أدى قمع الرئيس جمال عبد الناصر لجماعة الإخوان المسلمين في ستينات القرن الماضي إلى هجرة العديد من قيادات ومفكري الجماعة لدول الخليج وتحديدًا «المملكة العربية السعودية» التي احتضنت الجماعة في وقت كان الخلاف بينها وبين مصر الناصرية على أشده.

الأمر الذي ظهرت آثاره على المدى اللاحق في تلاقح الفكرين السلفي الوهابي والإخواني، واليوم يبدو أن المدرستين الإسلاميتين تواجهان صدامًا غير مسبوق بينهما ولا شك أن جوانب فكرية وأخرى تاريخية تلعب دورًا في هذا الخلاف.


تيار الصحوة السعودي والإخوان «ينهلان من معين واحد»

يمكن القول إن «تيار الصحوة» في السعودية قد بدأت جذوره منذ الستينيات كذلك، واستمر بالنمو حتى الثمانينيات في أعقاب الثورة الإيرانية وصولاً إلى محطته الأهم في حرب الخليج الأولى واحتلال الكويت 1990م .

حظي هذا التيار قبل ذلك التاريخ بعلاقات جيدة مع النظام السعودي بل يمكن اعتباره في ذلك الوقت شكلاً من أشكال الفكر الرسمي المدعوم من السلطة، كما لم يكن مجرد اتجاه وعظي إرشادي وإنما عبّر عن تيار واسع متغلغل في المجتمع حوله الكثير من الأنصار.

إلا أن استعانة المملكة السعودية بالولايات المتحدة إثر احتلال الكويت مثّل نقطة فاصلة في العلاقة مع الحكومة، حيث اتخذ تيار الصحوة موقفًا رافضًا لهذه الخطوة ونظم حملة تنتقد هذا القرار، بينما اتخذت هيئة كبار العلماء موقفًا مؤيدًا للحكومة بمنحها فتوى تجيز للمملكة الاستعانة بالقوات الأجنبية معتبرة ذلك «دفعًا لأشد الضررين» عن الوطن.

استمرت هذه الموجة المتصاعدة في نقد الحكومة وتحولت محاضرات رموز الصحوة ودروسهم إلى خطب سياسية عززت من قبولهم في أوساط المجتمع السعودي، بينما وترت علاقته بالحكومة ومعها هيئة كبار العلماء.

هيئة كبار العلماء هي الهيئة الدينية الحكومية في المملكة وتضم لجنة من الشيوخ، برئاسة مفتي الديار السعودية، وهي مخولة بإصدار الفتاوى وإبداء آرائها في أمور الدولة.

ارتكز تيار الصحوة على عدة أفكار تُشكل الأسس الفكرية له، يصب معظمها في الحفاظ على العقيدة وتحصين المجتمع المسلم من أثر «التغريب»، إلا أنه كان للصحوة شقّ حركي نتيجة تأثر واضح بفكر الإخوان المسلمين الذين لعبوا دورًا بارزًا في مؤسسات التعليم السعودية. وكان على رأس هذا التيار سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر بالإضافة لعائض وعوض القرني.


الصراع على الشريعة: بين «هيئة العلماء» و«تيار الصحوة»

انتهت حرب الخليج لكن بدأت حرب أخرى داخل المملكة بين تيار الصحوة الأقوى صوتًا والأكثر تأثيرًا، وتيار آخر يُعتبر أقرب للسُلطة ويتشكل من هيئة كبار العلماء على رأسهم عبد العزيز بن باز ومحمد صالح بن عثيمين والفوزان.

وامتدت المواجهة، حيث قرر تيار الصحوة استمرار التصعيد أمام الحكومة وتوجيه النقد بصوت عالٍ مستندًا لاتساع رقعة أتباعه من جيل الصحوة، فشكل ضغطًا جماهيريًا على الدولة. انتقل تيار الصحوة من الخطابة والدروس إلى اتخاذ خطوات حركية لعل أبرزها عريضة الإصلاحات التي حدد فيها مطالبه ورفعها للملك.

الأمر الذي أثار حفيظة هيئة كبار العلماء واضطرها لإصدار فتوى تُحذر من هذه الخطوة وتعتبرها طريقة مخالفة للعلاقة الصحيحة بين الحاكم والمحكوم وتعبيرًا عن خطر قد يؤدي للفتنة من وجهة نظرها.

في المقابل غضب تيار الصحوة من موقف هيئة كبار العلماء ما أدى لتنامي مد فكري مرتبط بالصحوة يقلل من أهمية شيوخ هيئة كبار العلماء وتحديدًا ابن باز وابن عثيمين، ولم يتوقف العودة والحوالي عن إصدار الأشرطة والمطالبة بالإصلاح السياسي الداخلي.

الأمر الذي نتج عنه إيقاف الحوالي والعودة عن الدروس ومنع أشرطتهم هذه المرة من قبل الحكومة نفسها. وردًا على تلك الخطوة ظهرت (لجنة الحقوق الشرعية) التي أسسها مجموعة من الحركيين بقيادة محمد المسعري وأيدها سلمان العودة.

وهذه اللجنة تأسست للمطالبة العلنية بالإصلاح الحكومي وأحدثت ضجة كبيرة في أوساط المجتمع؛ حيث كانت بمثابة تحدٍّ علني للدولة وبداية نشوء تكتلات معارضة للحكومة وداعية للإصلاح.

كما أطلق لاحقًا سلمان العودة شريطه المشهور «حتمية المواجهة» وانهالت لجنة الحقوق الشرعية بنشر بيانات متتالية تنتقد الدولة وتؤيد الحركيين وتدعو أنصارها للحشد والمواجهة، واستمر الصراع ما بين الحركيين وهيئة كبار العلماء.

تطور الأمر إلى مظاهرات واعتصامات، وأعلنت هيئة كبار العلماء بكل وضوح وقوفها ضد ما وصفته «بالاندفاع الحركي والتهييج الخطير والإخلال بالأمن»، فيما كان يراه تيار الصحوة «دعوة حقيقية للإصلاح السياسي ورفض التدخل الأجنبي وصيحات التغريب».

كما أصدرت الهيئة بيانات وفتاوى في تخطئة رموز الصحوة ومن سار على نهجهم وجرمت مذكرة النصيحة وجعلت من لجنة الحقوق تعدّيًا سافرًا على الدولة.

وترافق ذلك مع تحركات حكومية لقمع تيار الصحوة وعزله شعبيًا واعتقال رموزه وعلى رأسهم سلمان العودة وسفر الحوالي، وهو ما تم بالفعل رغم الرفض الشعبي الذي أفشل محاولة لاعتقال العودة قبل أن يتم اعتقاله بعد ذلك ليبقى في السجن حتى 1999م.

هكذا سار التصعيد بين تيار الصحوة بمرجعيته الفكرية المتأثرة بالإخوان المسلمين وهيئة كبار العلماء ومن خلفها الحكومة السعودية.

وكانت تلك أول مواجهة حقيقية بين الاتجاهين، ولكن بعد عدة سنوات انقشعت غيوم تلك المواجهة بخروج رموز هذا التيار من السجن مع مراجعات لبعض أفكارهم بعضها كان جذريًا مثل التراجع عن الضغط على الحكومة ومعارضتها في العلن واستبدل بعضهم ذلك بمصطلح «النصح» للحكومة ومراسلتها مع التأكيد على طاعة أولياء الأمر وحُرمة الخروج عليهم.

التزم أغلب رموز هذا التيار بتلك الأفكار على الأقل في خطبهم ومؤلفاتهم فيما بعد، ورافق تلك المراجعات بعض الآراء «المنفتحة» تجاه مسائل فقهية إصلاحية تأكيدًا على منهج «الوسطية»، وظل التيار الصحوي فاعلاً على الساحة الدعوية والاجتماعية مع نزع أظافره السياسية المعارضة للحكومة.

خرجت الحكومة وتيار الصحوة من عنق الزجاجة ولكن يبدو أن آثار تلك المعركة لم تُمحى بشكل نهائي، فبعض رموز ذلك التيار الصحوي اندمجوا من جديد في نسيج المملكة ولكن بقيت آثار الأمر من فتاوى وخطب تربط بين تيار الصحوة وأزمته وبين جماعة الإخوان المسلمين وتعتبر أعمالهم خارجة عن الدين ومطالبة بالسلطة لأنفسهم وفق الرؤية الحكومية.


لماذا تم استدعاء هيئة كبار العلماء مجددًا في الأزمة الخليجية؟

استعانة المملكة السعودية بالولايات المتحدة إثر احتلال الكويت مثّل نقطة فاصلة في العلاقة مع الحكومة، حيث اتخذ تيار الصحوة موقفًا رافضًا لهذه الخطوة.

مرة أخرى تم استدعاء هيئة كبار العلماء لكن للرد هذه المرة على جماعة الإخوان المسلمين وبيان نقاط الاختلاف معها، على إثر الأزمة الخليجية الأخيرة التي تستهدف حصار قطر باعتبارها تدعم الإخوان المسلمين التي أعلنتها المملكة جماعة إرهابية قبل 3 أعوام.

بدت هيئة كبار العلماء على عهدها بمساندة الحكومة بل واستدعت عدائها القديم مع تيار الصحوة و كذلك خطاب وفتاوى تلك المرحلة في مواجهة الإخوان المسلمين التي تعتقد الهيئة أن الصحوة كانت فرعا عنها بطريقة أو بأخرى.

ورغم تلاشي تيار الصحوة نفسه وانقسامه لعدة تيارات منها التي انسجمت مع رؤى الهيئة الدينية ومن ثم الرؤية الحكومية ومنها من يلزم الصمت وينأى عن القضايا السياسية المباشرة، إلا أن الحكومة السعودية فيما يبدو قد أخذت الدرس والعبرة من تجربة الصحوة وقررت دعم رؤية دينية واحدة تعتقد أنها الأكثر طاعة ونفعًا لها.

المراجع
  1. تقرير " السعوديون يستعيدون تاريخ”الصحوة” بين مؤيديها ومعارضيها
  2. – كتاب (الصحوة الإسلامية السعودية) للكاتب سعود القحطاني
  3. – مقال (شيوخ الصحوة في السعودية.. محطات وتحولات)
  4. – (ذاكرة الصحوة) محمد الضويحي