أذكر أن قصة الإسرائيليات أخذتني فترة، وأضحيتُ مهتمًا بها اهتمامًا بالغًا فرحت أجمع ما كُتب بالعربية فيها، بداية مما كتبه الذّهبي المعاصر صاحب التفسير والمفسرين، ووجدت كتابه في الإسرائيليات على الرغم من صغر حجمه من أنفع الكتب لي في هذه الفترة.

وتعجّبت جدًا أن «رمزي نعناعة» كتب أطروحة دكتوراه فيما بعد بسنوات طوال، ولم يأت بجديد حول الفكرة. ولعله صبّ كتاب الذهبي في أطروحته فحسب، والكتابان متوفران لمن أراد المقارنة بينهما. كان كتاب «أبو شهبة» -الذي أشرف على «أحمد حجازي السقّا» في الدكتوراه- الشيخ الأزهري معينًا أيضًا لي.

يمكنك قراءة الجزء الأول من الرحلة هنا:

رحلة في دراسة مقارنة الأديان في مصر (1-4)

رحت أبحث في فهارس دار الكتب المصرية عن كل ما يتصل بهذه الفكرة، التي ستصبح بوابة لي أن أنقّب في التراث الإسلامي عما إذا كان أحدهم قد كتب حول هذه الفكرة، إذ كانت عقيدتي أن ما يقدم اليوم من كتابات حديثة أصله في القديم موجود!

وبالفعل حصلت على مخطوط (الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة) الذي نشر الأستاذ الخولي شطرًا منه في مجلة معهد المخطوطات العربية، كما عرفت بعد ذلك، وكان لزامًا عليّ أن أحصل على عدة نسخ من هذا المخطوط.

سافرتُ إلى الاسكندرية في أحد مواسم الشتاء، وتيسرت زيارتي للمكتبة التي ستصبح بعد فترة أشبه بمُتحف يعرض كل شيء بمقابل للسائح لا للباحث، أو مصلحة حكومية كلما عرفت فيها شخصًا أمكنك أن تحصل على أي شيء تريده (وظيفة-كتابًا- بحثًا- مالاً).

أذكر أنني نسخت أول 5 ورقات من هذا المخطوط في القطار، وما مرّ أسبوع إلاّ وقد قرأت نسخة الاسكندرية من المخطوط، على الرغم من طمس صفحات عدة منها، وكنت سعيدًا لأنني وجدت نسخة عبارة عن مسودة كتبها «البقاعي» بخط يده لهذا الكتاب.

كذلك سعدت بمطالعتي لمخطوط آخر في المكتبة كتبه «البقاعي» في «ذم مصر ومدح أهل الشام» بعدما ترك مصر فيما عُرف بفتنة «ابن الفارض» في التأريخ الإسلامي لهذه الفترة! وسأسعد أكثر حينما علمت بعد سنوات أن الأستاذ «وليد صالح» حقق هذا الكتاب ونشره في الخارج.

احتفظت بنسخي لهذا المخطوط عدة سنوات، كما احتفظت بنسخي لكثير من أعمال «البقاعي». على سبيل المثال؛ نسخت كتابه «في تراجم الشيوخ والأقران»، الذي كان يقع في 4 مجلدات مخطوط كما أذكر. ونسخت له عدة رسائل منها ما هو في باب «علم الكلام»، ومنها ما هو في الحديث، ومنها وما هو في النحو، ومنها ما هو في الرد على الصوفية وخاصة «ابن الفارض».

لكن ما ظل عالقًا في ذاكرتي كتابه «الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة» وكتابه عن «ورقة بن نوفل» وكلا الكتابين لا زلت أراهما من حيث التصنيف فريدين في بابهما. فلم يكتب بشكل مستقل مما وصلنا من هذا التراث الثري عن الإسرائيليات بشكل مستقل سوى هذا الكتاب.

كذلك لم يخصص لـ«ورقة بن نوفل» -الشخصية التي يظل الحديث عنها مستمرًا في أدب الجدل والدفاع- في التراث ووصلنا سوى هذا الكتاب، وإن كان «البقاعي» ذكر في مقدمة كتابه، أن أستاذه «ابن حجر العسقلاني» ألّف عن ورقة.

لم أكن أملك المال وقتها لشراء نسخة من تفسير «البقاعي» الذي يعدّ من التفاسير الهامة للقرآن، وسأذكر نقطتين تبرز أهمية هذا التفسير من وجهة نظري. أولاهما؛ أنه من التفاسير الكلاسيكية التي يعتمد صاحبها حين يتحدث عن أنبياء التوراة والإنجيل، يعود إلى الكتاب المقدّس نفسه، ويحتفظ بعدة نسخ أصيلة تعود إلى عصره، ويقارن بين ترجمات وصلته.

أذكر أنه وجّه نقدًا في هذا الكتاب لترجمة «سعديا الفيومي»، ولم أكن أعرف «سعديا بن جاؤون» بعد، وكان سببًا لبحثي عن كتبه -وأذكر أنني حصلت على نسخة مصورة من كتابه الأمانات والاعتقادات-، وسأحيل عليه في دراستي فيما يتعلق بالكلام على النبوات، وسأهتم لجمع ما كُتب حوله، لأنه يهودي وأنا مسلم أدرس مقارنة الأديان، هكذا كنت أفهم وقتها.

فكرت من كثرة النقول الواردة عن التوراة والإنجيل، من النسخة الخاصة بـ«البقاعي» أن أجمع هذه النقول وأنشرها تحت عنوان: (الإنجيل برواية المسلمين) كما فعل «طريف الخالدي» في نشره لكتاب بهذا العنوان في اللغة الإنجليزية.

وكما فعل الأب «ميشال الحايك» في نشره لكتاب عن المسيح في الإسلام، كانت أغلب النقولات الإسلامية التي اعتنى بها هي مرويات الصوفية. كان مما يميز هذه الدراسة لو أتممتها أنها تعيد تكوين نسخة من التوراة والإنجيل تعود إلى هذا العصر، وقد تحدثت مع أكثر من باحث في مصر وخارجها عن ذلك لكن أحدًا لم يهتم بذلك!

النقطة الثانية التي تميزُ كتاب «البقاعي»؛ أنه احتفظ بتفسير ضائع لـ«لحرالي المراكشي الصّوفي»، الذي صنّف في تفسير القران وفهمه عدة كتب، لم يبق منها إلاّ شذرات نشرها الأستاذ «المغربي بن شريفة»، وسأهتم بـ«الحرّالي» فيما بعد، لأنه ممن ألّف فيما عرف بـ«علم الحروف في الإسلام»، وهو علم لم يكتب فيه في الدراسات العربية اليوم دراسة مفصّلة رغم أهميته في دراسة الرموز الدينية التي تشترك فيها جميع الأديان والفلسفات.


مرحلة انتقال

ومن «البقاعي» انتقلت للاهتمام بالدراسات الحديثة مجددًا عن الإسرائيليات، ولم يكن معروفًا كما اليوم دراسات إسرائيل و«ليفنسون» عن «كعب الأحبار» والحديث النبوي، إذ كان معروفًا للرجل الذي كان في دار العلوم سابقًا كتابه عن اليهود في جزيرة العرب، واللغات السامية.

حصلت على نسخة من كتاب «كعب الأحبار»، وسيُعاد تصويره ونشره في مصر بعد سنوات، كما يُعاد نشر الكثير من الدراسات العربية الحديثة التي بدأت مع بداية القرن الفائت، لأننا لم نعد نُحسن الكتابة بالعربية، وغير قادرين على طرح جديد جادٍّ، وغير قادرين على الإخلاص في بحث كما كان جيل الجامعات العربية الأول.

كما أننا لم نعد نملك أدوات المعرفة، وأصبحت معارفنا منقوصة، وآداؤنا كما العصر أسرع، ونحب أن نحصل على النتائج في لمح البصر، إلاّ قلة قليلة من باحثين هم في عداد المجاهيل اليوم في مصر، ومنهم من يهرب منها، ومنهم من يفتح الله عليه لإتمام دراساته في الغرب!

راجعتُ ما كُتب في جامعة الأزهر حول الإسرائيليات، فوجدت عدة رسائل كان عنوانها الرئيس «الدخيل في التفسير». فكل ما هو دخيل على الإسلام وتسرّب إلى التفاسير، يحاولون تنقيته ويقولون هذا “دخيل” وهذا “موضوع” فحسب؛ وتكتفي 7 رسائل علمية بهذا فحسب.

ومن كلية أصول الدين إلى كلية اللغة العربية، أتعرّف على دراسة أخرى تهتم بـ«البقاعي» وتسلّط الضوء على تفسيره هي أجود من كافة الرسائل الـ7 التي طالعتها على الرغم من أنها لم تفدني كثيرًا في هذا الباب.

فيما بعد حصلت على دراسة لـ«آمال ربيع»، أشرف عليها «عبد الصبور شاهين». كانت عن الاسرائيليات عند «الطبري». كانت الدراسة أفضل من هذه الدراسات كون الباحثة عادت إلى أصول المرويات باللغة العبرية وكان بحثها أصيلاً، ولا يتسم بالتعميم كما هو شأن الكثير من البحوث.

وعدتُ إلى الاسكندرية مجددًا أبحث عن كتاب لـ«وهب بن منبّه» أحد الشخصيات الإسلامية التي ارتبط اسمها بالمرويات عن بني إسرائيل هو و«كعب الأحبار». ظللت مع مروياتهم فترة أقرأ ما يتعلق بالتفسير وبالعقيدة، ولم أكتب دراسة مفصّلة عما طالعته، كون هذا الباب قد فُتح من قبل مع «مدرسة المنار»، واعتبر المعاصرون من المشايخ وأساتذة الجامعات ما قاله «رشيد رضا ومحمد عبده» فتح باب الجرأة والتطاول.

جدير بالذّكر هنا، وهو ما لا يعرفه المخاصمون لشيخ الأزهر الحالي الشيخ «أحمد الطيب»، أنه يقول بهذا الرأي، ولا يرى في هذه المدرسة ما يراه المعاصرون من أنها مدرسة التجديد التي ينبغي الاحتفاء بها، بل هناك في هذه الفترة من مشايخ الأزهر والكُتاب ما يستحق الاهتمام بهم أفضل من «مدرسة المنار».

أخبرني الشيخ «الطّيب» بهذا الرأي وأنا أزوره للمرة الأولى في مكتبه في جامعة الأزهر، وكان رئيسًا لها آنذاك، بعدما أهداه «محمد السليماني» الذي تعرّف عليّ في معرض الكتاب ثلاثة كتب كنت قد أعددتها وأخرجتها جامعًا فيها كتابات «محمد توفيق صدقي» سالف الذكر.

وستتوطد العلاقة بيني وبين الشيخ لأشرف على عمل مؤتمر «الأشعري» الذي عقده بعد تولّيه مشيخة الأزهر. كان عملي وقتها أن أجمع كل ما يتعلق بـ«الأشعري» مخطوطًا أو مطبوعًا في اللغة العربية واللغات الأخرى، وهو عمل قمت به من باب المحبة!.

إذ كنت سعيدًا دومًا بأي عمل يمت للبحث بصلة، وقد كان هذا العمل سببًا في حصولي على نسخة ثالثة لـ«آمالي القاضي عبد الجبار المعتزلي»، ذلك الكتاب الذي لم يحقق بعد، وكنت قد حصلت على نسختين من مخطوطات الكتاب من الفاتيكان، وجاءت هذه النسخة الثالثة لتساعدني في قراءة النص، وتلقي ضوءًا آخر على حفظ الزيدية للتراث الاعتزالي.

للإطلاع على الجزء الثالث من هذه الرحلة هنا:

رحلة في دراسة مقارنة الأديان في مصر (3-4)