليوم نركز في عرضنا لمسيرته على جانبها المصري، ما تأثرنا به وعاش معنا صغارًا وكبارًا.

حصره المخرجون المصريون لفترة طويلة في أدوار الشر، لكنه لم يكرر نفسه فيها، لكل منها بصمة خاصة، كما استطاع أيضًا أن ينتقل بين الفينة والأخرى ليؤدي أدوار الخير، وأدوارًا مركبة تجمع بين الجانبين أيضًا. فوجئ الكثيرون يوم رحيله بأنه مصري 100%، كما فوجئ الشباب بشكل خاص بأنه كان مثقفًا يساريًا وحاضرًا وبقوة في العديد من اللحظات الثورية.

اليوم نرصد معكم 7 وجوه في رحلة الفنان والمثقف المصري الكبير جميل راتب.


1. نبيهالا: الديكتاتورية وفانتازيا الواقع

في فيلم البداية للمخرج صلاح أبو سيف يؤدي جميل راتب دور «نبيل بيه»، رجل أعمال وصولي، يتحول لحاكم ديكتاتوري لدولة نبيهالا. نبيهالا دولة افتراضية أنشأها مجموعة من البشر على أرض جزيرة سقطت عليها طائرتهم، شارك جميل راتب في البطولة مع أحمد زكي ويسرا.

هنا يقوم جميل راتب بدور الديكتاتور في صورته الأنقى والأوضح والأكثر ذكاءً على مستوى الرمزية، في فيلم صلاح أبو سيف الذي بدأ بتنويه يخبرنا أن تشابهه مع الواقع مجرد محض صدفة وأن أحداثه مستوحاة من خيال صناعه، فيما تخبرنا تترات النهاية بأنه أحد أفلام مخرجه الواقعية.

الديكتاتور هنا يحمل إسقاطات على ديكتاتوريات مختلفة حكمت مصر، اشتركت جميعها في استغلال الدين والسيطرة بقوة السلاح، واختلفت طرقهم في الإيقاع بشعوبهم مستغلين في أغلب الأحيان جهل الطبقة العريضة منه.

جميل راتب المثقف المنتمي للحزب الشيوعي في فرنسا وحزب التجمع اليساري بصورته القديمة في مصر، كان مدركًا بالتأكيد لصورة المجتمع الإنساني الأولي الذي عرضه أبو سيف.


2. محمد نجيب: الديمقراطية في مواجهة ناصر

في فيلم جمال عبد الناصر للمخرج السوري أنور القوادري، نرى النسخة السينمائية الأقرب للحقيقة لما حدث بين اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وبقية مجموعة الضباط الأحرار والذي نتج عنه عزل محمد نجيب عن الحكم عقب انقلاب 1952.

دور جميل راتب هنا ليس كبيرًا في مساحته على الشاشة، ولكنه مؤثر لدرجة جعلت مشهده الرئيسي أشهر من الفيلم نفسه، في مشهد المواجهة بين نجيب وناصر يصارح جميل راتب/ محمد نجيب بصوت حاسم بقية الضباط الأحرار بأن الأزمة الحقيقية تكمن في رغبتهم للسيطرة على الحكم، في رفضهم للديمقراطية وإيمانهم بالحكم بقوة السلاح.

يبدو المشهد وكأنه إعادة تمثيل لدوره في فيلم البداية ولكنه يبدل مكانه هذه المرة، فيصبح مدافعًا عن الديمقراطية بعد أن كان مهاجمًا لها وواصمًا للمدافعين عنها بالكفر. وكأن مصر تحت حكم ضباط يوليو، هي إحدى النسخ الواقعية لجمهورية نبيهالا.


3. البهظ بيه: الجوكر في مأساة الكيف

الشرير الأهم في رحلة جميل راتب، البهظ بيه، السيكوباتي منعدم الضمير والقيم والرحمة كما يصفه د. صلاح الذي قام بدوره يحيى الفني.

البهظ تاجر الكيف الذي ترقى في سلم الحياة من تجارة الشاي المخلوط بنشارة الخشب والدخان الرديء إلى تجارة المخدرات باختلاف أنواعها، يمثل خطوة جميل راتب التجسيدية الأبعد عن هيئته الحقيقية، بالإضافة بالطبع لدوره كسائق ميكروباص في فيلم عفاريت الأسفلت للمخرج أسامة فوزي.

يبني محمود أبو زيد وعلي عبد الخالق حكايتهم ذات القيمة الأخلاقية بشكل كبير على الرعب الذي يمثله البهظ بيه في أحداث الفيلم، البهظ هو الوجه المظلم لدنيا المخدرات، والذي يغري رواده في البداية بالنعيم ثم ما يلبث أن يظهر وجه الجحيم على يديه.

بنزعته الساخرة وحبه في إلقاء النكات التي يمزجها عادة مع عنف لفظي وجسدي، يبدو البهظ بيه كمعادل لشخصية الجوكر في الحكايات المصورة، ولكن بنسخة مصرية شعبية، كلاهما سيكوباتي وعنيف، كلاهما يريد تحويل خصومه لنسخه منه، كلاهما ينهى حديثه بجمل ساخرة. ستكون «لم كل هذه الجدية» في حالة الجوكر! وستكون «أنا سيكوباتي وأنت سرنجاتي» في حالة البهظ.


4. لطفي بيه: الشر الرأسمالي في مواجهة سنبل

في الجزء الأول من حكاية سنبل يظهر جميل راتب في دور لطفي بيه، رجل أعمال رأسمالي لا يؤمن بقيمة العمال ولا يفكر فيهم كبشر، يتعاطف سنبل الذي يعمل لديه كسائق من ابنه الأصغر ويتبرع له بكليته، يتنصل لطفي بيه منه عقب ذلك ويتهمه بالسرقة، ليبدأ سنبل في رحلة جمع المليون والانتقام من لطفي بيه.

بنيت حكاية سنبل إذن التي لاقت نجاحًا جماهيريًا باهرًا على علاقة التضاد بين سنبل العامل الذي لا يملك سوى عقله ويديه، ولطفي بيه الشرير الرأسمالي. مرة أخرى يقدم جميل راتب دور شرير طبقي تبرز في وجوده قيمة العدالة الاجتماعية الغائبة.


5. أبو الفضل جاد الله عويس: الأنا العليا الملهمة لونيس

مرة أخرى مع محمد صبحي وأحمد بدر الدين ولكن برفقة الكاتب مهدي يوسف، ولكن جميل راتب هنا على الطرف الآخر تمامًا، هنا جميل هو الخير والمثل العليا، الأب -أبو الفضل- الذي يستلهم منه ونيس كل ما يؤمن به، وكل ما سيستخدمه عقب ذلك في تربية أبنائه.

قدم جميل راتب برفقة ونيس دورًا ليس كبيرًا على مستوى المساحة ولكنه ظل حاضرًا طوال أحداث المسلسل بأجزائه المتعددة. أبو الفضل مثّل دائمًا الأنا العليا لهوية ونيس، جزء الشخصية الذي يدفعنا للمثالية طبقًا لنظرية فرويد، فيما يدفعنا الهو للغرائز والشهوات والرغبات المجردة، ويقف الأنا كونيس يحاول التوفيق بين الجهتين.

ونيس امتلك علاقة مميزة بوالده، لهذا يبدو قريبًا جدًا من الأنا العليا، ولهذا ظل يحاول في دفع أبنائه للتماهي مع نفس القيم، ونفس الكود الأخلاقي، حتى لو بدا قد عفا عليه الزمن.


6. الدون جيوفاني: خليط الحب والرعب من الأب الروحي

قد تبدو شخصية دون جيوفاني دولورينزي في «زيزينيا» أسامة أنور عكاشة، مستوحاة بشكل كبير من شخصية دون كوليورني من ملحمة العراب الأمريكية الشهيرة، لكن الحقيقة أن هذا الدور من أكثر أدوار جميل راتب طزاجة وتنوعًا.

هنا يقدم جميل راتب نسخة الدون الإيطالي/ المصري، في مقابل المرعب مارلون براندو في نسخته الإيطالية/ الأمريكية. نحن هنا لا نقارن بين النسختين ولكننا نوضح قدر اختلافهم، كما نعطى لجميل راتب حقه في تجسيد نسخة جديدة من شخصية مركبة.

ينتقل جميل راتب/ دون جيوفاني ببراعة شديدة بين جانب شديدة القوة والهيبة، رجل قوي وحكيم لا يتردد في استخدام العنف في إدارة شئون أسرته وعمله، وبين جانب أبوي شديد الطيبة في تعامله مع ابن اخته بشر صاحب النصف المصري والنصف الإيطالي، وبين جانب شديد الرومانسية في تعامله مع علاقاته النسائية.

هنا نرى رونق جميل راتب، ثقافته الغربية، مختلطة مع روحه المصرية، في التجسيد الأهم لشخصية أوروبية سكندرية في الدراما التليفزيونية المصرية.


7. د. مفيد أبو الغار: المثقف الأرستقراطي يدافع عن الجمال

الدور الأهم في جانب الخير في رحلة جميل راتب، جميل هنا يؤدي بسلاسة الشخصية التمثيلية الأقرب له، رجل أرستقراطي وسفير سابق يعود ليسكن منزله القديم ليدافع عن ما يمثله من قيمة فنية وتاريخية ضد هجمة الخواء والقبح التي احتلت مصر والتي لا زلنا نعيش تحت حكمها حتى الآن.

في مسلسل الراية البيضا يرصد أسامة أنور عكاشة تركز المال في يد طبقة من الجهلة شكلت غالبية الأغنياء الجدد، لم يعد التعليم وسيلة للترقي الطبقي وأصبحت الفهلوة والسبوبة هي الطريق الأسهل لجمع المال.

تمثل فضة المعداوي/ سناء جميل هنا الشر والقبح والهمجية، ويدافع د. مفيد/ جميل راتب عن قيم الحق والخير والجمال. مسلسل أنتج في نهاية الثمانينات ولكنه لازال حاضرًا بقوة في حياتنا اليوم، مع تصدر القبح للمشهد وتخلص مصر يومًا بعد يوم من تراثها وما تبقى بها من حق وجمال.

د. مفيد أبو الغار هو نصير الثوار المهزومين أيضًا، فجميل راتب الذي حذر ثوار يناير من ترك الميدان في فبراير 2011، هو نفسه د. مفيد الذي هون على صحبته حينما رفعوا الراية البيضاء، فقد حاولوا قدر استطاعتهم، ولم يرفعوها إلا مرغمين.