في الـ26 من سبتمبر/ أيلول الماضي، التقيت المخرج المصري الكبير «داود عبد السيد» أثناء حضوره فعاليات مهرجان الجونة السينمائي. لم يكن الأمر مرتبًا، فقد التقيته صدفة قبل ذلك بيومين، عقب أحد العروض، سألته أن يشاركني حوارًا سينمائيًا، وافق الرجل على الفور بتواضع شديد، فكان هذا الحوار عن تأثير سينما «داود عبد السيد» فينا وفيه.


أستاذ داود، اسمح لي أن أبدأ بسؤال كلاسيكي شوية؛ كيف بدأ حبك للسينما؟

هو في حد ما بيحبش السينما؟! يمكن حبي للسينما بدأ لما شفت سينما مختلفة، في الستينيات، أفلام الموجة الفرنسية الجديدة تحديدًا، لما شفتها لقيت حاجة مختلفة عن السينما اللي أنا متعود عليها في الوقت ده، الأفلام الأمريكاني والأفلام المصري، يمكن ده جانب.. جانب تاني إني دخلت بلاتوه بالصدفة، مكنتش رايح مع حد، مجرد صدفة، وحصل لي حالة انبهار معرفتش سببها وقتها، ويمكن معرفتوش حتى الآن.

جميل.. ممكن نتكلم عن مجموعة من المشاهد اللي معلقة مع الناس طول الوقت، واللي معلقة معايا أنا شخصيًا..

بص هو الأهم اللي معلق معاك شخصيًا، ده في رأيي الأهم تتكلم عن إحساسك إنت، أنا عارف إنك صحفي والصحفيين بيحبوا يتكلموا بصيغة الناس، لكن رأيي إنك تتكلم على إحساسك إنت.

هحاول -مبستما- خلينا نبدأ بمشهد من فيلم «البحث عن سيد مرزوق»، في مشهد ممكن نسميه مشهد «الكلبش والكرسي»، البطل اللي بيقوم بدوره «نور الشريف» بيبقي متكلبش في كرسي لفترة طويلة في الفيلم، وبيدور على حد يفك له الكلبش، وبعد ما بيلف ويدور كتير بيكتشف في النهاية إن الكلبش واسع لدرجة إنه ممكن يطلع إيده منه، وإنه كان يقدر يعمل كده طول الوقت.. المشهد ده كنت دايما بفتكر رمزيته خلال سنوات الثورة اللي فاتت، إحنا كشباب دايما حاسين إن في قيود علينا، هل شايف إن دي حقيقة، مفيش قيود، والإنسان دايما هو اللي بيحط قيود على نفسه؟

ﻻ دايمًا في قيود، بس هو لما بيبقى في قيد أول حاجة بتفكر فيها إيه؟ أول حاجة هو إنك إزاي تخرج من القيد ده، إزاي تفك القيد ده، المشكلة إن أحيانا القمع بيوصلك لدرجة إنك تعتبر إن القيد ده قدر، إن دي حاجة منتهية، وبالتالي تقعد إنت اللي تقيد نفسك.. يعني مثلا في يناير/ كانون الثاني 2011 إيه اللي حصل؟

الناس نزلت، لو الناس كلها نزلت الشوارع في أي وقت هيكسروا القيد. طبعا ده كلام عام جدًا، علشان في شروط ﻻزم تكون متوافرة عندك بعد ما تكسر القيد، يمكن ده اللي مكنش موجود في يناير/ كانون الثاني، هي دي كانت المشكلة.. أنت عندك كام سنة؟

26 سنة، حضرت الثورة وكنت موجود فيها، وحاليًا يمكن شايف إن أحلامنا كانت ساذجة بعض الشيء.

ما هو ده اللي أنا بكلمك عنه، بس أنت عشتها وشفت وعرفت، وعرفت إنك محتاج وعي، ومحتاج تنظيم عشان تقدر فعلا تكسر القيد.

خلينا نروح لفيلم «الكيت كات»، مشهد موت «عم مجاهد» اللي يمكن ناس كتير بتعتبره واحد من أجمل مشاهد السينما المصرية، المشهد ده كان فيه جملة الناس دايما بتكررها؛ «الحكاية مش حكاية البيت يا عم مجاهد، المشكلة مشكلة الناس اللي عايشة، وﻻ زم تعيش».. هل شايف إن الجملة دي ممكن نعكسها على حالنا دلوقتي، إن ناس كتير بتتكلم عن الوطن، لكن محدش بيتكلم عن الناس؟

طبعًا.. ده مؤكد، الفكرة مش فكرة قصور تملكها، الفكرة فكرة أنت وأنا والآخرين، نفس فكرة الوعي اللي بتخرج من خلاله من القيد، انت هتخرج ليه؟ علشان نفسك والآخرين، علشان البشر.

«الكيت كات» هو في الأصل عن رواية «مالك الحزين»، لواحد من أعظم كتابنا؛ الأديب الراحل «إبراهيم أصلان»، أنا قرأت مالك الحزين بعد ما شفت الفيلم، وكنت متوقع أﻻقي الفيلم في الرواية، لكن لقيت شيء مختلف، إزاي حضرتك اخترت الشيخ حسني علشان تخليه محور الفيلم؟

هو الفيلم مش كله عن الشيخ حسني، الفليم عن يوسف، والهرم، وسليمان الصايغ، وعن غيرهم، وكل دول موجودين في الرواية، ولكن بالتأكيد لما تحول الرواية لفيلم بتخلق بناء مختلف عن بناء الرواية، بتحاول تعمل دراما وعمود فقري للأحداث، ومن خلال ده لقيت إن الشيخ حسني هو اللي ممكن يبقى الرابط بين كل الحكايات دي.

ننتقل لفيلم «أرض الخوف»، كان فيه جملة بتقول؛ «أنا لما ابتديت المهمة كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح، كنت متأكد من اللي بعمله، بعد كده ابتديت أحس إن أنا بأشوف الصورة من ورا الإزاز،، وبالتدريج ابتدت كده تتكون طبقة زي التراب، والتراب ابتدى يزيد لدرجة إن أنا مابقتش شايف أي حاجة»، المشهد ده، والجملة دي، كانت دايما بتخليني أتساءل، هل ممكن نتحول لنموذج من كل شيء كنا بنحارب ضده يوما ما؟ هل ممكن ننسى ذواتنا مع الوقت؟

أنت مش بتنسى ذاتك، بتنسى هدفك، يعني أنت شاب، عايز تشتغل وتنجح، يبقي عندك دخل معقول، تتجوز حبيبتك، إنما لو افترضنا إنك نجحت، بقى عندك فلوس، عاوز تكبر الفلوس طول الوقت، وبتنسى هدفك الأساسي اللي هو إنك تعيش حياة سعيدة، دايما الناس بتنسى هدفها في الحياة، ويمكن أنا بشوف ده شيء متكرر في البشر في أي حتة في العالم، أحيانا الناس مبيبقاش عندها أهداف، وأحيانا الناس بتنسى أهدافها.

في الكيت كات، البحث عن سيد مرزوق، أرض الأحلام، أرض الخوف، رسائل البحر، كان دايما هاجس الوحدة حاضر عند البطل، ليه دايما الوحدة كانت هاجس حاضر عند أبطالك؟

يمكن دي حالتي أنا، لأنك في حقيقة الأمر -سكت للحظات- مش بيقولك كل إنسان متعلق من عرقوبه،، بلاش، بص إحنا بنعيش في زخم الحياة والناس، لكن لما بنموت كل واحد بيموت لوحده، لو أنت مؤمن بما هو بعد الموت يبقي هتتحاسب، هتتحاسب لوحدك، لو أنت بتحب واحدة فأنت بتحبها لوحدك،، ممكن أنا أشوفها ومحبهاش، مثلا يعني أو العكس، لما بتخلف أطفال بتبقى مسئول عنهم تقريبا لوحدك، الوحدة قدر، الإنسان دايما بيحاول يتجاوز وحدته، وأنا برضه بحاول أتجاوز وحدتي، لكن أحيانا الوحدة بتبقى قدر بيعذبك، وبيبقى هاجس مستمر عندك.

في رابط كمان ملحوظ جدا في أعمالك، إيه العلاقة بين يحيى في أرض الخوف، ويحيى في رسائل البحر، ويحيى في قدرات غير عادية؟

حكاية الاسم يعني.. بص، كان ممكن يحيى يبقى أحمد في فيلم تاني، وعبدالله في فيلم تالت، لكن الفكرة إنك لمست تشابه في البطل، الموضوع راجع لطبيعة السينما اللي بقدمها، سينما المخرج المؤلف، وبالتالي أنا بعبر عن حاجة جوايا أكتر، فطبيعي تبقى متشابهة.

نقدر نقول إن يحيى انعكاس ليك؟

مش يحيى بس، حتى في الشخصيات التانية، حتى لو شخصية نسائية، في الفن بشكل عام كأنك بتقلع عريان، المفروض لو في كمبيوتر شاطر يقدر يقولك بالتفصيل إيه هي شخصية المؤلف بمجرد ما تعرض عليه مجموعة من أعماله.

في فيلم «قدرات غير عادية»، في جملة بتقول؛ «المراقب دايما متشكك» وفي قصيدة للشاعر الشاب «مصطفى إبراهيم» بيقول فيها «الشك عمره أطول من الحقيقة»، رأي حضرتك في فكرة الشك والحقيقة، هل الإنسان هيفضل طول عمره بيدور على الحقيقة ومش هيلاقيها؟

أعتقد ديكارت كان بيقول «الشك هو طريق الوصول للحقيقة»، الشك ده حاجة كويسة، يعني أنا بقول دايما أنا بكره اللي عندهم إيمان، مقصدش إيمان بالله، أقصد إيمان بأي حاجة، اللي هو إيمان ﻻ يداخله أي شك، دول ناس جهلة ومجانين، ونتيجة ده يعملوا كوارث، يعني زي ما أدبحك عشان عندي يقين إنك كافر، مبفكرش في لحظة إن أنا غلطان؟ أو اللي قالي كده غلطان؟ زي اللي حاولوا يقتلوا نجيب محفوظ مثلًا، وآخرين كتير، متأكدين، وشديد الإيمان، مش قصدي برضه الإيمان بالله، قصدي الإيمان بأي أفكار، ممكن الإيمان بالوطنية، ممكن الإيمان بالأخلاق، ممكن الإيمان بأي حاجة.

خلينا نرجع ونختم بسؤال تاني من «الكيت كات»، وبالتحديد نختم مع يوسف، يوسف كان بيقول للشيخ حسني، “يابا إنت ليه مش عايز تصدق إنك أعمي، إنت أعمي يابا”، يوسف كان طول الفيلم عنده هاجس إنه يسافر ويشوف الدنيا لأنه حاسس إن حياته مش هنا، مش في مصر، حاليًا يمكن نسة كبيرة من الشباب الجامعي أو المتعلم اللي شبه يوسف عاوز يسافر، تحب تقول إيه للشباب اللي في سني وفي سن يوسف وعاوزين يسيبوا البلد؟

أقولهم ﻻزم تعيشوا حياتكم، لو قدرتوا تعيشوها هنا عيشوها هنا، مقدرتوش وهتعيشوها لو هاجرتوا؟ هاجروا، لو مقدرتوش تغيروا هنا.. على الأقل غيروا حياتكم.


شكرت الأستاذ داود على الحوار، ثم استأذنته في البقاء لالتقاط بعض الصور، كنت قد رتبت الأمر مع صديق مصور التقيته صدفة أيضًا في الجونة، لم أجده للأسف، وتطوع صديق آخر لتصويرنا بهاتفه المحمول، لم يكن الأستاذ داود مرحبا وودودًا فحسب، ولكنه وقف أيضًا -وهو المخرج الكبير الذي تجاوز السبعين- وساعدنا في ضبط الإضاءة، حمل أحد الكشافات بنفسه وغير اتجاهها، أخبرني بأن الإضاءة العالية تسطح كل شيء، علينا بالموازنة بين الإضاءة والظلال.

التقطنا الصور، ثم شكرته مرة أخرى، شكرني هو الآخر. سألني عن دراستي ومدينتي، فأخبرته أنني طبيب من طنطا، فقال إنه يحب «يوسف إدريس» ويجد أن جزءًا من عبقريته أنه كان طبيبًا، وأنه عاش بين الفلاحين، وأنه كان شيوعيًا. قال هذا وابتسم، ثم تصافحنا ورحل.