على الرغم من قدمها في المُقاومة ضد التمييز العرقي، تُدرج قضيّة الأمريكيين السود الآن ضمن آليات الترويج لخطاب المُساواة، ويتم تبنّي مثل هذه الأمور من مُؤسسات «بيضاء»  تُحاول اختزال المُساواة في بعض القرارات التي تكفي لتجميل السطح الخارجي لهذه القضيّة، لكن الأبعاد الداخلية لهذه الأزمة -على الرغم من تراجع مدى حدّتها عن ذروة توهّجها في مُنتصف القرن العشرين- تظهرُ عند حدث ما، ودائمًا يكون كاشفًا.

حينما قُتل جورج فلويد على يد ضابط أمريكي، خرجت أعداد كثيرة في الشارع تُعيد اعتراضها على التمييز ضد السود في أمريكا، بخاصة أن مثل هذه الحوادث تتكرر من وقت لآخر، يأتي ذلك خلال التوجّه الصوابي، بخاصة من الناحية الفنّية، من قِبل جهات مانحة لجوائز لها حضور عالمي كبير، مثل الأوسكار، والتي اعتمدت توليفة  «هنراضي كل الأقليات»  منذ عدّة سنوات، باعتبار أن ذلك نشاط إنساني فاعل.

على المُستوى الفنّي، لا يتحقق حضور الأمريكيين السود كقطب اجتماعي له حضور، أو حق في المُواطنة والتحقق الهويّاتي، من خلال استباق الأقلية كقيمة على البُعد الفنّي، لأن حيّز التعاطف المُسبق هذا، هو خطوات وهمية تبدو فاعلة في خطوة المُساواة، لكن هل تستجيب حكايات الأمريكيين السود لمُناورات الصوابية وتسطيح العُمق التاريخي وذاكرة النضال الدموية؟

في فيلم «a thousand and one»  الحاصل على الجائزة الكُبرى في مهرجان ساندانس/ 2023، بطولة «تيانا تايلور» في دور «آينز» التي تأخذ ابنها، عقب الخروج من السجن، من سيادة نظام «فوستر للرعاية»، وتجوب معه رحلة بحث عن الهوية والمُواطنة، داخل أحراش نيويورك في حي هارلم المحصور في الساكنين السود.

حفاظًا على إرث الماضي من دون الارتكاز عليه وتجهيل الواقع، قدّمت المُخرجة  a.v. rockwell حكاية محمومة بفاعلية اللحظة الراهنة، حيث نيويورك المُحتدمة بالحركة، وبقسوة على الجميع، خاصة الحيّز المجهول منها، في هارلم.

التتبّع الواقعي، المشتبك مع المكان في الفيلم، يجعل فعل المُشاهدة مساحة واسعة من الأسئلة، حول مدى تأثير المكان على حياة الأم العنيدة وابنها، حول علاقتها بعائلتها، وبالقانون الذي فرضته المؤسسة، وبشكل أكثر عُمقًا، حول البحث الدؤوب تجاه التحقّق الأمومي، والذي يبدو أنّه آخر ما تبقى لها من التعريفات في هذا المكان.

حضر الفيلم بهدوئه الظاهري وثيمته التقليلية على مستوى الإخراج، مُفعمًا بشخصيات أقلوّية، تصحبه كثير من الأسئلة حول السياقات التاريخية والنضالية، التي أنتجت صورة لعائلة، في قلب مدينة تكشفُ مساراتها كيف يُمكن للتقدم أن يتحقق على حساب الأكثر ضعفًا؟

هارلم

قبل الثورة الصناعية في أمريكا، كانت هارلم مكانًا يشمُل الإثنيات غير الأمريكية في نيويورك، نظرًا لمساحة الأراضي الزراعية الواسعة بها، والتي تضمنُ فُرصًا وظيفية للمُهاجرين.

في مطلع القرن العشرين، امتلأ الحيّ بالأمريكان السود، باقتراح من أحد مُطوري المكان، ونظرًا لأن الحيّ كان في مدينة شمالية، جاء كثير من العاطلين في الجنوب بحثًا عن فُرص عمل جديدة، سريعًا، تحوّل حيّ هارلم إلى مكان جميع سكّانه من الأمريكيين السود.

خلال عقدين، ومع ظهور التمييز العُنصري تجاه السود، تبنّى جيل فنّانين ومثقفين في حيّ هارلم التعبير عن أحقية الأمريكيين السود في العيش الآمن. ظهرت نماذج حاولت على مستوى فنّي ونضالي، إعطاء انطباع عالمي بحضور الأمريكيين السود في المشهد الفنّي، آرون دوغلاس في الرسم، آلان لوك في الفلسفة والعمارة، وعازف الچاز  الشهير لويس آرمسترونغ.

خلال ذروة الاعتداء على الأمريكيين السود، تمركزت هارلم كعاصمة لدعوى المواطنة والتمكين السياسي والثقافي لهذه الأقليّة، وكان الحيّ موقع حراك فعّال لرموز، مثل مالكوم إكس.

نهضة هارلم الفنّية- 1924
نهضة هارلم الفنّية- 1924

في «ألف وواحد»  يحضرُ المكان في إطار شخصي له حيّز حاكم على آينز ورحلتها مع ابنها؛ إذ إنها تسير بوجه جامد، مُحمّل بإرث المكان المُحتفظ بسلب أصحابه الأحقية في العيش، لذلك فإن الصورة لا تتوقف عند التعبير عن أزمة آينز وحدها، بل تخلق بُعدًا جوّانيًا يطويه المكان، بحكم ما حمل من تطورات فارقة، وصدى صوت مُقاوم ما زال ترديده قائمًا.

ربما كانت واحدة من أكثر الأسباب التي حققت للفيلم حضورًا كونيًا، هو أنه نأى مُنذ البداية عن توريط المُشاهد في حيّز عاطفي؛ لأن الصورة العمومية للقصة قادرة على فعلُ ذلك بسهولة، لنتخيّل امرأة سوداء، في حيّ على هامش المدينة، تخرج من السجن باحثة عن ابنها، تُقرر أن تتجاوز نظام رعاية مُقّننًا، وتخوض مع إبنها، وحدهما، رحلة البحث عن سكن وعمل وحياة آمنة، هذه مُقومات قصة عاطفية بامتياز.

بدلًا من الدخول إلى الحكاية من الباب السهل، المأساوي، اختارت المُخرجة في مشروعها الأول كفيلم روائي طويل، أن تعمل على تكوين موقف سياسي من الحكي، حيث لا بُكائيات، ولا ارتكاز على الماضي، لأن حي هارلم ما زال يطفح بنماذج وحكايات حيّة، وإن كان ظاهرها غير بطولي.

خلال الفيلم الذي يدور بالكامل عبر شخصيات محليّة، سوداء، تُذكرنا الحكاية بالمشروع الأدبي الثري لجيمس بالدوين، الذي وُلد بحيّ هارلم، وكان مكانه الأدبي في مُعظم رواياته، وخلال دفقات درامية أقل حدّة، اتخذت روكيل من رأي بالدوين في مسألة التمييز ضد السود مرجعًا نقديًا لتقديم الحكاية، حيث في هارلم، وإن ظهر غير ذلك، فلا شيئًا مُستقرًا تحت السماء.

لا تأتي فكرة التعبير عن العُنصرية عند بالدوين، مثلما هو موجود في الفيلم، من خلال التفكير بصيغة عالمية حول الأزمة، بل إن ضرورة التفعيل تأتي من محليّة التعبير، عن طريق استقطاب الرموز التاريخية للمكان، وخلال فضاء يُسائل دواخل الشخصيات للتعبير عن اضطرابهم وانفعالهم، وعن فقدهم، والتركيز على وصف حالة القلق الاجتماعي التي تخلقها حالة العُنصرية هذه، ولذلك يأتي الفيلم، مُشتبكًا مع الرجل الأبيض، مُتمثلًا في قانون المؤسسة؛ لأن التفوّق الغالب لأمريكا البيضاء، هو حالة ذهنية قبل أن تكون حضورًا واقعيًا.

التحوّل إلى العادي

في المشهد الافتتاحي للفيلم، تظهرُ مدينة نيويورك خلال عدّة لقاطات واسعة، ويأتي التحوّل التدريجي من الصورة العالمية للمدينة، بما تطويه من حضور وتسريع إيقاع الحركة، ثم تأتي لقطات تعريفية لاحقة، عقب خروج آينز من السجن، لحيّ هارلم، وهو يُعطي انطباعًا مبدئيًا بالعشوائية، واستقطاب نفس الإيقاع الحركي لنيويورك الصاخبة.

الاعتماد المكاني على الحكاية في الفيلم، كقطب تعبيري أساسي، جاء قبل ذلك كثيرًا في سياقات منفصلة، أهمّها حضور نيويورك المُتعدد في أفلام مارتن سكورسيزي، التي شغلت المدينة موقعًا أكبر من مُجرّد مكان، في 11 فيلمًا من مُجمل أفلامه، حيث ظهرت كمادة تُحاكي العُنف، وتعكسه، في زمن سابق أو مُعاصر، بنفس الآلية، تظهرُ المدينة في إطار مُماثل، يتسلّط على الشخصيات، فحينما يكون المكان مُتغيّرًا باستمرار، فإنه يطوي الحكايات سريعًا بداخله، وتتغير معه حياة الشخصيات، تتركّب أزماتهم، وتدخل في إطار العادي، المُتغير دائمًا مع تغيّرات المكان.

ينزلقُ الوقت الفيلمي، تمامًا مثل الحياة في هذا المكان، ويبدو أنّه لا يمر بسرعة ليترك انطباعًا بالتواتر والتتابع لدى المُشاهد، بل تقطع الشخصيات مساحات واسعة من الزمن فجأة، وتظهرُ بفارق العُمر، تسحب معها المزيد من الأسئلة، ماذا فعل المكان بهذه الشخصيات خلال كل ذلك الوقت الراحل ؟

من فيلم A thousand and a one
A thousand and a one

تجّلت هذه الفكرة في حياة آينز وابنها تيري حينما لم يعد أمامهما أي سبيل للتحقق، إلا بالاشتباك مع الفضاء المكاني وقوانينه الحاكمة، لم تفلح مُحاولات آينز مع والدتها، ولم يتبقَّ لها سوى أن تُحاول إدخال ولدها الصغير في خضم رحلة الإثبات الذاتي التي تنتظرهما.

تُقذف آينز، وهي وشطارتها أمام الفضاء المكاني، مرة يُكرمها بإعلان إيجار غرفة، ومرّة أخرى يُحذّرها من أن آليات دفاعها لن تنفع دائمًا، يهرب ابنها منها في لمح البصر، تستعيده، وتُكمل مُقاومة تهميش المكان لها.

تنويعات التحقّق

لدى روكويل رؤية مُسبقة حول عمل الفيلم، ظهر التزامها تجاه المُعالجات المُعاصرة لموقع الأمريكيين السود في العالم الحديث، في فيلمها القصير «feathers»، ثم بعد ذلك في فيلمها المذكور، تقول روكويل، إنّ قرار العمل الفنّي جاء من فكرة مُسبقة، تُمثّل الالتزام برأي واضح، وتعتبر موقفًا من العالم، ولأنّها من عرقٍ له تاريخ صعب ودموي مع العُنصرية، فإنها تتبّع نوع «سينما المؤلّف» على مُستوى الصناعة ومشروعية الأفكار.

جوارًا إلى العلاقة المركزية مع طبقات المكان، يتمثّلُ بحث آينز في الفيلم، حصرًا، تجاه ما يُمكن تحقيقه من إثبات ذاتي، فحينما تنزعها المدينة، كامرأة سوداء، أحقيّة الأمومة، فإنها تتحرك في المقابل باتجاه مُعاكس، وكأن تصالحها مع العالم لن يكون إلا باعتبارها أمًا، يظهرُ الإصرار العنيد  في صفات آينز، حيث تُواجه الأشياء بغضب ونديّة، دخولها الحميم في قلب التجارب يوّرط المشاهد معها، ينشغلُ بها، بشكل فردي، من دون حتّى السؤال حول موقعها المكاني، ثم يعود الفضاء مرة أخرى بصفعة جديدة تزويها بعيدًا.

مع تداعي قدرات آينز ومحدودية قدرتها، تظهرُ مُناورات المؤسسة التي تنزعُ أحقية المُواطنة من الأمريكيين السود، وبالتالي تنزحُ آينز إلى مساحات أكثر خصوصية في التحقق، أهمّها أن تكون أمًا.

خلال مشهدٍ أخير في الفيلم، بعدما تتداعى الأحداث على آينز، ويبدو أن الاختباء في هامش المدينة لسنوات طويلة، سيتم كشفه لا محالة، وبالفعل يحدث خلال حدثٍ جانبي يتعرّض له تيري في المدرسة، يتبيّن أن المعنى الوحيد المُتبقى لآينز، هو أيضًا عرضة للمُسائلة، يُخبرها ابنها، حول ما أراده أكثر من أم تُحاول معه ولأجله، إنّه كان يحتاج لأب.

في نهاية الفيلم، يُعاد تشكيل كل هذه المعاني مرة أخرى، خلال تفصيلة حكائية تقلب كل مدلولات ثنائية الأمومة والبنوّة بين آينز وتيري، إلا أن آينز، خلال مشهد حواري طويل مع الولد، ترفض أن يضيع كل ذلك هباءً، أو يُحيله المكان إلى شيء عادي، من دون معنى، يُمكن طيّه سريعًا.

على الرغم من تباطؤ إيقاع الحركة، مقارنة مع الاشتباك المكاني سريع التغيّرات، والتي جعلت بعض تنقلّات الفيلم السردية منفصلة قليلًا عن السياق الزمني العام، يستحقُ فيلم “ألف وواحد” أن يحظى بتقدير كبير، ليس لأجل جودته الفيلمية وقدرته على المُعاصرة فقط، ولكن لأنّه استطاع أن يرتكز على إرث موضوعه العِرقي، وأن يجعل من هذه المحليّة الأقلية حكاية سينمائية لها طبقات مُركّبة، تُشكّلها أسئلة حول الهوية، تعسّف القانون، وحول الأمومة وإشكالياتها كحالة ذاتية ومجتمعية.

يضعنا الفيلم أمام فكرة مُغايرة حول طبيعة الأفلام التي اعتدنا مُشاهدتها حول الأقليّات، خاصة  الآتية من اشتباك تاريخي طويل مثل الأمريكيين السود، وهو أن هذا العالم، لديه أيضًا مُفرداته الخاصة، التي من خلالها يُمكن تقديم تجربة تُعطينا إنطباعًا حول مسألة كونية، وربما تكون هذه الفكرة أكثر قدرة على دفعنا، كبشر، نحو التفكير في المساواة، فهمومنا مازالت واحدة.