ربما تكون السينما الأكثر تأثيرًا على مستواه الفني لا التجاري حول العالم، السينما بدأت في فرنسا على يد الأخوين لوميير، ومنها انتقل السحر لكل مكان في العالم، عشرات المخرجين الفرنسيين المؤثرين تاريخيًا، لكننا نختار هنا 7 منهم، الترتيب في القائمة التالية لا يعني التفضيل، فالقائمة لا تخبرك من هو الأهم أو الأفضل، لكنها تحاول أن تكتشف معك المشهد السينمائي الفرنسي تاريخيًا.

1. هنري جورج كلوزو

يهيئ لي أن لفظة كلوز أب Close Up المعروفة في التصوير السينمائي بمعنى التقريب والمشابهة للقطة الزوم Zoom، أن أصلها اللغوي اشتقاقًا عن اسم المخرج كلوزو Clouzot. وكلوزو يلقب بـ هيتشكوك السينما الفرنسية لما تحمله أفلامه من إثارة وتشويق حارة وحادة حتى اليوم، وغير مسبوقة، وهو ما يمكنه بالنظر له عده -إضافة إلى اعتباره أعظم مخرج في تاريخ السينما- ضمن أهم مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، وإن كان لا يحسب من عرّابيها أو المنظرين لها (إلا بواسطة أعماله وليس نقدياته). ولم يعهد الفترة نفسها، من حيث الاشتغال الفني وليس الزمني، بل يصنفه النقاد والمؤرخون ضمن آخر المخرجين الكبار في مرحلة ما قبل الموجة الفرنسية الجديدة، وهو ما اختلف معه لثلاثة أسباب تخدم علة واحدة؛ الأول لا ضير من اعتبار ما قبل ضمن فترة التأسيس، وبالتالي يُحسب كلوزو على الموجة الفرنسية الجديدة مثله مثل روادها، وثانيًا لأنه لا يشكل مجرد مرحلة سابقة مثل جان رينوار Jean Renoir على سبيل المثال إيذانًا بمرحلة جديدة، بل تخدم أفلامه نفس القاعدة التأسيسية التي بُني عليها توجه الموجة الجديدة في فرنسا، مثل روبير بريسون. وثالثًا لأنه عايش هذه المرحلة الفنية وأحاط بها في سنوات عمره فشملها من قبلها وأثناءها وبعدها.

وتنصهر الأسباب الثلاثة في أفلامه التي تنبثق عن نزعة واضحة نحو الحداثية / التجريبية / الغرائبية وكل مسميات العصر الحديث. أفلامه وإلى حد كبير تسير على نفس الوتر الحساس من أفلام الإثارة الذي انتهجه مخرجون أمريكيون كبار مثل ألفريد هيتشكوك، أورسن ويلز، بيلي وايلدر، جون هيوستن، ما يوضح حجم تأثيره على مسار السينما الفرنسية الباردة كشقيقتها في السينما البريطانية.

ونستعرض ثلاثة أعمال أساسية له؛ الغراب 1943 حول بلدة فرنسية ومجموعة من الرسائل مجهولة الاسم يتلقاها مواطنو البلدة، والرسائل تحتوي على فضائح طبيب يعمل على إجهاض النساء الحوامل، تتصاعد الأحداث وصولًا إلى أعمال عنف. أجور الخوف 1953، حول منطقة ما، كأنها جزيرة معزولة من الفقر (مع أنها ليست جزيرة) والحاجة إلى المال التي قد تذهب بأرواح الفقراء، وبالفعل مات جميع أبطال العمل. هذا واحد من أكثر الأفلام التي صدمتني في حياتي. وديابوليك أو الشياطين 1955، الذي يجري تصنيفه عادة كواحد من أقوى أفلام الإثارة والرعب، وقد قيل إن هيتشكوك نفسه كان ليخرج الفيلم (المأخوذ عن رواية فرنسية) لولا أن كلوزو ما قصر فيه، والفيلم هو ذروة التيار التصاعدي في الأحداث والأخاذة إلى نهاية تعد حتى اليوم واحدة من أقوى النهايات الصادمة في تاريخ السينما، عن مؤامرة قد تبدو نمطية بعض الشيء اليوم، ولكنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت. بل ولا تزال تتفجر بعض إمكاناتها في الحبكة المسحورة والعلاقات العاطفية الثلاثية المعقدة. قصة عن اتفاق العاشق مع عاشقته للتخلص من زوجته.

2. جورج فرانجو

يمكن تصنيفه كمخرج رعب ترك علامة بارزة في تاريخ السينما الفرنسية، مسألة إدخال الرعب في صور سينمائية تتسم بالواقعية هي في حد ذاتها فكرة متمردة على الواقع. والرعب عند فرانجو يكمن في الواقع نفسه، ومن خلال تصوير الواقع (شبه السريالي) قدم ثلاث روائع سينمائية؛ المسلخ 1949، عيون بلا وجه 1960، الليالي الحمراء 1974، من الأكثر أهمية إلى التالي في الترتيب الزمني. عجيب أمر هؤلاء المخرجين المحملين بشحنة من الإبداع تكاد تنفذ في أعمالهم المبكرة وتستمر بقايا هذه الجذوة في الأعمال التالية.

يقول الناقد الكبير آموس فوجل عن فيلم المسلخ:

فيلم تسجيلي عن المسالخ في باريس، وهو إحدى التحف العظيمة في السينما التدميرية. هنا نجلس وجهًا لوجه أمام الموت .. لا شيء يحمينا ولا وهم ينقذنا. إنه لا يشبه أفلام هوليوود التي تعرض لقطات لجزار يرفع فأسه عاليا ليسحق رأس حصان ثم فجأة تدخل لقطة اعتراضية تخفي ما يحدث بعد ذلك. هنا تمكث الكاميرا بشكل موضوعي ووحشي مع الحدث، إنها تصوره كاملًا لكي تشركنا في الجريمة رغم ذعرنا وانصعاقنا. أثناء تحديقنا في هؤلاء (القتلة بلا كراهية) -على حد تعبير بودلير- المغمورين بالدم. تحيط بهم الإفرازات والسوائل بينما يذبحون الحيوانات ببرود وبلا مبالاة، في هذه الأثناء نتعلم كيف نرى، وبعد ذلك ربما نشعر بما لم نشعر به من قبل. العنف هنا ليس خياليًا ولا مدغدغًا للمشاعر، إنه خطير وحقيقي. الخاصية التي تحمل طابع الحلم تخترق واقعية الصور القوية والحادة. والمعنى أو الغرض السريالي -المماثل لشق بونويل مقلة عين المرأة في (كلب أندلسي)- قابل للإدراك والتمييز في هذا الفيلم المضاد للبرجوازية. غير أن مقلة العين -رغم فظاعتها وما أثارته من صدمة- كانت خيالية، أما المسلخ فهو واقعي. إنه يرغمنا على التحديق في موت موجع ودنيء، وبتفصيل شنيع، لكائن آخر.. وبالتالي يدمر حالة الوعي الاعتيادية لدينا ويكشف لنا آفاقًا أوسع. فرانجو فنان ملتزم، مناضل، أخلاقي .. يريد أن نرى ونتأمل جميع المجازر التي يرتكبها أولئك الذين نستأجرهم ونستخدمهم لتأدية أعمالنا القذرة البغيضة، بينما نجلس أمام مائدة نظيفة وننكر اشتراكنا في الجريمة.
السينما التدميرية، ص 196، 197، ط دار الكنوز الأدبية

3. جان روش

بصفتها المدرسة الإخراجية الأكثر أهمية وتأثيرًا في تاريخ السينما، حظيت بالكثير جدًا من التنظيرات النقدية التي تعيد صياغتها وتصورها وتصنفها إلى مراحل وأجيال ضمن الفترة الزمنية ما بين عامي 1958 و1962 أو 64، والتي يمدها البعض إلى عام 1975، فهناك ما قبل الموجة السينمائية، وما بعدها. وحتى خلال الخمس سنوات المتدفقة فيها الموجة الجديد،, تم تقسيمها إلى أجيال. وجرى تقسيمها أيضًا إلى مذهبين بحسب الأكثر هوسًا بالسينما، ما بين مخرجين مخلصين (وهؤلاء كانوا نقاد السينما) وما بين مخرجين يميلون أكثر إلى الشكل التقليدي. أيضًا يتم تقسيمها إلى السينما التصويرية والسينما التسجيلية. كل هذه التنظيرات والتقسيمات توضع مبلغ أثر هذه المدرسة التي تتناول جميع الأشكال الفيلمية اللاحقة عليها، بل وهي أكثر مدرسة سينمائية لم يقابلني عنها أي نقديات سلبية إلا من باب عدم الالتزام بالمدرسة نفسها، وفقط انتقدها (بشكل سلبي) هؤلاء الذين لم يتقبلوا الشكل الجديد الذي صدم الجمهور آنذاك، أي إن الاختلاف حول هوية هذه الموجة، وليس في ماهيتها ذاتها. ولك أن تتخيل شدة الخلاف على تيار فني كان لديه القدرة على احتواء كل الأشكال التعبيرية التي تتيحها لنا السينما، مع أنها انحازت لأنماط بعينها على حساب نماذج سينمائية أخرى، كالتي يقدمها سيرجي آينشتاين في السينما الروسية.

ها هنا نستعرض ثلاثة أعمال أساسية توضح دور جان روش الطليعي في الموجة الفرنسية:

في الفصل الرابع المعنون…. ممارسة تقنية، نظرية جمالية يتناول فيه جماليات الموجة الجديدة عبر مفاصل أولها المؤلف وعدم استخدام التقطيع الصارخ المحدد مسبقًا وترك المجال واسعًا للارتجال في تصميم المقاطع والحوار وتمثيل الممثلين كذلك يفضل في التصوير الديكور الطبيعي ويفضل الصوت المباشر المسجل في لحظة التصوير وعدم استخدام إضاءات إضافية ثقيلة وتعد أفلام «جان روش» كنموذج أولي بدءًا من فيلم «أنا أسود» و فيلم «الهرم البشري» و«صيد الأسد بالقوس» عبر موضوعة إلغاء الحدود بين الخيال والتوثيق.

هكذا أشار الكاتب من صحيفة المدى إلى الأفلام الثلاثة التي ابتدأ بها ميشيل ماري صاحب كتاب «الموجة الجديدة… مدرسة فنية» كنماذج دالة على سينما جان روش، التي اتسمت بعناوين شاعرية كأوضح ما يدل من الظواهر على كوامن هذه الأفلام. يمكن بسهولة ملاحظة المفارقة السحرية والشاعرية في العنوان، المتسق تمامًا مع الصور التي يعرضها الفيلم؛ أنا أسود، كإعلان هادئ ولا يشعر بالخجل أو أي عار؛ أنا إنسان أسود. والهرم البشري في إشارة إلى الطبقية التي هي من صنيع البشر، وليست حكمًا إلهيًا منزلًا عليهم. والأسد الذي يتم اصطياده دون أي مراعاة للهيبة التي يبثها في وحوش الغابة.

يمكننا التعرف على الموجة الجديدة بشكل واضح من خلال إثبات ثلاث خصال مقابل نفي ثلاثة عناصر؛ تمكين المخرج (سينما المؤلف وعدسة الكاميرا) مقابل نفي سلطة النص، وتمكين الشارع مقابل إلغاء سلطة الاستوديو، وتمكين الفيلم مقابل تجاوز سلطة المشاهد. وجميع أفلام جان روش، ذات الطابع الأنثروبولوجي في العمق، تحمل هذه الخصال.

4. روبير بريسون

ثمة تعبير أصبح الآن مألوفًا، وشائعًا: السينما الشعرية، ويعني السينما التي تبتعد بجسارة في صورها عمّا هو واقعيّ، وماديّ مُتماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه، تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصّة، لكن ثمة خطرًا متواريًا يواجه السينما في ابتعادها عن نفسها .. السينما الشعرية، عادةً، تلدّ رموزًا، مجازات، ومظاهر أخرى. أيّ أشياء لا علاقة لها باللغة الطبيعية المُلائمة للسينما.
النحت في الزمن/ أندريه تاركوفسكي – أمين صالح

السينما الفرنسية عظيمة لأنها هي التي اخترعت السينما (الأخوان لوميير Lumiere Brothers / جورج ميلييس Georges Melies / أليس جاي بلاش Alice Guy-Blache / ألبرت كيرشنر Albert Kirchner)، وهي التي طورتها (الموجة الفرنسية). وفي هذا تحاذي السياق المنطقي القائل بضرورة توفر الشيء في اثنين؛ تعرف أو تحول، أو تفريعها الثالث في فلسفة هيجل عن الطريحة والنقيضة والجميعة. فلا تزال آثار الموجة الفرنسية قائمة إلى اليوم، بل ومخرج واحد فقط لم يستفد بعد من جماع إرثه، ولا شيء من ذكره. هناك مؤسسون، ومطورون، ونحن في المائة الثانية من تاريخ السينما وبانتظار المجددين.

وانطلاقًا من تعريف تاركوفسكي المنظر الكبير للسينما الشعرية، الذي يتوافق مع كل من أندريه بازان مطلق شعلة الموجة الفرنسية، وأندريه بريتون المنظر الكبير للسينما السريالية، نعرف أن الشاعرية السينمائية هي تجربة شعورية فنية بواسطة السينما، يراد بها إيصال نشوة غير مألوفة للمشاهد، من خلال الاستغراق في الذات، والانفصال عن الواقع، عبر خلق صور مشوهة وأنماط بصرية غير مألوفة أو غير مشاهدة في الواقع. يمكننا أن ندرك ذلك بشكل أكثر وضوحًا لما نعلم أن أهم فيلم قدمه بريسون، يتتبع فيه سيرة حمار، ومعاناته في أيامه السوداء وتنقله من مالك إلى آخر.

وتقدم لنا السينما الشعرية أفلامًا واقعية رمزية، وأخرى خيالية، وأفلام خيال علمي، فبرع فيها أسماء أعلام مثل سيرغي باراجانوف، أندريه تاركوفسكي، مان راي، كارل تيودور دراير. ومن فرنسا روبير بريسون، جوليان دوفيفيه، جان فيجو، مارسيل كارنيه، جان رينوار، جيرمان دولاك، وآخرين. وكل هؤلاء المخرجين على كفة، وروبير بريسون على كفة أخرى، وقد أعجبني بشدة ما قاله عنه أحد المدونين:

يُمكن القول إن أفلام المخرج روبيرت بريسون الـ13 في 40 عاماً تشكل مجمل الأعمال الأكثر إبداعًا وعبقرية من أي مخرج عرف مسيرة مهنية طويلة في تاريخ السينما. إنه المخرج الأكثر خصوصيةً والأكثر تمسكًا برأيه من بين المخرجين المهمين، بمعنى أنه كان يحاول دائماً أن يقدّم ما يريده بدقة، دون التنازل لاعتبارات تجارية أو شعبية جماهيرية أو لاعتقادات الناس السائدة حول السينما المتعارف عليها.

وفي فيلمه المهم الثاني، وكل أفلامه مهمة، بعنوان النشل Pickpocket 1959، يستعمل ممثلين من الشارع، ليس لهم علاقة بالتمثيل أكثر مما استعملهم هو لذلك، وهذه من السمات المميزة لسينما الموجة الجديدة. بخاصة المزج بين ثلاثة أفكار أساسية؛ سينما المؤلف (كاميرا في اليد وفكرة في الرأس)، وسلطة المخرج المتجلية في النزوح إلى الشارع هربًا من أي ملكية خاصة تتبع سلطة موقع التصوير (الاستوديو)، إضافة إلى الاعتماد على وجه جديد خير من ممثل متعنت. هذه الأفكار بلغت آثارها إلى العالم كله، وانتشرت شرقًا على يد الياباني ناغيسا أوشيما وغربًا على يد البرازيلي غلوبير روشا، وحتى في مصر فترة الثمانينيات على يد سمير سيف، والمخرج المصري الكبير من أصول باكستانية محمد خان. إنها سينما الفقراء كما يقال. في فيلمه الثالث المذكور هنا، بعنوان رجل هرب 1956، يؤكد إحدى الطرائق الثلاث في تصوير فيلم دون أي تكاليف؛ التصوير في الشارع، التصوير في الغرفة المغلقة، التصوير دون تصوير.

مؤخرًا تتم استعادة أفلام بريسون من خلال اقتباسات ذكية، أهمها فيلم المنارة 2019.

5. جان بيري ميلفلي

كدت أدرج كلود شابرول لولا أني أشعر وأن هناك دائمًا لا بد من توفر مخرج يصعد من خلال سينمائيات نسوية تغازل هذه الموجة المنتشرة عالميًا على المستويين السياسي والنقدي، دون كثير تأثير في المناطق والجوانب المستحقة لعملية التغيير بالفعل، ودون أي فعالية حقيقية للتغييرات المحدثة أصلًا. ربما بالتركيز على بعض السينمائيات الرومانسية التي أرتاح لها في تحيز واضح لذكورية تفترض أن يكون الرجل خشنًا أو ربما لأنها لا تلمس قلبي بالقدر المتوقع عدا ما يمكن إرجاعه إلى قائمة مئوية لأهم مائة عمل أدبي رومانسي. ومن ثم مائة عمل سينمائي رومانسي. وإذا قلنا إن الأربعة الكبار للموجة الفرنسية هم جان لوك غودار وفرانسوا ترافوا، وكلود شابرول وإيريك رومر، يمكننا بسهولة ملاحظة أن الأولين اختارا الإثارة التشويقية والأخيرين اختارا الإثارة العاطفية كتيار رئيسي يقود أفلامهما.

ولكن اتفق أهم مخرجي الموجة الفرنسية -وأثناء إعدادي هذه القائمة الصعبة والمرهقة فعلًا، كان على خاطري نحو عشرة مخرجين على الأقل؛ منهم آلان رينيه، لويس مال، وآخرين لا بد من متابعة أعمالهم واسترجاعها بصريًا وذهنيًا للوصول إلى التصور الذي أنطقه الآن- على إخراج روائع من أفلام الإثارة والجريمة، ولأن المقارنة دائمًا قائمة بين السينما الأمريكية وباقي سينمائيات العالم، وبخاصة الأوروبية، وبشكل أكثر خصوصية السينما الفرنسية، صاحبة اللغة الثانية الأكثر هيمنة -دعائيًا وثقافيًا- على العالم، وبالذات العالم الغربي، إلى جوار الثقافة واللغة الألمانية ثم الإسبانية. وبخاصة أكثر، في مجال الصورة فنجد السينما قد انقسمت إلى قطبين: المبالغات والتصعيدات البصرية على صعيد المؤثرات في طرفي العالم أمريكا واليابان والصين، مقابل السينما الهادئة أو الباردة في وسط العالم أوروبا والشرق الأوسط وأيضًا أمريكا اللاتينية. هكذا أيضًا انقسمت الصورة السينمائية المحركة دون تحريك؛ (الكوميكس أو الأدب المصور) إلى مدرستين كبار؛ الكوميكس الأمريكي يقابله المانجا اليابانية والصينية والمانهوا الكورية (وهي مدارس كبرى لحالها)، ثم هناك مدرسة الباند ديسنية الفرانس-بلجيكية، وما تبعها من قصص مصورة نشرت في مجلات العصر الذهبي للكوميكس العربي؛ سمير وماجد وأسامة والسندباد.

حتى في الأدب نستطيع أن نميز بين رعب كليف باركر (رغم أنه إنجليزي) ورعب كافكا الصادم رغم ابتعاده تقريبًا عن وجود أي وحوش في قصصه. ورجوعًا إلى السينما الجرائمية، التي نشهد تنويعات ممتازة لها في السينما الأمريكية (انظر مقالنا: أهم سبعة مخرجين في تاريخ السينما الأمريكية) لولا انشغالنا بتصوير ملامح الموجة الفرنسية، وأهم ملمح فيها هي الصدمة، بالتالي تشارك الأفلام الجرائمية في تدشين هذه المدرسة، فالجريمة هي أكبر صدمة للمجتمع. الأكثر صدمة هي جريمة يتم تحقيقها لهدف نبيل.

في فيلم جيش الظلام، لا يصور المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازية والحكومة الفاشية كشيء جميل، بل يجري كل شيء في أجواء قاتمة يصبح اللبس حاضرًا في التمييز بين الانتحار والإعدام. والانتحار يغدو خيارًا نبيلًا أو قذرًا، لا نعرف الفرق، حين قدمه في فيلم الساموراي، ويعيد ضبط البوصلة نحو قبلة الشرطي في فيلم بنفس الاسم بعد خمس سنوات. وفي الدائرة الحمراء يعيد إلينا ذكريات عن فيلم المشبو، المقتبس أساسًا عن إحدى أفلام آلان ديلون البطل المفضل لجان بيري. ففي سينماه، وبمساعدة ممثلين كبار من وزن آلان ديلون ولينو فنتورا، يقدم ميلفلي سينما جرائمية بامتياز، وبغرابة لا تقل غرابة عن سينما جون بيير جونيه (آخر محدثين الموجة الفرنسية)، وبقسوة أشد ضراوة من سينما المافيا الأمريك-إيطالية وقد تكون أكثر قسوة من سينما تارانتينو الذي لا يخفي تأثره بعراب الموجة الفرنسية تروفو، والأخير لا يملك إلا أن يعترف بفضل عراب سينما الجريمة هيتشكوك مثل اعتراف تارانتينو بسينماه. في عوالم ميلفلي الجرائمية، الجميع مهمون ومؤثرون، ولا وجود لذلك البطل الخارق الذي يأكل ثلاثة ضباط شرطة على الإفطار أول ما يصحو من النوم، هنا، الشرطي يتميز بنفس القدر من الذكاء، والقسوة، والمهارة، والجرأة، التي يتميز بها القاتل المحترف. وربما حتى هناك مبادئ تكون أخلاقيات كل من الطرفين. وفقط الظروف هي ما تصنعهما وهي التي تحدد مساراتهما، وغالبًا الكلمة الأخيرة قد تكون لها.

6. جان لوك غودار

مع بدايات القرن العشرين ظهر ما يدعى بإشكاليات الحداثة وما بعد الحداثة ومن الطبيعي أن تلقي هذه المفاهيم بظلها على السينما بوصفها أحد أنواع الفنون، فانقسمت السينما إلى شكلين رئيسيين؛ الشكل الأول: عامل السينما كفن واضح المعالم وواضح القواعد وهو الشكل الذي اعتبر السينما أسلوبًا للسرد السينمائي مستخدمًا القواعد المتبعة ـ والأمر لا يخلو من التجديد عند غودار بالذات- للتصوير السينمائي، وهو التيار الذي بقي على قيد الحياة حتى هذه اللحظة. ولكن التيار الثاني جاء ليستخدم السينما كشكل للتعبير عن اتجاهات فنية سابقة للسينما باعتبار أن السينما ليست مجرد وسيلة لعكس الواقع بل هي فن، فظهر عديد من الأفلام التي لا قصة فيها ولا سردًا ولا ممثلين بل هي عبارة عن تجارب لونية تشكيلية تستفيد من قدرة السينما على الوهم بالحركة. وهذا التيار، وإن لم يكن بقوة الاتجاه الأول ولم يثبت استمراريته، ولكن أثبت أن السينما ليست سوى مزج بين هذين التيارين.
على العموم نستطيع القول إن هذا الاتجاه، أي الثاني، تشكل من ثلاث مدارس أدبية فنية حديثة، أولها التعبيرية الألمانية وأسفرت عن فيلم «عيادة الدكتور كاليغاري» والمستقبلية الإيطالية (الفيلم الهولندي القصير الجسر) ثم السوريالية التي أظهرت موقفًا متأنقا تجاه الثقافة مما يجعلها تقف موقف الضد من الحركة الدادائية، حتى لو أراد بريتون وأتباعه. إذا جاءت الحركة السوريالية أساسا لتأويل الثقافة والمثقفين والحركات الفنية (وحتى العلمية) وفقا لمفاهيم السوريالية باعتبار أن قياديي الحركة الثقافية التاريخية برمتها ـ على شاكلة فرويد وشكسبير وماركس أيضًا ـ هم سورياليون، لكنهم لم يكونوا يعرفون ذلك. ويرى البعض أن لحظة التقاء لويس بونويل مع سلفادور دالي وأندريه بريتون ليخلقوا التيار الشهير، الذي عرف فيما بعد بالتيار السوريالي كانت أهم لحظة من لحظات ذلك الزمن. لأن التيار السينمائي السوريالي انحسر مبكرًا وهو لم ينجب سوى سينمائي واحد هو لويس بونويل، الذي حقق فيلمين أحدهما كان سورياليًا أصيلًا (كلب أندلسي1) والثاني شبه سوريالي وربما كان سورياليًا شكلًا وليس مضمونًا ليؤكد انتصار الشكل السينمائي الذي جاء معبرًا عن الحياة والواقع والإنسان لأن فيلم «العصر الذهبي2» جاء سورياليًا شكليًا ولكن في مضمونه جاء محملًا بأفكار ثورية أصيلة.

وقد أغفل الناقد هنا الإشارة إلى دور ألفريد هيتشكوك الذي كان ترافوا، تلميذًا له ومتأثرًا به هو وشلته من مخرجي الموجة الفرنسية باعتراف ترافوا نفسه الذي أعد لقاء تلفزيونيًا يوثق فيه هذا الاعتراف تلاه بكتاب يفرغ فيه حواره مع أستاذه. ومع هيتشكوك يأتي دور السينما الأمريكية، التي كانت أكثر تحررًا حتى قبل دعوة منظري السينما الفرنسية الشهيرة بالموجة الجديدة. وبالأخص الثنائي (هيتشكوك-ويلز)، مع ظهور ثلاث عبقريات سينمائية مستقلة؛ السويدي إنجمار بيرجمان، والبولندي رومان بولانسكي، والياباني أكيرا كيراساوا. وقد عمد كل مخرج منهم، وبشكل منفصل عن الآخرين، إلى التحرر من القيود السلبية الماضية في السينما العالمية، وبخاصة الأمريكية فالأوروبية، كلن على طريقته الخاصة.

وبهذا يمكننا تتبع أصول الموجة الفرنسية في شخوص بعينها، وفي السينمائيات الأمريكية والألمانية والإسبانية والإيطالية، وبالأخص هذه الأخيرة، إضافة إلى السينما الفرنسية نفسها، ودورها الريادي ممثلًا في أعمال مبكرة على الموجة الجديدة أهمها برأيي أفلام جورج كلوزو وجورج فرانجو، وبالتحديد أكثر فيلمى أجور الخوف 1953 للأول، وفيلم دماء الوحوش 1949 للثاني، والمشهور باسم (المسلخ). ثم يأتي فيلم نفس لاهث عام 1960 لغودار، وهو فيلمه الروائي الأول يحاكي فيه قصة بوني وكلايد على الطريقة الفرنسية، وهي تيمة صارت معتادة لاحقًا في السينما الناطقة بالإنجليزية، وقد سخر منها تارانتينو في فيلمه الشهر؛ خيال رخيص 1994، معلنًا عن ظهور موجة جديدة في السينما الأمريكية تعقب الموجة الفرنسية، وتجدد الموجة الأمريكية (التي أطلقها سبيلبيرغ) أو تمتد بها، وهي موجة يضع البعض عام 1999 كخاتمة ممتازة لها. علمًا أن الموجة الفرنسية أيد بعض النقاد بقاءها وتطورها، ولكن بعيدًا عن مؤسسيها الكبار، الذين باتوا يحسبون على أو ينتمون إلى مرحلة كلاسيكية الآن. بل وقد اتهم غودار أنه تعمد في آخر أفلامه إلى إضفاء غموض بلا داع عليها، وربما مرد ذلك إلى الإجهاد، فقد أخرج أكثر من مائة فيلم، ولما لم يجد في جعبته المزيد، قرر الانتحار بواسطة الموت الرحيم.

7. فرانسوا ترافوا

إعلان فيلم «Jules & Jim» عام 1962

من الطريف جدا، والمخيف، والمحزن أيضًا، أنني كلما أتمنى من الله أن يمد في عمر شخصية مشهورة من جيل العظماء، يفاجئني الزمن بموته، كان آخرهم عظيم الأدب الفرنسي (ذي الأصول التشيكية) ميلان كونديرا، وقبله سبقه عظيم السينما الفرنسي جان لوك غودار. اللهم أبقي لنا آخر فلاسفة فرنسا العظماء إدغار موران، وقد تجاوز بعمرة المائة عام (يبلغ اليوم 102 تحديدًا). على الأقل حتى أقابله أو أراسله، وأطال من عمر بولانسكي أيضًا. ورحم جان لوك غودار، الذي عاصر كل المخرجين العظماء في العصر الذهبي للسينما، أو ربما هو العصر الكلاسيكي، عصر البريطاني هيتشكوك، ورفيقه الفرنسي فرانسوا ترافوا الذي كنت أعده هو الأعلى منزلة في السينما الفرنسية، مدفوعًا إلى ذلك بقراءاتي النقدية عنه، وإن تقابل الاثنان أو توازيا أو تساويا معا. ولكن لما شاهدت أفلام كل منهما، وربما مدفوعًا بحزن حقيقي على غودار وفقدان ثروة سينمائية لن تنتج لنا المزيد، تغير رأيي ورأيت في الأخير أن جان لوك غودار هو أعظم مخرج في تاريخ السينما الفرنسية. أو ربما هم الثلاثي (كلوزو، غودار، ترافوا) معًا، أو الرباعي، والله لا أعلم فالحيرة تغلبني كما عهدت نفسي. ولكن المؤكد أن قطبي الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، بالإجماع من النقاد هما فرانسوا ترافوا وجان لوك جودار.

وأجمل ما في النقد التراكمي، هو أنه يحدد لنا ملامح ومعالم (الإبداع والاتباع) على حد تعبير المفكر الكبير أدونيس، أي الأثر والمتأثر به دون أن يكون الأخير خاليًا بالضرورة من أي أصالة. فهذه المدرسة تعد وبشهادة الجميع، الأبلغ أثرًا في تاريخ السينما العالمية طوال قرنها الأولى وحتى أثناء انقضاء القرن الثاني على ما يبدو. أحدث فرانسوا تروفو نقلة نوعية في السينما الفرنسية، مع زميلة غودار، وآخرين فيما عُرف بـ الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، التي يعد هو أحد مؤسسيها، مع غودار بالطبع. وتمثلت هذه النقلة في إطلاق مرحلة جديدة للسينما مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت مطالب هذه الحركة الفنية أن تكون السينما أكثر تحررا من أي قيود تكبل الإبداع فيها. وأُطلق عليها ببساطة اسم الموجة الجديدة وكان تأثيرها كالنار في الهشيم فانتشرت في العالم كله، وأصبح لكل بلد موجة جديدة في سينماه.

والموجة الجديدة، نؤكد مرة أخرى، غرضها هو أن تحدث نقلة جديدة، إلى مساحة أكثر رحابة في السينما، فهي مدرسة ضجرت من القيود والحدود والسدود التي أحاطت سينما هيتشكوك وكبلت إبداعه فكان يلزمه أن يعمل الكثير من الحيل الدعائية والتجارية لكي يفر بعمله من مقص الرقيب، كان هيتشكوك يصور مشاهد لا لزوم لها في نصه السينمائي، موجهًا الرقيب لحذفها -والرقيب لا يدري- مبقيًا على أكبر قطعة من الأصل. وكان ترافوا تلميذًا نجيبًا له حوار شهير مع هيتشكوك تم تفريغه في صورة كتاب حمل عنوان «هيتشكوك-تروفو». إنه يحاول مثلنا أن يتخيل قدر الإبداع الذي كان هيتشكوك قادرًا على إنتاجه وهو ذو الطاقة المتفجرة النهمة إلى مزيد من التحرر الفني. وهو ما دعاه -هيتشكوك- إلى نشر سلسلة من المختارات الأدبية تحت عنوان «ما لم يسمحوا لي بعرضه» بالتوازي الأدبي مع عرضه التلفزيوني الشهير «هيتشكوك يقدم …». لهذا وجه فرانسوا ترافوا سهام النقد إلى ركام سينمائي هائل لمعاصريه، وأفلام قائمة على التقليد فلم يستثن من نقده إلا بضع أسماء لجمالية أفلامهم، وعلى رأس هؤلاء الأعلام جان رينوار وجان فيغو وجان كوكتو (الجانات الثلاثة في القائمة الشرفية، والجانات كثيرة في فرنسا) إضافة إلى روبير بريسون.

ومثلما حدث تقريبًا لاحقًا في أمريكا بالسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات (ومن ثم إلى الألفية)، وإن كان بشكل أكثر برودة لا يتسم بالحميمية الأمريكية كما عهدنا مع شلة «الأولاد الأشقياء» التي شملت مجموعة من الطليان (بالما، كوبولا، سكورسيزي) والأمريكان (سبيلبيرغ، مايكل مان، وآخرين). مثل ذلك، قامت الموجة الفرنسية الجديدة على أكتاف مجموعة من ألمع العقول الإخراجية في فرنسا، على رأسهم بالطبع المخرج الطليعي آلان رينيه Alain Resnais الذي يصفه ناقد بوزن إبراهيم العريس بأنه «المخرج الذي كان وحده معادلًا لكل الموجة الجديدة في فرنسا في الخمسينيات والستينيات». الذي لن نذكره في قائمتنا بأكثر من هذه الإشارة المتواضعة. أخذًا بتصنيف الناقد ستيفن نوتنغهام الذي جمع فيه الخمسة الكبار في هذه المدرسة السينمائية بحسب رأيه؛ وهم جاك غودار، فرانسوا ترافو، كلود شابرول، إيريك رومر، جاك ريفيت -الأخيرين استثنيتهما أيضًا من هذه القائمة- إضافة إلى روبير بريسون, والأخير رسام مثل جان رينوار (عدل عن ذلك المجال لرأيه بأن ليس هناك ما يمكن إضافته واكتشافه في الفن التشكيلي بعد سيزان). في فيلمه العظيم 400 ضربة، يجسد حرفيًا مثلنا المصري القائل أن ضربتين على الرأس توجع فما بالك بأربعمائة. كان هذا فيلمًا غريبًا وجديدًا أسلوبًا ومضمونًا. فناهيك عن حكايته التي تسلط الضوء على معاناة صبي وبهذا يقر بأن السينما مثلها مثل الأدب قادرة على معالجة أي جانب إنساني، ذهب بعدسته الخفيفة المتنقلة إلى الشارع. ويمكننا أن نقول إن الشارع وحده كان شعارًا نموذجيًا للموجة الجديدة في سينماها الفرنسية والإيطالية وحتى في السينما المصرية حين عرفت باسم الواقعية الجديدة. فهي مدرسة تكره الزيف في بناءات جوفاء أو وجوه بلهاء. يا ليت القائمين على مسلسلاتنا الرمضانية يتعلمون. نجد تتمة (موازية) لفيلم 400 ضربة، في فيلم قبلات مسروقة. وبنفس المنطق، يمكننا أن نتخيل 451 فهرنهايت كضربات نارية ونهائية على مجتمع بالي (لاحظ التشابه في رقم/درجة الأربعمائة).

الطريف أنه وأثناء إعداد هذه القائمة، كان تروفو هو أول المذكورين بها، لولا أن قلبتها زمنيًا، ليصبح هو بمثابة آخر المخرجين العظماء -كان جودار هو آخرهم بالفعل وليس تروفو- فإن كانوا هم المؤسسين لحركة الموجة الجديدة، إلا أن أيًا من أعلام الحركة لم يكن أبلغ أثرًا من الممهدين لها منذ البداية في مطلع الخمسينيات وحتى الخمس سنوات المشكلة للحركة.

ويمكننا الاطلاع على موجز عن الموجة على «إضاءات» كتبه المدون السينمائي أحمد الخطيب بعنوان «الموجة الجديدة في السينما الفرنسية والصفع دون صوت».