تدور الميثولوجيا اليونانية حول آلهة تحرص على التوازن وتقمع التمرد والعصيان بلا رحمة، والتي يتسبب بهما البشر دومًا، توازن قاسٍ لا ينقذ شيئًا من تجربتنا الإنسانية المحدودة، إنما يذيب البشر في نظام وواقع أكبر منهم.
لوك فيري

في كتابه «أجمل قصة في تاريخ الفلسفة» يصف «لوك فيري» الميثولوجيا اليونانية بأنها فلسفة تدعو للتوازن، يعتمد هذا التوازن على أن يلعب كل مخلوق دوره وحسب في الخطة الكونية، ألا يتحرك ولا إنشًا واحدًا خارج مصيره المقرر له، يحرس هذا التوازن الصارم للكون آلهة متقلبة المزاج بقيادة «زيوس»، لا قيمة للبشر في تلك الميثولوجيا وخطتها الكونية، ليسوا إلا ضحايا لأمزجة الآلهة، وصور حزينة لاستعراض تلك الآلهة قُدراتها. أقل خطيئة أو هفوة يُمارسها البشر قد يُعاقبون لأجلها بجزاءات جهنمية وعذابات أبدية تفننت الأساطير والمرويات القديمة في وصفها.

يبدأ فيلم «إبراهيم الأبيض» بالحدث المؤسس لشخصية البطل في طفولته، وهو مصرع أبيه أمام ناظريه بينما هو يرتجف في حُضن أمه الهلوع، نُحاول تتبع سبب قتله لنجده خلافًا منبعه عراك طفولي بين «إبراهيم» وأحد الأطفال، تؤسس الحبكة بأكملها على خطيئة إغريقية، خطأ صغير جدًّا قام به إنسان خرج إنشًا عن دوره، ورد الصفعة لآخر أقوى منه بدلًا من أن يُدير له خده الأيسر صاغرًا.

 ينتقل بنا شريط الحكاية بعدها للطفل وهو يفر في عراك آخر، وخلال لهاثه يكبر ويصير البطل الذي نعرفه، كأن «إبراهيم» حياته ملعونة بعذاب أبدي مُستمر ومطاردة سيزيفية استهلكت صباه كاملًا. على مدى العراك نسير لاهثين خلف حركة الكاميرا، لا أحد ينجو من نصل السيف والسكين والسنجة، ولا وقت لتتوقف الكاميرا لتخبرنا بمصير من سقط أو تؤطر آلام أحدهم، الكل في حالة حركة بحثًا عن نجاته وهلاك عدوه، أحيانًا تأخذ الكاميرا زاوية علوية لنخرج من الغبار والدم، فيبدو الجميع على حقيقتهم، مثل نمل مسكين يتقاتل على قطعة سكر لا تراها من فرط العراك. عندها يظهر «عبد الملك زرزور»!

مشهد ظهور زرزور

يظهر «عبد الملك زرزور» مُطلًّا على العراك من علٍ، مثل إله، مثل «زيوس» الذي استيقظ على عراك بشري مزق توازن العالم للحظات، وعليه أن يتبدى بألوهيته لإنهائه واستعادة التوازن، يضغط «زرزور» على زناد رشاشه وفي لحظات ينفض الحشد ويؤتى بالبطل الإغريقي الذي تسبب بتلك الفوضى ليمثل في حضرة الآلهة لعقابه.

تؤسس تلك البداية العبقرية على بساطتها لعالم فيلم «إبراهيم الأبيض»، تدور حكايتنا في عالم خارج العالم الذي نألفه، عالم له ميثولوجيا خاصة تُشبه الميثولوجيا الإغريقية، فيها البشر لا قيمة لهم، يُمكن أن يموت المرء أو يُقطع لحمه لأتفه سبب، لعراك طفولي، لمروره من الشارع في الوقت الخطأ، لنظرة عابرة في وجه رجل يحمل سلاحه فيراها تحديًا. في كادرات هذا العالم نرى البيوت متاهات والأسطح مكشوفة كأنه عُمران مُصمم لإخفاء أفراده، ليختبئوا في اللحظة المُناسبة من بطش معركة نبتت من عدم، البطولة الحقيقية في هذا العالم هي للآلهة، لهذا يتوقف الكادر اللاهث ويتجمد لأول مرة عندما تحتل شخصية بعينها المشهد فتبدو أكبر من المباني والعُمران، تلك لحظة حضور زيوس أو الإله مُتقلب المزاج الذي صمم تلك المتاهة والقيوم على استمرارها.

إله يمارس مشيئته

الإنسان ضعيف.
عبد الملك زرزور

يقول الفنان الراحل «محمود عبد العزيز» إن صعوبة تجسيد «عبد الملك زرزور» تكمُن في كونه إلهًا، لكنه إله سجين جسد رجل عجوز اشتعل الشيب في رأسه، عُمره يُجاوز الثمانية والسبعين، لكن حضوره يُثير الرجفة في قلوب رجال غلاظ مفتولي العضلات، كيف يُمكن أن يجعل التمثيل ذلك المزيج قابلًا للتصديق؟

اعتمد حضور «عبد الملك زرزور» على لغة جسد ثابتة كجلمود صخر تكاد تظنه تمثالًا من فرط ثباته، يُحافظ على الثبات نفسه سواء يجلس في تأمل يُعد قهوته أو يُحيط أحدهم عنقه بسكين، لا يتحرك فيه سوى نظراته، بنظراته يمتنع الرجال المُثخنون بالجراح عن إيذاء «إبراهيم» الذي هاجمهم في عُقر دارهم، وبنظرة مُطولة تخترق روح رجله «شيبة» نُدرك أنه حقق في المسألة وأصدر حكمه عليه بالإعدام، بدون كلام يفهم الرجال حُكمه ويأخذون الضحية لهلاكها. تؤسس هيبة الشخصية كاملة بالنظر في عينيها وبرؤية انعكاس النظرة على خضوع الجميع في حضرتها، مع وقفات طويلة من صمت تملؤه لغة العيون. وعندما يتحدث «عبد الملك زرزور» ليُقرر مصير إبراهيم أخيرًا ينطق كلمة لا تليق إلا بإله: «أنا حييتك تاني».

إله بلا ماضٍ 

إذا رأيت نيوب الليث بارزة
 فلا تظُنن أن الليث يبتسم.
أبو الطيب المتنبي

ما يجعل شخصية «زيوس» مُرعبة في الميثولوجيا هي أنه يملك كل خطايا البشر، الشهوانية، الغضب، الشره، الغيرة، لكنه يملك معها قُدرات إله، مما يجعل هلاك العالم أو نجاته رهينة حالة مزاجية لا أكثر، يُعلل كثير من المؤرخين رسم شخصية «زيوس» بتلك الطريقة لأسطورة ميلاده.

 ولد زيوس للأب «كرونوس» الذي خاف أن يقتله أحد أبنائه مثلما قتل هو أباه، الجد الأكبر «أورانوس» لهذا يقوم كرونوس بابتلاع أبنائه واحدًا تلو الآخر بمُجرد ولادتهم، ينجو «زيوس» بخديعة من أمه «ريا» عندما تلقم كرونوس حجرًا ليبتلعه مكان ولدها، يكبر زيوس في كهف بعيد، وبعد زمن طويل يعود لينتقم بقتل أبيه وإخراج إخوته من جوفه.

لوحة كرونوس يقتل إبنه ( بيتر بول روبنز )

لا يمنح فيلم «إبراهيم الأبيض» أي ذكر لبداية «عبد الملك زرزور»، يقول «محمود عبد العزيز» إن السيناريو لم يذكر عن تاريخه شيئًا، كل أبنائه مُسجلين خطرًا وقضاياهم معروفة للسلطات، أما عبد الملك فوصل لسن 78 ولم تُثبت عليه قضية واحدة. 

وبينما يؤسس المشهد الأول للقسوة التي ولد من رحمها البطل «إبراهيم الأبيض»، لا توجد بداية مؤسسة لشخصية «عبد الملك زرزور»، تلك المجهولية تزيد من هالته كإله، يبدو قديمًا قدم العالم نفسه، لا تسري عليه شريعة الغاب التي تتحكم في مصير الجميع، بل يبدو هو مؤسس الغابة نفسها. يقول «محمود عبد العزيز» إن تلك المجهولية كانت المفتاح الذي جعله يصل لقلب الشخصية، ربما لأنها مجهولية يُغلفها ظلام موحش فيبدو «زرزور» قادمًا من قلبه مغلفًا بالظلمة نفسها.

في أحد المشاهد نرى «عبد الملك» يستخدم السواك، الأداة الأثيرة الموظفة دراميًّا لإبراز أنيابه، يُشبه أسدًا يقوم بسن أنيابه قبل الصيد، أو ربما بتنظيفها بعناية بعد الانتهاء من فريسته، كلا التوقعين يبثان في النفس الرعب نفسه، يقول «المتنبي»: إذا رأيت نيوب الليث بارزة***فلا تظُنن أن الليث يبتسم.

لا يتخلى «عبد الملك زرزور» في مشاهده عن الابتسامة الودودة والإيماءات الدينية الأقرب للتسليم بضعف الإنسان ومشيئة الرب، وبعد قراءة الفاتحة على روح أحد رجاله ينفرد بابنه الذي خطط للتخلص من «إبراهيم» دون مشاورته، تتحول مشاورة ودودة في لحظة إلى هجوم خاطف، يقوم بإخضاع الابن في هجمة أشبه بفعل الإخصاء، يُخبره أن بنوته له رهينة الولاء، أما الخيانة فتحول ابنه لعدو في التو.

يتبدى هذا باعتباره فعل العنف الأول الذي نرى «زرزور»  يتورط فيه بيديه، مثل أسطورة كرونوس، يؤسس «عبد الملك زرزور» لألوهيته المخيفة كقوة تجاوز روابط الأبوة، لا يؤنسن السيناريو شخصية «زرزور» بحضور ابنه ليبدو في حضرته أبًا حنونًا، بل يستغل الفرصة ليرفع عنه رداء الإنسانية ويُصوره كإله إغريقي، كرونوس شره لا يتورع عن ابتلاع أبنائه خوفًا من أن يتغير ولاؤهم ويخرجوا عن سلطانه.

زيوس يقع في الحُب

  –   وإيه اللي حايشه عنها ؟
يكفيك شر الراجل لما يحب مرة.
إبراهيم الأبيض

في الميثولوجيا اليونانية، كي يصير «أخيل» من الخالدين، كان على أمه أن تُغطسه في نهر «سيتكس»، تفصله تلك الخطوة وحسب عن الانتماء لعوالم الآلهة والخلود، تفعل أمه ذلك لكنها خلال تغطيسه تُمسكه من كعب قدمه، تغمر مياه الخلود جسده إلا كعب القدم، يُصبح بذلك الكعب نقطة ضعفه الأبدية، اللمسة البشرية الوحيدة في جسد إلهي، يتنبأ الكهنة أنه سيكون مغوارًا، لكن هلاكه سيأتي من قدمه، يُبلي «أخيل» بلاءً حسنًا في معركة «طروادة» لكن يُصيبه سهم في كعب القدم مما يُسهل قتله.

في الميثولوجيا اليونانية كل شخصية متألهة أو نصف متألهة تملك كعب أخيل، نُقطة ضعف بعينها، تحدث التراجيديا عندما تقود الأحداث دومًا لتلك النقطة، يؤتى البطل منها ويهلك، في هذا التكرار التراجيدي توكيد على القيمة المركزية للميثولوجيا وهي التوازن، الإفراط أو الإهمال ولو في نقطة واحدة قد يُهلك صاحبه.

تمنحنا حكاية «إبراهيم الأبيض» أخيرًا كعب أخيل الخاص بعبد الملك زرزور، عشقه لحورية، الطفلة التي تربت على يديه وشاهد في سنوات عمرها وهي تُطوى كيف تُغادر الطفولة منحنيات الجسد ليسكنه شيطان الأنوثة؟ نبتت الأنثى في حورية، وأثمرت مثل فوران هائل يُفسد أي توازن، بإثارته لكل غوايات اللذة ونداءات العشق، عندها وجد «عبد الملك زرزور» كعب أخيل خاصته.

كل حضور لشخصية حورية يؤنسن عبد الملك زرزور، مثلما أسست الحكاية لألوهيته بنظراته التي تُحيي وتُميت، تؤسس الحكاية لضعفه كذلك بنظراته، ومثلما كان الحضور الأول لعبد الملك زرزور، حضورًا مهيبًا لإله يعتلي تلة ويوقف معركة، يأتي حضوره في كادرات تذكره لحورية مثل متلصص، عيون متسعة وجسد عجوز محني يتلصص على أنوثة جامحة، خيال عجوز يرصد فرسًا جموحًا لا يدري هل يقدر على ترويضها أم لا؟

كل سمات الألوهة التي أسست لشخصية «عبد الملك زرزور» تُنتزع عنه في قسوة ليبدو لنا لأول مرة على حقيقته، رجل عجوز أشيب الشعر كسير القلب يتمنى الوصال.

يحكي «الغنام»، أحد رجاله، حكاية زرزور وحورية مثلما يروي أحدهم أسطورة تناقلتها الأسماع وأضفت عليها من الغرائبية ما جعلها نادرة من النوادر، يقول الغنام إنه رجل يملك سلطانًا يجعل أي امرأة تخضع له، ويملك القوة لإخضاع حورية نفسها لكنه لا يفعل، يكتفي فقط بقتل خُطابها واحدًا تلو الآخر، مثل كرونوس يبتلع الأبناء واحدًا تلو الآخر خوفًا من لحظة بعينها، لحظة أن تقع حورية بحُب أحدهم.

مثلما يؤسس «عبد الملك زرزور» عالمه كإله، يؤسس لجحيمه كذلك، يُريد أن يحوز قلب حبيبته برضاها، أن تأتيه طوعًا لا كرهًا، وفي سبيل ذلك ينتظر، ويجعلها تنتظر بإرهاب كل من يقترب منها، يبدو كإله قام بتجميد الزمن نفسه في انتظار أن تُذيبه لحظة رضا ووصال، لهذا عندما تحدث قصة حُب حورية وإبراهيم ينفجر السيناريو بكل مُمكناته مؤذنًا بالجحيم. 

بشري وإله في حُب حورية

من المستحيل أن يخدع إنسان فطنة زيوس، أو أن يفر من قدره.
الشاعر هزيود

تحضر «حورية» في الحكاية باعتبارها استثارة الضعف في صورته الأسمى، حضورها يؤنسن الجميع، يُذكرنا اسمها بحوريات البحر في ملحمة «الأوديسا» اليونانية، اللائي يُطربن آذان البحارة حتى ينسحروا وينتهي بهم الأمر غرقى في مطاردة الأغاني، سراب لا يستحوذ عليه أحد، في طيف منها لا تدور قصة «إبراهيم الأبيض» حول عنف واقعي في أحياء عشوائية مهمشة بل أسطورة قديمة تتوسل عناصر من الواقع لا أكثر، أسطورة يتنافس فيها إله وبشري على حب حورية سحرية.

لأجل تلك الحورية يُحاول البشري أن يصير إلهًا، لأجل «حورية» يُعادي «إبراهيم» العالم نفسه ويخسر ذكاءه ويتحول «غشيمًا»، والغشيم كما أسس له السيناريو هو العدو الوحيد الذي يُخيف إبراهيم، لأنه يدفعه للحدود القصوى، العشق غاشم وغشيم، لأنه يفعل الشيء نفسه، إما أن يقتلك أو يُحاصرك في زاوية ليجبرك أن تكون قاتلًا. 

بينما يتأنسن الإله لأجل حورية ويهبط «عبد الملك» من عليائه ويتبدى ضعفه للجميع، في أحد المشاهد يجلس في مضمار الخيل مثل خيال عجوز يئس من ملاحقة المُهر، حتى تحضر حورية فتتهلل ملامحه مثل طفل صغير وجد أمه.

زيوس جريحًا

 عندما حول زيوس كبير آلهة الأوليمب منتصف النهار إلى ليل، عندما أخفى ضوء الشمس الباهر، عندها حل الرعب في قلوب الرجال والبشر.
الشاعر أرخيلوخس 

في الميثولوجيا اليونانية يوجد طيف من حكاية الطوفان، في الطوفان اليوناني أمر «زيوس» بوسيدون إله البحر بإغراق البشر في طوفان من غضب، يهلك فيه الرجال جميعًا، تتفاوت من مصدر لآخر الأسباب التي لأجلها ألحق «زيوس» عقابه هذا بالبشر، لكنها تُذكرنا جميعًا بما هو عليه، كيان مزاجي يملك كل خطايا البشر وقُدرات الآلهة.

يتزوج «عبد الملك زرزور» حورية، ويُبعد إبراهيم الأبيض للسجن، ويؤسس بمكيدة مشهدية نهايته عند خروجه، وبينما ينزف إبراهيم بين يدي رجاله، يرى زرزور حورية وهي تنظر له في حُب، في أوج ألوهيته يوقن الإله أنه مهزوم، وأن الحورية رفضت تودد الإله لأجل بشري يشبهها. 

لهذا كما يليق الأمر بحكاية إغريقية مُتنكرة في ثوب ملحمة دموية، يختتم «زيوس» الحكاية بطوفان، يقتل رجاله إبراهيم وعشري صديقه، ويقتل هو حورية مانحًا المتلقين إطلالة أخيرة على وجهه بينما تزول عنه وحشيته ويذرف الدموع، في ذروة ألوهيته وطوفانه يسقط قناع الواثق ويتبدى ضعفه كاملًا، لا يبدو «عبد الملك» في قتله لحوريته مثل رجل مهووس قتل موضوع هوسه، بل يبدو مثل إله حطم للأبد النافذة الوحيدة التي تؤنسنه، التي يقوم عبرها بوصال جانب منه أقل شرًّا، في قتلها يمنحنا عبد الملك زرزور دموعًا أخيرًا، مثل إله طرد كل تصاريف الرحمة من عالمه وصار شرًّا خالصًا.

يقول الراحل «محمود عبد العزيز» إن مُلخص شخصية «عبد الملك زرزور» في ورق السيناريو لم يُجاوز أربعة أسطر في كادر بسيط، منها خلق ميثولوجيا كاملة، أجابت فيها حكاية شعبية تنتمي لعوالم البلطجية والمُخدرات في القلعة والإباجية عن سؤال: ماذا يُمكن أن يحدث لو وقع زيوس في حب حورية؟