كل من يشاهد الأفلام تمنى في لحظة ما أن يصبح بطلًا في فيلم يتحدث عن حدث بطولي ويحتفي بها، لكن من يتمنى أن يصبح بطلًا في فيلم «تيرانس ماليك» الأخير؟ 

في فيلمه «حياة خفية» يعرض «تيرانس ماليك» قصة حقيقية عن المزارع النمساوي «فرانز» الذي يعيش حياة هادئة مع زوجته وأمه وأطفاله في الريف النمساوي، تشترك الأسرة في أعمال الزراعة وتربية الأطفال، تستلم الأسرة خطاب استدعاء من قبل الرايخ للتدريب العسكري إبان الحرب العالمية الثانية. يذهب فرانز إلى التدريب وحين يتم استدعاؤه لصفوف الجيش النازي يرفض أن يقسم يمين الولاء لهتلر، وموقفه هذا لم يكن موجهًا بدوافع سياسية، لكنه موقف أخلاقي لأنه يرى الحرب شيئًا يفتقد للإنسانية، وينتهك الآخرين ويدمر الأبرياء والطبيعة.

تتعقد الأمور ويذهب (فرانز) إلى القس ليطلب مساعدته، ينصحه الأخير بالطاعة لأن الرفض لن يزيد الأمر إلا تعقيدًا، تضحية فرانز وإصراره لا قيمة لها، ستودي به إلى الموت وأسرته ستدفع الثمن. لكن (فرانز) لم يتخذ موقفه بناء على حب البقاء الفطري، لكن عملًا بالمقولة المسيحية الشهيرة «ماذا يفيد المرء إذا ما ربح العالم وخسر نفسه؟»

يُنقل (فرانز) إلى معسكر ويتعرض هناك للتعذيب لكي يتراجع عن موقفه، ثم إلى برلين لتتم محاكمته، وفي القرية تتعرض زوجته للنبذ، رحلة تشبه تضحية المسيح. في بداية الفيلم يخاطب فرانز زوجته «هل تذكرين اليوم الذي تقابلنا فيه أول مرة؟» ولا يحتاج (ماليك) أكثر من جملة كهذه وفلاش باك بسيط ليلخص قصة الحب بينهما، تلك التي تتواصل بينهما حتى مع ابتعاد (فرانز) وتعرض الزوجة للمضايقات، لكنها تستمر في التدفق، الحب لا يموت، ولا ينبغي أن نسمح بهذا. 

يا من لا تحرم الضوء، أرشدني إلى الطريق

«ماليك» مخرج شاعر يتجول في جوانب خفية من النفس البشرية، يتعمق في جوهر الأمور. في أفلامه الثلاثة السابقة حاول المخرج الغامض والمثير للجدل «تيرانس ماليك» مطاردة التطور السريع للهوية في عالم سيطرت فيه الغربة، وانتشر فيه الشعور بالضياع والتشوش العاطفي والعقائدي، وتوالت فيه هزائم الإنسانية. وفي سعيه لتحقيق هذا الأمر اعتمد ماليك على زرع الشعور بالقلق في أفلامه، عن طريق الحوارات القصيرة المرتجلة وحركة الكاميرا الدائرية والقطع المونتاجي غير المنتظم والسرد غير الخطي، لكن النتيجة أن الأفلام الثلاثة أصبحت كلها تشبه الهلوسة أو أحلام اليقظة، سقط (ماليك) في خانة التكرار وانعدام النضج وضاقت دائرة مريديه وسيطرت عليه الضبابية. 

في السينما من الضروري ألا تقوم بالتفسير، لكن العمل على المشاعر، والشعور المتولد هو ما يحفز الفكر.
المخرج الروسي اندريه تاركوفيسكي

تأثر ماليك الذي درس الفلسفة بالفيلسوف «مارتن هيدجر» حتى أنه ترجم له من قبل، حاول الرجل أن يلقي بالضوء على الإنسان في فلسفة هيدجر كائن مغترب كلما لامست قدماه الأرض تصبح هواء، يبحث عن النجاة في عالم مادي واستهلاكي. بطل الفيلم تراچيدي نهايته معروفة منذ اللحظات الأولى، مؤمن تقوده هواجسه إلى الفناء، لم يفعل ذلك دفاعًا عن عائلته أو نفسه، لم يكتب عن حياته النضالية ولم يقد حراكًا ثوريًا ولم يطلب المساندة من أحد ولا يتناول السيناريو تحليلًا نفسيًا لبطله، لم يعط الفرصة لتوضيح موقفه ولماذا يرفض الولاء، يذهب أبعد من ذلك في رحلة عذاب أبدية. 

 لماذا خلقتنا؟

متأثرًا بالمخرج الرائد «كارل تيودور درايير» يستكشف الفيلم الاختيارات التي ترسم المصائر وماذا يجب أن نقدم من أجل الإيمان، ويعكس معاناة روحية ومعضلة إيمانية شديدة، الفارق بين الإيمان الحقيقي والخير المطلق المجرد من أي رغبة في الخلود والانتصار وبين الدين الذي يطبقه البشر، الفيلم يعتبر الدين مؤسسة يتحكم فيها الإنسان، وبالتالي هي خاضعة للأهواء وقابلة للتغير والتعرض للفساد، بينما الإيمان شيء أعمق وأوسع من هذا، يعرض ماليك همه الإنساني بين (ما يجب أن نفعله) و (ما يريد المجتمع أن نفعله) في عالم شديد القسوة، يتطور ماديًا يومًا بعد يوم ولكن توازي تطوّره الروحي مع تطوره المادي قاصر جدًا. ولم يستخدم ما يجعل المشاهد يتعاطف مع بطله أو يكره النازيين، هذا الأمر جعل الفيلم أكثر كفاءة في خلق حالة من التوحد بين المشاهد والمشاعر المتناثرة طوال مدة عرضه التي قاربت الساعات الثلاثة. 

ماذا حدث لبلادنا؟

ينفذ الفيلم إلى النفس بسلاسة مدهشة وجرأة شديدة ولا يهتم بالانتصار لطرف على حساب الطرف الآخر. كل المناصرين لهتلر في الفيلم يبررون موقفهم بأنه يدافع عن بلاده ويسعى لنهضتها، ولم يقدم الفيلم أي معارك أو مشاهد حربية لتؤثر في تلقي المشاهد، ويتعرض لإشكالية التغيير والثورة، من أين تبدأ؟ وهل الموقف الفردي لشخص سيؤثر في الأمر، أم أن عجلة الحياة ستستمر في الدوران؟

 فيلم «حياة خفية» يتعرض لحياة خفية لبطل لم يتوقف عنده الزمن، عاش ومات في الظل لكنه منح البشرية سببًا أن تستمر. حياة خفية ليس فيلمًا سياسيًا أو حربيًا بالمعنى الشائع، لم يهتم بالحرب أو بصعود النازية، لكن اهتمامه يتركز على الفرد وسعيه للتصالح مع خياراته رغم شعوره بالعجز، هذا التصالح الذي ربما يتعرض المرء بسببه إلى عذاب ضخم، لكن هذا العذاب هو وسيلة التطهر والخلاص. 

تتويج مسيرة

يحتوي الفيلم على كل ما يميز سينما ماليك، الجمال والشاعرية والطبيعة، الكاميرا التي تراقب الشخصيات في حركة ناعمة من زوايا مختلفة وتقترب منهم في حميمية حتى تنقل الشعور بالقلق والشك. واستخدم الموسيقى الكلاسيكية لمنح الفيلم طابعًا روحيًا. واتبع السرد الخطي ولم يعتمد على المتاهات والسرد المتداخل كما في أفلامه الثلاثة السابقة. 

هذا الفيلم تتويج لطموح ماليك السينمائي، الرجل الذي غامر بتقديم  «A New World» ووصل لكمال أسلوبه في «The Tree of Life» وبدأت مسيرته في الهبوط في الأفلام الثلاثة التالية، يصل هنا إلى القمة، وبدون التخلّي عن شاعريته أو ملامح أسلوبه، ويقدم واحدًا من أجمل الأفلام التي قدمتها السينما. فيلم حربي عن الحرب العالمية الثانية، لكن الحرب فيه داخلية، حرب المعتقدات والشكوك وهواجس الروح، إنه يجعل الكاميرا تشعر. يمكنك من خلال حركة كاميرا، أن تشعر بتيه شخصياته وترددها. في فيلمه هذا ينأى ماليك عن الاستخدام المفرط لحركة الكاميرا كما كان مؤخرًا، يستخدم العدسة الواسعة والكاميرا المتحركة لكن بمقدار موزون جدًا يمنح فيلمه الطابع الشعري والشكل التأملي الحالم اللازم لحكايته.

التعليق الصوتي بصمة مميزة لتيرانس ماليك، يستخدمه بشكل مكثف لكنه لا يقتحم التعبير البصري، هناك تناغم مذهل بين الصورة والصوت، كلاهما يدفع الحدث ويضيء الدراما ويعزز وحدة الشخصيات، التعليق الصوتي في كثير من الأحيان يظهر كأنه همسات أو صلوات تأتي من خارج الكادر، حتى الرسائل التي يرسلها (فرانز) إلى زوجته تبدو كأنها مناجاة منه إلى نفسه وإلى الله، تعكس عذابه وحيرته وشكوكه ويكتمل هذا الشعور في الأداءات المتماسكة والتعبير بالجسد والوجه.