تاريخ طويل للسينما الفلسطينية وللمخرجين الفلسطينيين، سواء داخل أو خارج الأراضي المحتلة، بعضهم كرَّس حياته للقضية والبعض اتجه لنوع آخر من السينما، الترتيب في القائمة التالية لا يعني التفضيل، فالقائمة لا تخبرك من هو الأهم أو الأفضل، لكنها تحاول أن تكتشف معك المشهد السينمائي الفلسطيني.

1: الأختان جاسر

السينما غنية بسلسلة من الإخوان الذكور بين عظمائها, منذ الأخوين لوميير وحتى الأخوين روسو، وفي فلسطين يوجد الأخوان ناصر (عرب وطرزان)، والأخوان لاما؛ يعتبر الأخيران مؤسسين للسينما الفلسطينية. كل هذه الأخويات قلما نجد بينهم إناث كما في حالتنا هذه، وآن ماري جاسر هي حالة مفردة بالتأكيد، مثل كريستوفر نولان، الذي لا يحق لنا إضافة جوناثان نولان ومسلسله العظيم إلى مجموع إنتاجه الإبداعي. ولكن لا أستطيع الحديث عن واحدة دون أخرى، وكلتاهما مكملتان بعضهما لبعض بصورة أو بأخرى

كل فنانة منهما أبدعت في الصورة على طريقتها الخاصة؛ تبني آن ماري جسورًا للتواصل مع المجتمع العربي لتذكيره بأنه ترك خلفه مجتمعًا أصيلًا في فلسطين. قدمت في فيلمها الأهم (واجب) رؤية فكاهية عن واقع من المضحكات المبكيات، هي تتناول الصراع، ولكن كأثر جانبي، ذكرني بمشهد امرأة فلسطينية ريفية بسيطة، أثناء هروبها من القصف الصهيوني، حرصت على شراء بضع دجاجات بسبب فارق التسعير بين المنطقة المهجورة من أهلها، والمنطقة الأكثر أمانًا، هناك تباع بسعر أقل. تعد آن ماري جاسر واحدة من المخرجات البارزات والفاعلات فيما يعرف بالسينما الفلسطينية الجديدة، إلى جوار مي المصري، جاكي سلوم، علا طبري، عزة الحسن، لينا العبد، دانا أبو رحمة، هند شوفاني، ميسلون حمود، دارين سلام، نجوى نجار، ابتسام مراعنة، مها الحاج أبو عسل، وربما يمكن أن نضيف إليهن شيرين دعيبس وهيام عباس، وحتى رونيت القبص، وسهى عراف. من الجدير بالذكر افتتاح صفحة على الفيس بوك بعنوان (هي في السينما) تتناول في سلسلة من الحلقات مخرجة أو اثنتين في كل حلقة. وإن كانت التيمة الرئيسية في الموجة النقدية الإسرائيلية، هي تسليط الضوء على المعالم الواضحة، والفاضحة لهشاشة النظام الإسرائيلي، فإن سينما فلسطين، ومختلف الفنون الفلسطينية، هي صراع من أجل البقاء، وصمود في وجه العدوان. في مشروع شقيقتها إميلي جاسر تجمع لأكبر مكتبة من بقايا التهجير القسري ومخلفات الحرب، فحتى الحجر، الذي أحزن عليه كثيرًا، يمكن استحضار روحه مرة أخرى عند البناء بعد الانتصار في الحرب، خاصة مع شيوع خبر الهدنة أثناء كتابة هذا المقال.

2. مي المصري

تتعدد الجنسيات ما بين أردنية وسورية ولبنانية، كما في حالتنا تلك، ولكن الانتماء يظل واحدًا إلى أرض فلسطين. تركز مي المصري بفيلميها التسجيليين “أطفال شاتيلا” و”أحلام المنفى” على الأطفال؛ فهم يمثلون مادة خام لم تلوثها الحياة بعد: بأمانيهم وأفكارهم وبراءتهم. تختار مي أطفالًا بسطاء، واعين لما يحدث حولهم، ملهمين، زرعت أحداث موت أقاربهم وأصدقائهم داخلهم شخصيات قوية شديدة الإرادة. تقرر المخرجة في بداية “أطفال شاتيلا” إعطاءهم كاميرا فيديو وتخبرهم “صوروا ما ترغبونه”. تسحرهم تلك الآلة وتجعلهم راغبين بتوثيق قصص ويوميات الأشخاص في المخيم. يشعرون بقيمتهم كأشخاص وبدورهم الاجتماعي.

يحلمون بأن يصيروا مهندسي زراعة، رواد فضاء، أطباء، ورجال حدادة. ينظرون داخل واجهة الشاشة المستطيلة بالكاميرا كأنها حياة أخرى مشروع فيها كل الأشياء، وبالإمكان تحقيق الأماني بها. [صفحة هي في السينما]. وهذه إحدى الخصال الثلاث المميزة للسينما الفلسطينية الجديدة؛ أولًا أنها تتناول الصراع دائمًا وهاجس البقاء، ثانيًا هي لا تركز على الصراع نفسه بأبعاده السياسية والعسكرية، بل تعنى بالمعيشة الاجتماعية في ظل الصراع نفسه وفي ريح الحرب أو داخل السجن. وثالثًا تعنى السينما الفلسطينية الجديدة، بتصوير مشاهدها في مزيج بين الواقع والخيال، لا يكتفون بهذا فقط، بل يأتون بنماذج حقيقية فيما يشبه تمثيلهم لشخوصهم الحقيقية. لا يظهر أمام الكاميرا ممثلون محترفون, بل مجرد أناس بسطاء من العامة مثلما دأب المخرج إيليا سليمان في أفلامه.

3. إيليا سليمان

كثيرًا ما يتم المقارنة بينه وبين المخرج الفرنسي العظيم جاك تاتي؛ لأنه يملك حسًّا عاليًا في شاعريته السينمائية، أو ربما بسبب الفكاهة المفرطة والحزينة في نفس الوقت، على غرار ما قدم جاك تاتي، وباستر كيتون، وشارلي شابلن. ومثل أغلب المخرجين الفلسطينيين، هو مقل في أعماله، فلم يخرج حتى الآن سوى أربعة أفلام روائية طويلة؛ سجل اختفاء 1996، ولم يكن ذا أهمية كبيرة بالنسبة لبقية مسيرته اللامعة. يد إلهية 2002، وهو من الأفلام المبكرة التي امتازت بقوتها، ومناقشتها فكرة الاتصال بين فلسطيني من الداخل، وفلسطيني آخر من الضفة الغربية، تحديدًا رجل وامرأة، يمنعهما الحاجز عن الالتقاء.

قبل أن يأتي المخرج هاني أبو أسعد بفيلمه عمر ليعرض تقريبًا فكرة مشابهة. ثم الزمن الباقي 2009. وأخيرًا يأتي في عام 2019 فيلم (إن شئت كما في السماء)، والذي يتم ترجمته أيضًا إلى لا شك أنها الجنة، أو لا بد أن تكون الجنة. وربما جاء الاسم من وحي فيلم هاني أبو أسعد، الجنة الآن، المقتبس أساسًا من أجواء فيلم (القيامة الآن). من الجميل أن يظهر لنا الفن في صورة أخذ وعطاء.

4. هاني أبو أسعد

تحظى السينما الفلسطينية بتقدير عالمي كبير، يجعلها على قدر المنافسة مع السينما المصرية نفسها كواحدة من أهم السينمائيات في الشرق الأوسط، برغم فارق الإنتاج الضخم والظروف السياسية والاقتصادية. أشخاص مثل هاني أبو أسعد هم من يجعلون ذلك ممكنًا، بل يفرضون سينماهم على الغرب قبل الشرق. لا يقتصر الأمر على قولبة نمطية لقضية الصراع في صورة فيلم سينمائي، السينما الفلسطينية الجديدة، تحرص على تسليط الضوء، وتركيز عدسة السينما على الظروف الحياتية الصعبة والمعيشة رغم ذلك، في ظل ظروف قهرية قلما نجد شعبًا يمر بها. ليست العبرة فقط في معاناة شعب بأكمله، هناك شعوب تعاني في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. بل في القدرة والمثابرة على العطاء الفني. في فيلمه (عمر 2013) يعرض هاني أبو أسعد، لقصة حب تقليدية بين عمر وحبيبته نادية التي تقف الظروف حاجزًا بينهما، ماثلًا، بشكل حقيقي وملموس في صورة (الجدار العازل) الذي يتمكن عمر من تجاوزه يوميًّا لزيارة ورؤية حبيبته. والأسماء موحية جدًّا، وبالإضافة إلى الحب يمارس عمر المقاومة كنشاط طبيعي ويومي.

إن نادية هنا هي تكرار لهيلينة اليونان. وهي مشابهة لا تحمل أي مبالغة لو عرفنا أن الأصول العربية لأهل فلسطين ترجع إلى قوم كنعان، وهم شعب من العماليق. والحاجز هو هاجس شغل أبو أسعد في أفلامه الأخرى، مثل فيلم (يا طير الطاير) عام 2015، وهو يقدم مقاربة مماثلة تقريبًا لرؤية صاحب مانجا هجوم العمالقة عن شعب ما خلف الأسوار (هم شعب فلسطين في عالم موازٍ) والذي يستحق مقالة خاصة به.

5. ميشيل خليفي

إلى جوار آن ماري جاسر، نجوى نجار، رشيد مشهراوي، هاني أبو أسعد، يعد ميشيل خليفي واحدًا من المخرجين المخضرمين الذين لعبوا دورًا كبيرًا في تأسيس سينما فلسطينية من خلال الصوت الثاني الأكثر قوة في الغرب بعد سينما أمريكا الهوليوودية / الأوسكارية، والمقصود هنا سينما المهرجانات الأوروبية (برلين / فينيسيا / كان) أو العربية حتى (مثل أيام قرطاجة السينمائية)، خاصة أن ميشيل معروف بكونه رائد السينما العربية المستقلة في العالم.

ميشيل خليفة في فيلمه الجميل عرس الجليل، وحتى الاسم فيه رائحة عربية أصيلة، مثل عرس الزين، وهو من إنتاج 1987، يعرض تفاصيل عرس تحتوي فيها كل عناصر المجتمع الفلسطيني / الإسرائيلي، من خلال سرد قصة اجتماعية ممتعة، دون التخلي عن راهنية الحدث. ويمكن ملاحظة بصمات الفيلم الواضحة على فيلم واجب 2017.

6. محمد بكري

أخرج محمد بكري فيلمًا عظيمًا، هو فيلمه الوحيد، بعنوان جنين .. جنين إنتاج 2002، وهو الفيلم الوحيد في القائمة تقريبًا الذي يركز أكثر على الطبيعة العسكرية للصراع. ومحمد بكري ممثل أكثر من كونه مخرجًا.

ومثل عدد لا بأس به من الفنانين الفلسطينيين، يعمل أمام الكاميرا بنفس القوة كما خلفها. شارك في أفلام مهمة مثل صبي من الجنة، وفيلم واجب، حيث العلاقة بينه وبين ابنه محمد بكري تظهر طبيعية تدعم فكرة السينما الفلسطينية الجديدة المستمدة من واقعية المعيشة الفلسطينة. فهو ابنه في الواقع كما هو ابنه في الفيلم (شيء مثل نظرات الحب الحقيقية من عادل إمام لابنه محمد إمام في مسلسل فرقة ناجي عطا الله). يقول الناقد السينمائي القدير محمود عبد الشكور: “لا شيء يمس المتفرج مثل التفاصيل الإنسانية البسيطة، التي تستطيع من خلالها أن تقول كل شيء، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. هذا ما فعلته آن ماري جاسر كتابة وإخراجًا في فيلمها الممتع والمؤثر “واجب” من بطولة محمد بكري وابنه الممثل الشاب صالح بكري. [عين على السينما]. هذه التفاصيل الصغيرة، ما تجعل الأشياء في عيوننا كبيرة. هي تصنع عظمتها. تشبه جهاز العروسة في البيت المصري البسيط، حيث تجمعه الأم قطعة قطعة على امتداد عشرين عامًا.

7. طارق العريان

بالطبع لا تنفد منا الأسامي ليقع اختيارنا على المرشح السابع لقائمتنا، ولا يمكن أن تنفد؛ كامل الباشا، إسكندر قبطي، رائد أنضوني، رشيد مشهراوي، عماد برناط، توفيق أبو وائل، مؤيد العليان، وسامح زعبي.

يختار طارق العريان توجهًا أكثر خنوعًا وأمانًا، وإن كان غير معيب في ذلك، يتوجه بأعماله إلى هوليوود الشرق؛ مصر، ويكرس نفسه فنيًّا على المستوى البصري، إلى جوار زوجته السابقة أصالة التي كرست نفسها فنيًّا على المستوى الصوتي، للترفيه عن المواطن المصري، والعربي عمومًا، ويجدر الإشارة هنا لملحمة المقاومة الشعبية التي قدمها طارق العريان في أوبريت (الحلم العربي) الأشهر من نار على علم. شاركت زوجته في الأغنية، ومعها كوكبة من ألمع نجوم الغناء في الوطن العربي.

لاحقًا استمرت أصالة في تقديم إبداعاتها بنفس القوة تقريبًا، خفت نجم طارق العريان وتجاهلته القضية كما تجاهلها، لكنه لا زال يحتفظ بطابع بصري قوي، وتسلسل سردي متماسك الحبكة، في الأفلام المصرية التي قدمها بقيادة أشهر نجوم التمثيل في مصر حاليًّا، أحمد السقا، أحمد سعد، وغيرهم. ناهيك بالطبع عن تميزه المشهود به في إخراج الإعلانات.