مؤخرًا أطلقت شبكة «نتفليكس» فيلم رسوم متحركة مقتبسًا عن رواية ترنيمة عيد الميلاد للأديب الإنجليزي الأشهر تشارلز ديكنز، بعنوان «سكروج: ترنيمة عيد الميلاد» لينضم إلى عشرات النسخ المقتبسة عن الرواية.

نشر ديكنز روايته لأول مرة عام 1883م، ليتم استقبالها استقبالًا أسطوريًا وحافلًا من القراء، بشكل أثار دهشة ديكنز شخصيًا، رغم أنه نشر قبلها ثلاث نوفيلات عن عيد الميلاد، وأربعة أخرى بعدها، فإن «ترنيمة عيد الميلاد» هي الوحيدة التي لاقت هذا النجاح غير المسبوق، حتى قيل عنها إنها لم تنفد أبدًا من الأسواق منذ لحظة نشرها الأولى.

اقتبست الرواية بكثافة، سواء على المسرح في وقتها أو في السينما في بدايات ظهورها، ثم التلفاز بعد ذلك، فقد تم إنتاج قرابة الثلاثين فيلمًا ومثلها من المسلسلات، سواء العروض الحية أو الرسوم المتحركة، معتمدين على القصة الأصلية للرواية، أو حتى أفكار مستوحاة من ثيمتها. ولعل أشهر تلك الاقتباسات وأكثرهم إخلاصًا للنص الأصلي كان عام 2009، في فيلم الرسوم المتحركة الذي أنتجته ديزني، وبطولة صوتية للنجم جيم كاري، في شخصية العجوز سكروج، وبنفس العنوان.

ألهمت ترنيمة عيد الميلاد كل من قرأها حتى إن اسم البطل «Scrooge» بات مرادفًا للجشع، وفتحت أفقًا مختلفًا للاحتفال بعيد الميلاد عكس ما كان سائدًا في وقتها، وصارت قراءتها أحد طقوس الاحتفال. لامست القصة هاجسًا لدى القراء فعاشت لما يقرب من مائتي عام.

البخيل وأشباحه

تحكي القصة ليلة واحدة في حياة العجوز البائس والبخيل: سكروج. في تلك الليلة يقابل سكروج أربعة أشباح، يداعب كل واحد فيهم شيئًا من مخاوفه، هم شبح صديقه القديم مارلي، وثلاثة أشباح لعيد الميلاد: الماضي، والحاضر، والمستقبل.

كان سكروج رجل أعمال مشهورًا ببخله وجشعه وكرهه للمجتمع وعدم اعترافه بأي شيء في الحياة سوى جمع المال، للدرجة التي جعلته يكره الناس من حوله، ويردد بأنه لا حل للفقر سوى بموت الفقراء. ربما لم يعطف سكروج على موظفيه أبدًا، لم يعطهم أي إجازات قط ولا حتى في الأعياد وكأن حياتهم الخاصة خارج مكتب المحاسبة لا قيمة لها إطلاقًا، لأنهم ليسوا أكثر من آلات جمع المال.

في ليلة عيد الميلاد تظهر له الأشباح النابعة من مخاوفه الشخصية. فشبح صديقه القديم مارلي يخبره أنه ليس سعيدًا بموته لأنه لم يحب الحياة والناس كما يجب، وأنه مكبل بسلاسل من حياته السابقة التي لم يملؤها سوى الجشع.

بعدها يأخذه «شبح عيد الميلاد الماضي» إلى ذكرياته القديمة، واللحظات التي تفتت قلبه فيها، موت أمه، ثم موت أخته الجميلة فاني، ثم تركه حبيبته بسبب جشعه وانغماسه في جمع المال.

يأتيه بعد ذلك «شبح عيد الميلاد الحاضر» ليأخذه في جولة في الأجواء حوله وكيف أن الناس ينتظرون لحظات الأعياد ليقتطعوا من الدنيا بعض المرح، خصوصًا الموظفين الفقراء مثل الذين يعملون عنده، حتى لو لم يكونوا يملكون شيئًا سوى دفء الأسرة.

أما شبح «عيد الميلاد المستقبلي» فيخطفه في جولة إلى مستقبله البعيد حيث يلتف الجميع حول أحبابهم في ليالي الأعياد ويموت هو وحيدًا بلا أسرة أو حتى قليل من اللحظات السعيدة، بل ومكروهًا من الجميع.

جاءنا العيد.. للأسف

كتب ديكنز قصته تلك في ستة أسابيع تقريبًا، ونشرها في منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر عندما كانت بريطانيا تعيش في أوج العصر الفيكتوري. كان المجتمع يتغير سريعًا حول ديكينز، خصوصًا مع التحول العنيف من بلد زراعي إلى إمبراطورية صناعية عملاقة. رافق هذا التحول تحول آخر في بنية المجتمع، مع كثرة الهجرة من الريف إلى المدن أيضًا، تفككت كثير من الروابط العائلية والمجتمعية، وانسحقت كثير من الطبقات المتوسطة والعمالية تحت وطأة العمل الصناعي الجديد أو بمعنى أدق ازداد الفقراء فقرًا وازداد الأثرياء جشعًا ونهشًا فيهم باعتبارهم آلات لمضاعفات ساعة العمل ومراكمة الثروات لا غير دون أي حقوق.

في ذلك التوقيت لم يكن لعيد الميلاد تلك الأهمية المجتمعية والدينية التي يلقاها حاليًا. كانت الاحتفالات مقتصرة على الأسر البسيطة باعتبارها من قبيل العادات الريفية التي يترفع عنها السادة الأثرياء، خصوصًا بعد فترة المنع الطويلة التي طالت احتفالات الأعياد خلال القرون الوسطى وامتدت حتى قبيل العصر الفيكتوري.

بدأت الاحتفالات تعود إلى الواجهة مصبوغة بنزعة رأسمالية مع طبيعة العصر الفيكتوري، عندما تبنت الملكة بطاقات الأعياد وشجرة الكريسماس وغيرها من الزينة والألوان، دون تركيز فعلي على روح الأعياد الحقيقية أو الغاية من إيقاف الزمن فيها ومد روابط الألفة بين المجتمع بالاحتفال سويًا.

لم يكن ديكينز راضيًا عن الظروف المجتمعية المحيطة به، فقد ظل يفكر كثيرًا في كتابة خطاب سياسي يحرض فيه العمال على الثورة على تلك الظروف، ويشجب أحوال الأطفال الفقراء الذين يضطرون لترك المدارس لأجل العمل. ثم بعد زيارة إلى مدرسة فيلد لين راجيد، ورؤيته لجموع الأطفال اليتامى، قرر كتابة ترنيمة عيد الميلاد.

هواجس ديكنز

يتشابه ديكنز مع شخصياته- سواء في ترنيمة عيد الميلاد أو غيرها- فهنا تتقاطع طفولته البائسة مع طفولة سكروج، ويكاد يتطابق مع الطفل تايني تيم، نجل أحد موظفي سكروج.

كان والد ديكينز سكيرًا، ودخل الحبس أكثر من مرة قبل أن يموت. وفي الثانية عشرة من عمره اضطر ديكينز لترك المدرسة، والعمل في مصنع قذر للأحذية ليعول نفسه وأسرته. استمرت حياة ديكنز على هذا المنوال، بين الصعوبات المادية والتأرجح في الأعمال الصعبة التي لا تناسب من هم في سنه، حتى بعدما نشر عدة قصص وصار كاتبًا مشهورًا تحسنت أحواله ببطء، وواجه بعدها عدة أزمات مادية أخرى.

كذلك بطل القصة سكروج عاش طفولة بائسة تمامًا، كان أبوه قاسيًا، وماتت أمه وأخته وهو صغير، ثم تنقل من عمل إلى آخر كي يستطيع إطعام نفسه فقط. عاش حياته بثقل الوحدة في قلبه والمهانة من أرباب العمل، فصار ذلك العجوز الجشع، الذي يخاف أن يخسر كل شيء في لمحة واحدة كما خسره من قبل في طفولته. ربما كان ذلك هو هاجس ديكينز الأكبر، خسارة كل شيء والعودة إلى نقطة الصفر القاسية والكئيبة التي يقبع عندها الجميع.

يحتفي ديكينز في قصته بالأسرة وأوقاتها السعيدة، أوقات التجمع حول الطعام، وعند المدفأة وتبادل النكات والأنخاب وهدايا الميلاد. كانت تلك الحميمية هي ما افتقده ديكنز في حياته، وكذلك هي القطعة الناقصة في حياة بطله سكروج، الذي رأى الأسر تحتمي في جولته مع «شبح عيد الميلاد الحالي»، حتى لو افتقدوا الثروة التي امتلكها سكروج، لكن دفء العائلة كان رابطة تضم الجميع وتحميهم. قد يكون رجل الأعمال سكروج امتدادًا لديكنز في حياة أخرى لو سلك ديكينز نفس الطريق في العمل في حياته، وربما هذا ما دفع ديكينز للاحتفاء الكبير بطقوس عيد الميلاد والتركيز على «الروح» الحقيقية للأعياد، لأنه ظل مهووسًا دائمًا أن تأكل الرأسمالية روابط الحب بين أفراد المجتمع، خصوصًا بين أفراد الأسرة الواحدة، أو زملاء العمل الواحد، شركاء الحياة اليومية، مع تسليع فكرة الطقوس وبهرجتها بمنتجات شكلية فقط لا روحانية فيها.

كان ديكينز يخاف أن تقضي الرأسمالية على روحانية الأعياد، ترى كيف سيكون رد فعله لو تجول في المولات التجارية اليوم وقت رأس السنة!