كان أول حديث تحدثت معه عنه الخلاف بين الأستاذ «محمد الطّالبي» -صاحب (أمة الوسط – وعيال الله)، والذي كتب عدة بحوث في سلسلة «الإسلام والمسيحية في الحوار والتعاون» التي زادت مجلدتها اليوم عن 60 مجلدًا- والأستاذ «عبد المجيد الشرفي»، إذ كان «أبو يعرب المرزوقي» قد كتب مقالًا مطولًا عنه، فحدثني كثيرًا عن «الشرفي».

يمكنك الإطلاع على الجزئين السابقين من رحلة الدراسة هذه من هنا:

رحلة في دراسة مقارنة الأديان في مصر (1-4) ، رحلة في دراسة مقارنة الأديان في مصر (2-4)

قد كنت شغوفًا لأعرف الكثير عنه، فقرأت كتابه في الردّ على النصارى أكثر من 3 مرات من باب المذاكرة، وقرأت كتابه عن الإسلام بين الرسالة والتاريخ، وكنت ألاحق ما يُكتب عنه أو له لأتعرف عليه أكثر، ولم يتحدث «المرزوقي» عن الشرفي إلا حديثًا طيبًا.

وكانت هناك فرصة للقاءات عدّة مع بعض المهتمين بالكتابة في العقيدة والحديث، والبارزين على سطح المشهد اليوم. أذكر من هذه اللقاءات جلستنا أنا و«المرزوقي» مع «عمر عبد الله كامل»؛ وهو شيخ صوفي تتلمذ على يد «الشعراوي»، وصاحب حضور في المؤتمرات والجامعة الأزهرية، ويكن له كثير من أساتذة الأزهر كل تقدير واحترام.

كنت أعرفه قبل سنوات، والتقيت به في أكثر من فاعلية، وحضرت بعض حضرات الذكر التي كان يحييها رئيس لجنة المصحف الشيخ «المعصراني» بآيات من الذكر الحكيم، والذي لم يكن يترك الشيخ «كامل» في أي مناسبة من أجل أن يتلو القرآن!.

وكان مع الشيخ «كامل» بعض الشباب، منهم «سعيد فودة، وأسامة السيد»، والحق يقال أن هذا المجلس كان من أقل المجالس فائدة وثمرة. إذ تحدث الشباب عن أمور تافهة جدًّا حديثًا خاليًا من الأدب والعلم، مما جعلني أعتذر نيابة عنهم للأستاذ «المرزوقي» لأن مثل هؤلاء لا يهتمون إلا بقشرة العلم، وسيجمعنا لقاء تالٍ على مائدة غداء بدعوة خاصة.

سيكون لأحد هؤلاء الشباب دوره في الجلسة بأن يحكي بعض الطرائف ليساعد الحضور على الضحك. ولم أنس وصف «المرزوقي» لهذه المجموعة ومجموعة أخرى إذ قال: هؤلاء كلهم دجاجلة. ونصحني أن أسير في طريقي دون الالتفات إلى مثل هؤلاء!.


محمد عبد الله الشرقاوي

كان من ثمرات هذا المؤتمر أن التقيت «دين محمد محمد ميرا» -صاحب كتاب «في علم الدين المقارن»-؛ وحدثته عن موضوع الماجستير الذي حصلت عليه من دار العلوم، وظللنا معًا أيامًا نلتقي ونتحدث في الأديان والتصوف. كان الرجل قارئًا ممتازًا وسعدت جدًا لأنه يكتب من ذاكرته كما أكتب.

حدثته عن أول قراءاتي في مقارنة الأديان؛ فضحك كثيرًا حينما علم أن أشهر من يكتب عندنا في هذا الحقل «محمد عبد الله الشرقاوي»، ووصف كتاباته بالضعف الشديد، ولم أجده فيما قال مبالغًا. إذ مرّ وقت طويل على بداية القراءة تعرّفت فيه على كُتّاب وكتابات أوقفتني على مدى الوهن في الكتابات التي طالعتها في البدء.

حدّثت «دين ميرا» عن قراءتي لبعض بحوثه التي كنت قد حصلت عليها من مجلة كلية الشريعة في قطر، وعن كتابه في علم الدين المقارن مقالات في المنهج، لكن الرجل كان يحب السماع أكثر من النطق، وعرفت فيه قارئًا جيدًا للتراث الصوفي إذ كان أول اهتمامه بنظرية الحب عند الصوفية بين الإسلام والمسيحية فيما أذكر.

كلما ذكرت له كتابًا؛ كان يسجّل عنوانه ويتصل ببعض تلاميذه المقيمين في مصر ليجلبوا له الكتب. ودعاني لزيارته في قطر، ورّغبني في ذلك بأن أخبرني عن مكتبته الكبيرة هناك، لكنني لم ألتق به مجددًا، وكتابه عن الدين المقارن كان بالفعل أجود مما كتبه «الشرقاوي»، وتذكّرت أن «الشرقاوي» اعتمد على بعض بحوثه وهو يكتب في مقارنة الأديان.

ظلّ الدكتور «الشرقاوي» إلى اليوم أهم من يكتب في مصر عن الأديان، وهو كثير الحضور في المؤتمرات شرقًا وغربًا، وآخر شيء عرفته عنه قبل كتابتي لهذه المقال؛ هو أنه كان يحاضر في المغرب عن مناهج العلماء المسلمين في مقارنة الأديان، وهو نفس الموضوع الذي كتب عنه في التسعينات.

تحدث عنه في مؤتمر الفلسفة الإسلامية، وأعاد نشره في مجلة الدراسات القرآنية. ثم كان أول بحث من بحوث كتابه في مقارنة الأديان، مما أوقفني على أن الأستاذ لم يقدّم جديدًا يذكر منذ هذه الفترة، وربما انشغل بأمور حجبته عن الإنتاج الفكري.

كان مايميّز الأستاذ «الشرقاوي» أنه في محاضراته كان دائمًا ما يحيل على دراسات لآخرين -وهذا ما أحمده عليه- يذكر أسماء شخصيات كثيرة، فكان يجعلني أعود إلى هذه الأسماء، وقد كان سببًا لتعرّفي على المستشرق الإنجليزي «عالم نيكلسون».

فقد وجّه إليه نقدًا في كتاباته عن مصدرية التصوف الإسلامي -وكان نقده هادئًا- على عكس نقد تلميذه الأستاذ «القوشتي»، الذي لا أزال أذكر بحثه الذي قدّمه في مؤتمر التصوف الإسلامي في جامعة القاهرة عن التصوف في نظر المعاصرين من السلفية الحديثة.

هذا البحث الذي سيُطبع لاحقًا في مصر تحت عنوان «نقد التصوف» ولا أزال أذكر تعليق فضيلة الأستاذ الشيخ «حسن الشافعي» على «القوشتي»، كابن من ابنائه ينصحه بأن يتأنى في أحكامه، وأن يعاود الرجوع إلى ما قاله المحدّثون الأوائل عن التصوف. وقد ذكر الشيخ «الشافعي» وقتها «أحمد بن حنبل»، وأحاله على كثير من كتب الحديث، وكان «القوشتي» مثالًا للأدب في الاستماع بإكبار لنصائح الشيخ «الشافعي».


نصوص وتحقيقات

مما أحمده للأستاذ «الشرقاوي» أنه في محاضراته كان دائمًا ما يحيل على دراسات لآخرين، يذكر أسماء شخصيات كثيرة، فكان يجعلني أعود إلى هذه الأسماء.

كان بوابتي لقراءة نصوص «الجاحظ»، هو ذلك التحقيق لرسالته الصغيرة الحجم في الرّد على النصارى عبر تحقيق الأستاذ «الشرقاوي». قدّم الأستاذ للرسالة بمقدمة سريعة وعلّق عليها، لكنني لم أكتف بهذه النشرة بعد ذلك، وطالعت النصّ في نشرة يوشع فنكل طبعة المطبعة السلفية، وكنت سعيدًا بالحصول على هذه النشرة القديمة.

ثم طالعت النصّ في مجموعة الرسائل الكلامية التي حققها وعلّق عليها «علي بو ملحم»، وتتبعت المكتوب عن «الجاحظ» في دراسات حديثة، بغية أن أتعرف على ظروف كتابته ردًّا على النصارى في عصر «المتوكل»، لأن ما أبلغه هنا سيساعدني على فهم ظروف كتابة «عليّ بن ربّن الطبري» كتابًا في الرد على النصارى، وكتابًا في الرد على اليهود، وكتابًا في الدفاع عن الإسلام وإثبات نبوة النبي.

ولعل من يقرأ ما أكتب الآن يشعر أنني أشرّق وأغرب بعيدًا عن الأديان، لكنني وإذ أكتب من ذاكرتي بعض هذه التفاصيل أجدها ضرورية للتعرّف على واقع الدراسات العربية المعاصرة لمقارنة الأديان، وللتعرّف على طبيعة البحث العلمي في مصر، وما آل إليه.

ولعل فيما أذكر ما يبصّر غيري، أو يصحح له، أو يلقي بعض الضوء على شخصيات معاصرة، لا تُعرف عنها سوى الصورة التي تقدّم للجماهير. ومن خلال أحد هذه الكتابات التي لا تدخل في (قسم مقارنة الأديان) تعرّفت على نص «ياقوت الحموي» الذي يلقي ضوءًا على رسالة «الجاحظ»، وقارنت بين ما جمعته من معلومات، وما وجدته في التأريخ المسيحي للنصارى في خلافة «بني العبّاس».

سأهتم بالدراسات المسيحية فيما بعد اهتمامًا يتمم الصورة المنقوصة التي كنت أسيرًا لها من خلال القراءات الإسلامية، التي كُتبت دون أن تعود إلى هذه الدراسات، والتراث المسيحي الذي يعود إلى هذه الفترة، رغم أن أغلب هذه القراءات تعرّف نفسها على أنها قراءات في (الدين المقارن)!.

ومن «الجاحظ» إلى «القاضي عبد الجبار المعتزلي»، الذي تعرفت عليه من خلال رسالة كتبها أحد الباحثين «مختار عطا الله» عن جهود المعتزلة في الردّ على النصارى. كان هذا أهم كتاب طالعته، وهو كتاب بعنوان «تثبيت دلائل النبوة» الذي حققه الأستاذ «عبد الكريم عثمان»، بعد دراسته المفصّلة عن «القاضي عبد الجبار» في الدكتوراه.

وهذه دراسة كبيرة لا تزال هامة في درس هذه الشخصية التي تلقى إلى الآن اهتمامًا بالغًا في حقل الدراسات الغربية، بعد اكتشاف مؤلفات له أو لتلاميذه أو الذين لخّّصوا، وحفظوا جزءًا من كتاباته. ولعليّ سأسهم بشيء في هذا بعد إتمامي لتحقيق ودراسة أمالي «القاضي عبد الجبار» الحديثية التي ستساهم في رؤية صحيحة عن المعتزلة؛ فيما يخص الحديث النبوي ومكانته عندهم.

ومن «القاضي عبد الجبار» وكتابه عن تثبيت دلائل النبوة، وكتاب «المغني» ببعض أجزائه التي خصصها عن إعجاز القران والحديث عن الأديان؛ إلى «الجويني» صاحب «شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل».

طالعت الكتاب في نشرة «أحمد حجازي السقّا»، ذلك الرجل «الطيّب» الذي أفسد كثيرًا من الكتب من خلال تصرّفه في النصوص، واختصاره لبعض المتون، وتبديله للنصوص القديمة بأخرى حديثة من عنده!. كان الرجل رحمه الله مكثرًا من التصانيف والتحقيقات، بعد عمله الضخم من حيث الكمّ في الدكتوراه عن «البشارة بنبي الإسلام» في الكتب المقدّسة، ومن حسنات هذا الرجل أن بعض الكتب والتحقيقات لم تعد تُعرف إلاّ من خلال نشرته هو!

ذكر «القاضي عبد الجبار» بعض الكتابات التي تحدثت عن الإنجيل والتوراة، واقتبس عمن سبقه، ومن النصوص التي لا أزال أذكرها نقله عن «الربيع بن أبي الليث» كاتب «هارون الرشيد»، الذي بعث برسالة إلى ملك الروم، حفظها لنا التاريخ. وهنا رحت أبحث عن الرسالة في المخطوط والمطبوع.

وجدت إحالة إلى أحد الكتّاب المصريين الذي كتب عن «الزواج في الإسلام» وقدّم كتابه «المراغي». كان «المراغي» آنذاك قد أسس جماعة تحمل اسم «الدفاع عن الإسلام»، فطمأنني هذا الإسم أنني سأجد الرسالة. وبالفعل وجدت الرسالة منشورة كملحق في كتاب من هذه الكتب، وصورتها، وعرفت بعد ذلك أن «أحمد فريد بك الرفاعي»؛ نشر هذه الرسالة في كتابه عن عصر «المأمون» -لعلها في الجزء الثاني- ووفرت هذه الرسالة فيما بعد للباحثين حتى يتمكنوا من مطالعتها.

اضطرني هذا إلى معاودة النصوص في أصولها الخطّية. فلم أكن قد عرفت بعد بنشرة الأب «ميشال آلار» التي حقق فيها كتاب «الجويني»، واعتمد عليها الأستاذ «الشرفي». حصلت عليها فيما بعد، وكنت قد قرأت النص في صورته الخطية التي لا تزال محفوظة في معهد المخطوطات العربية، ونسختها بخط يدي، ولا أزال أحتفظ بهذه النسخة.

كان «أحمد حجازي السقا» يقرأ بنهم شديد، ويحبّ أن يدافع عن الدين، ويرد عنه شبهات (المسلمين والمسيحيين) كما يقول. ولأجل ذلك تجده مرة يدافع عن «المعتزلة»، ومرة عن «الأشاعرة»، ومرة يدافع عن «المعاصرين». ولعل فقده لوظيفته كأستاذ في جامعة الأزهر؛ كان سببًا لهذا العناء في عدم الثبات على اتجاه بعينه في حياته.

طالعت كتاب «ابن تيمية» حسب طبعة المدني التي عرفتها وانتشرت في مصر، وأفدتُ منه كثيرًا، وتعقّبت كثيرًا من الإحالات والإشارات في داخل النصّ، وكنت قد عرفت «ابن ظفر الصقلي» من أعلام القرن السادس الهجري، نظرًا لكتابه الذي خصص للبشارات بالنبيّ، وحمل عنوان «خيرُ البِشر بخير البَشر».

ولا أزال أذكر مقارنتي بين نصوص «ابن تيمية» ونصوص «ابن ظفر» الذي يعد -ابن ظفر- أحد مصادر الشيخ، هو و«تقيّ الدين الجعفري» صاحب تخجيل من حرّف التوراة والإنجيل. كانت إحدى الرسائل القريبة من رسائل «الجاحظ» والكتابات في الردّ على النصارى رسالة «الحسن بن أيوب» التي سأقارن بينها وبين ما كتبه «علي بن ربّن الطبري».

وسأجد نصوصًا هي هي حرفيًا في هذه الرسالة من كلام «الطبري»، وسأجد نفس النصوص فيما بعد عند «نصر بن يحيى المتطبب»، الذي نشر نصّه الأستاذ «الشرقاوي»، وكانت هذه الرسالة مضمّنة في كتاب شيخ الإسلام «بن تيمية»؛ بعنوان «الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح».

حفظ الشيخ هذه الرسالة بنصّها المختصر الذي رواه في صفحات طوال في كتابه، وظلّ المصدر الوحيد للحصول على هذا النصّ، فيما بعد لقيت هذه الرسالة اهتمامًا في الغرب، من خلال الاهتمام بـ«ابن تيمية»، وستنشر الرسالة على استقلال في نشرات عدّة حصلت على اثنتين منها أذكر أنها نشرة عام 1985.

وكما لم يلق كتاب الجواب الصحيح العناية اللائقة به تحقيقًا ودرسًا، كذلك مصنف «ابن ظفر» فيما يتعلق بالبشارات بالنبي ﷺ، وقد حققا الكتابين مؤخرًا، وحصلت على نسخة الجواب الصحيح، وكذلك نسخة كتاب «ابن ظفر» المحققة في المغرب من قِبل طالبتين فيما أذكر، وهي نسخة لم تلتفت من قامت بالتحقيق إلى موضوع الكتاب وأهميته على الرغم من كون التحقيق قدّم في إطار رسالة جامعية ونُشر في الرابطة المحمدية.

ورغم حصولي على نسخة كاملة من كتاب «الجواب الصحيح»، إلاّ أنني لا زلت بحاجة إلى مراجعة الثلاث أطاريح التي قدّمت في السعودية للحصول على درجة الدكتوراه عن تحقيق الجواب الصحيح، فربما فاتني في دراسات الثلاثة باحثين ما يجعلني أتمهّل في تكوين رأي في هذه النسخة.

على أن جهود «ابن تيمية» قد نالت مزيدًا من عناية فيما يتعلق بردوده على النصارى، من قِبل الأستاذ «عبد الراضي عبد المحسن» (كلية دار العلوم) الذي نشر رسالته للدكتوراه عن «ابن تيمية» وجهوده في هذا الباب تحت عنوان «منهج أهل السنة والجماعة في الرد على النصارى»، وهي من جملة الرسائل التي أفادتني، وتابعت بعدها ما نشره «عبد الراضي» وهو مقيم في السعودية عن التبشير بالنبي.

ولعل كتابه عن الغارة على القرآن يعدّ امتدادًا لهذا الاهتمام، وأذكر أن الأستاذ «محمد السليماني» أخبرني عن شغف «عبد الراضي» للقائي، بعد محاضرة «السليماني» في مؤتمر إيطاليا عني وعن علاقتي بالمسيحيين في مصر. إذ استثمر «السليماني» جلوسه معي ومع بعض الأصدقاء في الحديث عن العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر!