قليلة هي أفلام الرعب والخيال العلمي الجيدة٬ رعب الجو الذي يضعك في حالة مرعبة ولا يعتمد على الخضات٬ رعب التوجس وترقب المشاهد٬ الرعب الذي يبتعد عن الرعب المعوي والعيون المفقوءة والأطراف المبتورة والبطون المبقورة٬ الرعب النظيف الذي يوترك ولا يشعرك بالتقزز.

جيدة هي تلك الأفلام التي لا تعتمد على تيمة مستهلكة٬ ولا تمتلئ بالدماء وتعتمد على أفكار مبتكرة وجديدة تلفت بها انتباه المتلقي وتجذبه لها٬ الأفلام السريعة ذات التفاصيل المهمة التي تستولي على انتباهك بالكامل.

فيلم «A Quiet Place» فيلم رعب تشويقي ينتمي لرعب الخيال العلمي٬ يحكي قصة أسرة تحاول البقاء في حين يفنى البشر تقريبًا، وتسيطر على العالم كائنات مفترسة عمياء تنجذب للأصوات مهما كانت خافتة.

قامت ببطولة الفيلم إيميلي بلانت أمام بطل الفيلم ومخرجه – وزوجها في الحقيقة – جون كرازنسكي في دوري الأب والأم٬ مع ميليسنت سيموندس التي قامت بدور ابنتهما الصماء – وهي صماء في الحقيقة – ونوا جوب في دور الابن الأصغر.

الفيلم ينتمي لتيمة أفلام ما بعد المحرقة٬ حيث تبدأ أحداث الفيلم بعد تعرض العالم لكارثة تقضي على الحياة٬ وفي الغالب تدور هذه النوعية من الأفلام حول محاولات البقاء٬ وفيلم «A Quiet Place» لم يخرج عن فلك هذه التيمة كثيرًا٬ فما الذي يجعل هذا الفيلم يحظى بكل هذا الاستحسان والتقييمات العالية؟ هذا ما سنحاول فك شيفرته لاحقًا.


التمثيل

يدور الفيلم في صمت تام٬ فسبب فناء العالم هو الصوت الذي يجتذب الكائنات المفترسة٬ ولهذا فقد كان لزامًا على الأسرة أن تعيش في هدوء تام، محاذرين أن يصدروا أية أصوات حتى لو خافتة٬ وبالتالي فالفيلم في ثلاثة أرباعه تقريبًا بلا حوار مسموع٬ حيث يستخدم الممثلون لغة الإشارة للتواصل فيما بينهم٬ هذا أعطى التمثيل مساحة هائلة كي يكون البطل الحقيقي.

كان على إميلي بلانت -في دور الأم والزوجة- أن تقوم بتوصيل كل مشاعرها من خلال تعبيرات وجهها وحركة جسدها٬ النظرات والأحضان والألم والخوف٬ دون أوصاف تعين الممثل في التعبير عنها شديدة الصعوبة٬ ولكنها استطاعت أن تفعل ذلك وكأنها بالفعل مجبرة على أن تعيش في الصمت٬ كل مشاهدها تقريبًا فيها صعوبة في تأديتها بلا حوار أو كلمات٬ وكلها اختارت فيها أن تستخدم كل عضلة في جسدها لتستعيض بها عن الكلام٬ بل حتى أنفاسها كانت تنظمها وتتحكم في سرعتها وشدتها لتوصل شعورها.

البطل والمخرج جون كرازنسكي أيضًا استطاع أن يستخدم نظرات عينيه بحرفية٬ فنظرته لابنته الصماء طوال الفيلم تختلف تمامًا عن نظرته في المشهد الأخير٬ وكونه المخرج أيضًا فأداء باقي الممثلين يحسب له٬ خاصة أداء الأبناء، الذين يظهر في حركاتهم ونظراتهم التباين الشديد بين تمرد المراهقة عند الفتاة والخوف والذعر الوحشي غير المتعقل عند الفتى.


الرسائل الضمنية

يصنف فيلم «A Quiet Place» كفيلم رعب تشويقي٬ وهو بالفعل يعتمد على أسلوب الخضات ومليء بالدماء والكائنات المخيفة٬ وهو كفيلم رعب لا يحمل أي جديد٬ فالكائنات التي تهاجم البشر وتقتلهم وتأكلهم قدمت بأكثر من شكل، وفي أكثر من سياق من قبل٬ فالحبكة نفسها مكررة٬ ولكنه في سياق هذه الحبكة يقدم دراما متضمنة في طيات الفيلم تجعل الفيلم يحظى بكل هذا الاستحسان.

مشارفة العالم على الفناء٬ والفقد الذي يواجه الأسرة٬ والخطر المحيط بهم في كل لحظة تقريبًا لم يمنع المراهقة أن تتجلى، ولم يمنع مشكلاتها من أن تظهر حتى ولم يكن هناك مكان لها بمنطق وعقل الواقع، الابنة كأي مراهقة عادية لديها مشكلات وأزمات ثقة٬ وهناك حرب تفور داخلها تجعلها تختلق أزمات ليس لها داعٍ٬ الأب يحاول مواجهة ذلك ومواجهة احتمالات الموت اليومية٬ الحياة داخل الرعب صوتها أعلى من صوت الصمت الذي يحيط بهم دومًا، فترى أسرة عادية لم يمنعهم الظرف الاستثنائي الذي يدور فيه الفيلم أن يمروا بكل ما تمر به الأسر عادة.

هذه الدراما التراجيدية التي يعج بها الفيلم تخرجه من كونه فيلم رعب معوي فقط لتدرجه في فئة الأفلام ذات المغزى العميق٬ حتى لو كان هذا المغزى عاديًا ومكررًا إلا أنه أضاف بعدًا دراميًّا للحبكة المكررة.


التفاصيل

إذا رأيت الفيلم مجردًا فستجد تيمة مرعبة تعتمد على وحوش أسطورية لا تعرف كيف وجدت٬ وعالم على شفا الفناء٬ وهي تيمة مكررة رأيناها من قبل كثيرًا جدًّا٬ وستجد حبكة ضعيفة يمكن أن نجد حلًّا لها في الدقائق الأولى من الفيلم يجعله ينتهي قبل أن يبدأ٬ ولكنك في النهاية ترى فيلمًا جيدًا٬ في نتيجة لم تفضِ إليها مقدماتها المجردة.

التفاصيل٬ كلمة السر هي التفاصيل٬ فالحبكة الضعيفة والتيمة المكررة يستلزمان تفاصيل متقنة حتى يلاقي الفيلم هذا الصدى الجيد لدى المتلقي٬ خاصة أن المشاهد الآن لم يعد ساذجًا يرضى بأي شيء٬ وإذا تقبل الجمهور فيلمًا ومدح فيه فهو يستحق هذا المدح في الغالب.

الفيلم يحمل تفاصيل جيدة فعلًا، سواء على مستوى التمثيل أو على مستوى الدراما – كما فصلنا سابقًا – أيضاً المؤثرات البصرية كانت متقنة٬ فالوحوش التي هي محور الفيلم كانت جيدة جدًّا، ليست ساذجة الشكل أو الأداء، ولن تستجلب الضحك بل التقزز.

اللحظات الحميمية بين أفراد الأسرة جعلت الفيلم يخرج عن سذاجة أفلام الرعب والوحوش المفترسة٬ حتى لو كان هذا هو محوره الأصلي. التفاصيل هي ما جعلت الفيلم جيدًا٬ التفاصيل التي إذا انتزعناها عن أي شيء فقد بريقه٬ وإذا اهتممنا بها في أي شيء نقلته نقلة نوعية٬ بالضبط كفيلم يحكي عن وحوش تأكل البشر٬ إذا ما اهتممنا بالتفاصيل ونظرنا مليًا إلى هؤلاء البشر خرج لنا فيلم جيد اسمه «A Quiet Place».