حكاية أولى:

في 30 مارس 1981 قام «جون هينكلي»بمحاولة اغتيال الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان». كان هينكلي قد أصبح مهووسًا بالممثلة «جودي فوستر »التي أدت دور عاهرة صغيرة السن في فيلم «سائق التاكسي Taxi Driver» للمخرج «مارتن سكورسيزي»، يحاول «ترافيس بيكل/روبرت دي نيرو» أن يخلصها من قواديها عبر مذبحة دامية.

كان «هينكلي» أيضًا قد صار مهووسًا بالفيلم. شاهده على الأقل 15 مرة، وبعد أن فشل تمامًا في التواصل مع جودي فوستر، وتحت تأثير من «ترافيس بيكل» الذي يحاول خلال الفيلم اغتيال مرشح رئاسي يقوم «هينكلي» بمحاولة اغتيال الرئيس «ريجان» من أجل أن يجذب انتباه «فوستر» وتعبيرًا عن حبه لها. أثناء محاكمة «هينكلي» يقوم محامي الدفاع لإثبات جنون موكله بعرض فيلم «سائق التاكسي» وكان «هينكلي» واقعًا تمامًا تحت سحر «ترافيس بيكل» لدرجة أنه شاهد العرض كاملًا فاغر الفم.

حكاية ثانية:

نحن الآن مطلع سبعينات القرن الماضي، مثالية الستينات، نشوة الجنس والمخدرات والروك آند رول مرت كحلم عابر. شاب أمريكي في السادسة والعشرين من عمره ترك لتوه مهنته كناقد سينمائي، انهار زواجه الأول وتركته المرأة التي انهار زواجه بسببها. يعيش في سيارته غارقًا في الكحول ومدمنًا لمسارح البورن (porn theaters). يصل الليل بالنهار دون نوم. تفترس رأسه خيالات مرعبة عن الانتحار، يتم نقله إلى أحد المستشفيات نتيجة إصابته بقرحة في المعدة وحين يتحدث مع ممرضته يكتشف أنه لم يتحدث مع إنسان منذ أسابيع.

هنا يضربه إلهام مفاجئ: «كنت أشبه بسائق تاكسي يطوف ليل المدينة في هذا التابوت المعدني، محاط دائمًا بالناس لكنه وحيد تمامًا». هذا الشاب هو الكاتب والمخرج الأمريكي «بول شريدر» الذي سيكتب تحت تأثير هذا الإلهام وفي 7 أيام النسخة الأولى من سيناريو فيلم «سائق التاكسي» فيما يشبه طقوس طرد الأرواح الشريرة التي تسكن رأسه. بعد خمسة أعوام وتحديدًا في 30 مارس 1981 كان «شريدر» يستقل تاكسي في نيو أورليانز بينما الراديو يذيع خبر محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس ريجان على يد هينكلي. «شريدر» سيخبر سائق التاكسي حينئذ: هذا واحد من أبناء سائق التاكسي (مشيرًا إلى فيلمه).

في ظني تمثل الحكايتان السابقتان مدخلًا مناسبًا لتقديم واحد من أكثر الشخصيات السينمائية إثارة للجدل، وربما مجرد فخ لاستدراجك لقراءة هذا البورتريه السينمائي لشخصية «ترافيس بيكل» بطل تحفة سكورسيزي/شريدر المتوجة بسعفة كان عام 1976.


ترافيس بيكل: الرجل الأكثر وحدة في هذة المدينة

ترافيس العائد من فيتنام، يهيم على وجهه كحيوان جريح في ليل نيويورك المحتشد بالرغبات دون نوم. المدينة التي كان لها أن تستقبله كبطل تتجاهله تمامًا. ماضي ترافيس مجهول تمامًا بالنسبة لنا، لا نعرف ماذا جرى له في فيتنام أو في حياته من قبل.

أول ظهور لترافيس في لقطة قريبة حيث تنعكس المدينة في عيني ترافس وحيث نغمات الأحمر (لون الرغبة) تتراقص فوق وجهه. لحركة كاميرا «سكورسيزي» المبطئة، وصوت ترافيس الذي يأتينا من خارج الكادر مع موسيقي برنارد هيرمان، أثر منوم (hypnotic). في هذه اللحظة يتسلل ترافيس تحت جلدك وتستعير عينيه تمامًا.

في عشرينات القرن الماضي زار الشاعر الإسباني «لوركا» نيويورك وكتب هذا الشطر الشعري: «هذا ليس شارعًا إنه الجحيم».

مثل «تشارلي/هارفي كيتل» بطل فيلم سكورسيزي «شوارع قذرة Mean Streets» الذي يرى «أنك لا تكفر عن خطاياك في الكنيسة، أنك تكفر عنها في الشارع»، يرى ترافيس ليل نيويورك جحيمًا حقيقيًا ومع ذلك لا يستطيع الابتعاد عنه لأن خلاصه يكمن في قلب هذا الليل. لكن من أين يأتي جرح ترافيس؟ عليناأن نذهب إلى هذا المشهد الذي تقول عنه الناقدة الأمريكية «بولين كايل»: إنه يجذب الانتباه إلى نفسه، نتيجة الطريقة التي نفذه بها سكورسيزي الذي يراه أيضًا القلب الحقيقي لفيلمه.

يصور «سكورسيزي» ترافيس وهو يهاتف «بيتسي/سيبيل شيبارد»، ملاكه الذي يحلق بأجنحته البيضاء فوق جحيم المدينة دون أن يمس. ترافيس يلح على لقائها وهي ترفضه تمامًا، هنا تتحرك الكاميرا بعيدًا عن ترافيس لتصور ممرًا خاليًا باردًا يفضي إلى الشارع. يرى الناقد الأمريكي «روجرأيبرت» أن منطق حركة الكاميرا هنا أن الكاميرا تتحاشى هشاشة ترافيس أنه فى أضعف لحظاته، والكاميرا لن تتحمل قسوة هذه اللحظة. الكاميرا نفسها التي ستصور بعين مفتوحة على اتساعها وبحركة مبطئة مذبحة النهاية.

ترى «بولين كايل» أن الحركة نفسها مستعارة من سينما أنطونيوني حيث براعته الفذة في استخدام المكان في التعبير عن الحالة النفسية لشخصياته. ترافيس هنا في قاع وحدته دون أمل في الخلاص، أقرب الناس اليه أبعد من صوت بيتسي. أنها لحظة شعرية بامتياز حيث يسمح سكورسيزي لكاميراه أن تظهر مشاعرها بحرية عكس السينما الكلاسيكية التي كانت تجاهد لإخفاء مشاعر الكاميرا. ترافيس يرغب في الاندماج مع الناس، لكنه مصاب بما يمكن أن نسميه باللعنة النفسية تعوقه من إقامة علاقة مع الآخر ورؤيته الجحيمية هي مجرد قناع لهذا العجز.


ترافس بيكل: تناقضات تمشي على قدمين

He is a prophet and a pusher Partly truth, partly fiction He is a walking contradiction

بينما يصلي ترافيس من أجل مطر حقيقي يغسل عن شوارع المدينة خطاياها، يبدو هو أيضًا غارقًا في ذات الخطايا، يغرق جسده في الكحول والمخدرات. غرفته أقرب إلى مزبلة. اعتقد أن غرفته هي مجاز عن حالته العقلية المشوشة. بينما يدمن الذهاب إلى مسارح البورن فهو أقرب ما يكون إلى كائن غير جنسي أو راهب ضل الطريقة إلى صومعته. ولم لا والمرأتان اللتان حاول الاقتراب منهما إحداهما يراها كملاك والأخرى طفلة؟

يرى بيتسي كملاك ومع ذلك يصطحبها إلى مسارح البورن وينزعج حين تتركه. يكتب في يومياته: لا أعتقد أنه على الإنسان أن يكرس حياته لجذب انتباه الناس إليه، عليه أن يكون مثل سائر الناس. بينما هذا يتناقض تمامًا مع كل ما يفعله. يخبرنا أنه لا يمانع من أن يقل السود في سيارته عكس بعض السائقين، بينما نظراته إليهم تفيض يالعنصرية. هل ترافيس إنسان معذب يبحث عن خلاصه أم مسيح يبحث عن من يمنحه الخلاص. ربما يقودنا ذلك إلى التطرق إلى تصور سكورسيزي للمسيح خلال سينماه. إذ يمكننا دائمًا أن نرى أبطال سكورسيزي في مرآة هذا التصور.

كان صنع فيلم عن المسيح حلمًا طالما راود «سكورسيزي» منذ أن قرأ «الإغواء الأخير للمسيح»، رواية «نيكوس كازنتزاكس» حيث تتشابه رؤية كانتزاكس مع سكورسيزي، كلاهما يريد أن يظهر المسيح كإنسان وليس ككيان روحي لا يعرف الرغبة ولا الخطيئة. يقول «سكورسيزي» عن فيلمه الذي يحمل نفس عنوان الرواية: «كان يجب علي أن أجعل المسيح يعاني من كل ما نعاني منه، المخاوف والشكوك والغضب».

مسيح سكورسيزي الذي يقول: «اعتدت أن أعتقد أن الرب غاضب، فهو ينقض علي كطائر جارح ناشبًا مخالبه في رأسي». هذه الرؤية تجسد أبطال سكورسيزي الممزقين بين مطالب الجسد والروح، بين الجانب المظلم السحيق داخل الإنسان وما فيه من نور. هذا الصراع لا يهدأ أبدًا إلا على الصليب. في مشهد المذبحة والمصور من زاوية علوية (عين الإله) يبدو العنف الذي يمارسه ترافيس أو يمارس ضده أيضًا مثل قربان من أجل الخلاص.


مدخل نفسي لقراءة شخصية ترافيس

I’am god’s lonely man

عاد ترافيس من فيتنام مصابًا بما يسمى كرب ما بعد الصدمة (PTSD). يمكنك أن ترى ذلك فيما يعانيه، الأرق المزمن والرؤية الكابوسية. أنه ضائع داخل رأسه وفي العالم، فهو غير قادر على التعبير لغويًا عما ألم به. وهذا الكبت الجنسي الذي يكتنفه، يخبرنا أنه على ما يبدو عاد من الحرب متشككًا في ذكورته. هذه البارانويا (جنون العظمة والاضطهاد) التي تفترسه والتي نراها في رسالته إلى والديه بأنه لا يستطيع أن يكشف لهم عن عنوانه لأنه في مهمة سرية من أجل الحكومة، وهو ما يمكن اعتباره إحساسًا بالدونية مقنع، فهو كان يطمح أن يراه الناس كبطل بعد عودته من فيتنام.

إنه منبوذ ووحيد، دائمًا يؤطره سكورسيزي وحده داخل الكادر أو مع الآخرين في أقصى الكادر كما لو كان منبوذًا داخل الكادر. كل محاولاته لإنهاء ذلك تبوء بالفشل، محاولته للتقرب من العاملة في مسرح البورن تنتهي برفضه، وكذلك بيتسي. في أحد المشاهد بعد رفض بيتسي له، يظهر سكورسيزي نفسه في الكرسي الخلفي للتاكسي، يشير إلى نافذة مضاءة ويخبره أن المرأة في النافذة امرأته لكنها تخونه وهو قاتلها لا محالة. طالما فكر تراغيس في نيويورك كعاهرة أو زوجة خائنة، في هذه اللحظة تومض الفكرة في رأس ترافيس إن عليه أن يذهب إلى الحرب مرة أخرى. الجاكيت، قصة الشعر، التدريبات، حتى أنه يرسم بسكينه صليبًا على الرصاصة كما لو كانت حربًا مقدسة.

لكن لماذا يريد ترافيس أن يستعيد تجربة مؤلمة كالحرب؟ هذا يردنا لفرويد وحديثه عن إجبار التكرار (Repetitive Compulsion) حيث على مستوى اللاوعي يسعى الفرد لاستعادة تجارب مؤلمة سواء بنفس الشكل أو على نحو رمزي من أجل الوصول إلى نتيجة مختلفة. هذه الحرب التي يذهب إليها ترافيس هذه المرة سيعود منها بطلًا، فبعد المذبحة الأخيرة لإنقاذه «أيريس/جودي فوستر»، والتي يمكن أن نعتبرها حسب فرويد عودة عنيفة (للمكبوت/ رغبة ترافيس الجنسية) واعتبار المسدس قضيبًا ذكريًا بديلًا.

تعمده الصحافة كبطل ونراه في المشهد قبل الأخير مع سائقي التاكسي في حوار حميمي كأنه صار الآن واحدًا منهم وتلك النظرة في عيني بيتسي حين يقلها إلى بيتها والتي هي بمثابة اعتذار. لكن سكورسيزي لا ينهي الفيلم هنا إنما ينهيه بلقطات للمدينة منعكسة في مرآة سيارته وبنفس النظرة التي بدأ بها الفيلم ونفس اللون الأحمر. ترافيسيمكن وصفه ختامًا مثل يصف السياب الشاعر في المدينة الحديثة: «ما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها اخطبوط هائل».