العندليب الأسمر، المغني صاحب النجاح الجماهيري الأكبر سينمائيًّا في تاريخ الفن المصري، 16 فيلمًا من بطولته، وعشرات الأغاني المقدمة في هذه الأفلام، وحكاية شخصية ملهمة وحزينة للغاية تبدو حاضرة في خلفية كل هذا.

«حليم» ابن قرية الحلوات بمحافظة الشرقية، الشاب الذي كافح من أجل أن يصل صوته للجمهور، والرجل الذي عانى اليتم والمرض والحرمان من الحب، وفتى أحلام فتيات مصر الذي شهدت جنازته بكاء الملايين ومحاولات انتحار العشرات.

اليوم نتتبع معكم 5 أفلام أسس بها حليم لنوع سينمائي خاص في تاريخ السينما المصرية، نوع يمكننا تسميته «أفلام رحلة الصعود»، أو باللفظ الذي طالما كرره حليم وهو «الوصول للمجد». نوع بدأه حليم من فيلمه الأول في السينما وهو «لحن الوفاء» في عام 1955، وصولًا إلى فيلمه قبل الأخير، وهو «معبودة الجماهير» في عام 1967، أفلام يبدو معها حليم وكأنه يحكي نفس الحكاية، حكايته الشخصية، ورغم تكراره لها فإنه نجح أن يصنع خلطة جماهيرية أثبتت نجاحها في كل مرة.


الفقر والبداية

البطل في خماسية «الوصول للمجد» شاب فقير، منعدم، لا يملك سوى موهبته. جلال في «لحن الوفاء» طفل يتيم يرعاه الموسيقار علام بعد أن توفي والده، ويعيش الاثنان متنقلان بين المقاهي والشوارع. محمود فتحي في «دليلة» يعيش في بيت مهدم ويعمل ككهربائي رغم موهبته في التلحين والغناء. عبد المنعم في «شارع الحب» فتى يتيم وفقير يحيا متخفيًا برفقة عم جاد الله الموسيقار الهارب. أحمد سامي في «حكاية حب» يعمل كمدرس موسيقى في مدرسة صغيرة، ويرعى أمه الكفيفة وأخاه الصغير. وإبراهيم في «معبودة الجماهير» ممثل مغمور ومغنٍ لم يسمع عنه أحد.

الحكاية واحدة إذن، وتبدو قريبة للغاية من حكاية حليم نفسه، الفتى اليتيم الذي توفيت والدته بعد ميلاده بعدة أيام، وتوفي والده قبل أن يتم عامه الأول. كافح منذ صغره، وعمل كمدرس للموسيقى أيضًا في مدارس صغيرة بطنطا والزقازيق.

البطل الفقير الذي يعاني من اليتم والذي يعلم الجمهور أنه حليم نفسه، جعل من كل هؤلاء وجوهًا محتملة لحكاية حليم الحقيقية، وجوهًا ارتبط بها الجمهور المصري الكادح والمتطلع حديثًا للترقي الطبقي وتحقيق أحلامه عقب ثورة/انقلاب يوليو 1952. كان حليم هو النموذج والقدوة لشباب هذا الجيل، هم يرون الفتى الفقير ويعلمون أنه سيحقق حلمه في النهاية؛ لأن حليم قد حقق هذا بالفعل.


الصديق الكوميدي

ملمح آخر مميز في أفلام حليم الخمسة، هي أنها احتوت جميعها على جرعة ليست صغيرة من الكوميديا، كوميديا تمثلت بشكل شبه دائم في صديق البطل خفيف الظل. يؤمن هذا الصديق بموهبة البطل ويسانده ويوفر له حقلًا لا ينضب من المواقف الكوميدية. هذا الصديق هو عبد السلام النابلسي في دور الموسيقار الشعبي حسب الله في «شارع الحب»، وفي دور رفعت السناكحلي في «حكاية حب». وهو فؤاد المهندس في دور زغلول هدايت في «دليلة»، أما جرعة الكوميديا في «لحن الوفاء» فيقع جزء كبير منها على شادية في دور سهام عبد السلام محمد أحمد السمبليني، تبدو جميع الأسماء ذات وقع كوميدي للوهلة الأولى.

الفيلم الوحيد الذي يبدو كاستثناء هو «دليلة»، حيث يغيب صديق البطل، وتغيب الكوميديا بشكل كبير، وللمفارقة فهو أحد أقل أفلام حليم جماهيرية حتى اليوم، رغم أنه كان أول أفلامه الملونة.

تزيد إذن جرعة الكوميديا وتقل، لكن حليم يبدو مدركًا لأهميتها، ويعطي المساحة بطله الثاني في خلق مساراته. يبدو هذا متجسدًا بشكل مكتمل في «شارع الحب»، حيث للموسيقار حسب الله وفرقته الموسيقية الكوميدية بشكل مكتمل، كما أن له حكايته الشخصية مع حبيبته سنية ترتر التي قامت بدورها الفنانة الكوميدية الكبيرة زينات صدقي. يستمتع الجمهور إذن في أفلام حليم بأغاني المطرب الذي يحبونه، ورحلة صعوده، بالإضافة لجرعة متميزة من الكوميديا.


قصة الحب وفتاة الأحلام

أفلام حليم تحوي أمرًا واحدًا مختلفًا عن حكايته الشخصية، ألا وهو قصة الحب الواضحة التي تصل لحد التحقق. أفلام صعود حليم كلها تقوم ببطولتها النسائية فتاة جميلة، تشبه أميرات القصص الخيالية، يحبها البطل، تمر قصتهما بأزمة عنيفة، وتنتهي الحكاية عادةً بارتباطهما سويًّا.

في «لحن الوفاء» يحب جلال سهام، التي تقوم بدورها شادية، ثم يعود في نهاية الخماسية ليحب سهير التي تقوم بدروها شادية أيضًا في «معبودة الجماهير». قصة الحب تحدث عادة مع فنانة، غنية، وجميلة، إذ يتكرر الأمر مع صباح في دور كريمة في «شارع الحب»، كما أن مريم فخر الدين في دور نادية في «حكاية حب» ليست باستثناء، رغم كونها ليست مغنية، فهي أيضا فتاة جميلة ابنة حسب ونسب، غنية ومن عائلة كبيرة ويبدو الفقر والمرض حائلًا بينها وبين البطل.

تتحقق حكاية الحب في النهاية رغم كل الصعوبات، ويبدو الوصول للمجد قرينًا بتحققها، ومرة أخرى يبدو الاستثناء الوحيد في هذا هو فيلم «دليلة» صاحب الاستقبال الجماهيري الفاتر نسبيًّا، حيث دليلة التي تقوم بدورها شادية فتاة فقيرة ومريضة. قصة الحب هنا تبدو كعائق، وتضحية الحبيبة بنفسها تصبح خطوة لتحرير البطل ووصوله للمجد.

تبدو أفلام حليم إذن في هذه النقطة بالذات بديلًا لجمهوره عن الغموض الذي أحاط حياته الشخصية وقصص حبه، قصص حبه التي نعلم بالتأكيد أنها لم تصل لهذه الدرجة من التحقق والعلانية، سواء بحبيبته المجهولة التي سمعنا عنها من خلال حكايات المقربين منه، أو بسعاد حسني التي تختلف الأقاويل حول علاقتها به.

أراد جمهور حليم أن يروا بطلهم المحبوب الذي عانى ينجح، يصل للمجد، ويحقق الحب، وأعطاهم حليم في أفلامه تلك ما أرادوه.


عن الغناء ولكنها ليست غنائية

خماسية رحلة الوصول للمجد التي قام ببطولتها حليم احتوت على العديد من أغانيه، لكنها على الرغم من ذلك لا يمكن تصنيفها كأفلام غنائية. الاستعراضات في تلك الأفلام قليلة للغاية، كما أن معظم الأغاني تبدو كفواصل داخل عملية سرد الحكاية، بل إن أغلبها يتم تأديته على المسرح وكأننا نتوقف عن مشاهدة الفيلم للحظات ونشاهد حليم نفسه في أحد حفلاته. الاستثناءات القليلة لهذه الطريقة حدث من خلال أغاني مثل «قولوله» من فيلم «شارع الحب»، والذي شهد مشاركة الحارة الشعبية بمكوناتها للاحتفال بنجاح ابنها عبد المنعم، وبشكل أقل من خلال «حاجة غريبة» في معبودة الجماهير، حيث تؤدي دندنة البطل ومحبوبته لانكشاف قصة حبهما للصحافة.

لكن هذه الاستثناءات لم تتكرر كثيرًا في أفلام حليم، فظهرت معظم الأغاني كسقطات في تطور الأحداث حتى لو لم يتم تأديتها على المسرح. هذه أفلام مليئة بالأغاني إذن لكنها ليست غنائية بأي حال من الأحوال، وعلى الرغم من ذلك فقد ضمن أداء حليم وألحان وكلمات فناني جيله، نجاح أدائه لأغانيه المحبوبة ضمن هذه الأفلام. يعلم الجمهور إذن أنهم يشاهدون مطربهم، حليم، حتى وإن ظهر باسم مختلف وفي سياق قصة مختلف، فإنه يعود ليذكرهم بذلك بمجرد أن يبدأ بالغناء.


النوع يستمر بنسخ مقلدة

هذا النوع الفيلمي الذي أسسه حليم ونجح فيه وأجاده استمر لسنين طويلة عقب رحيله، وفي حين اختار مطربو جيله أشكالًا مختلفة لأفلامهم، غلب عليها الكوميديا بالأساس خصوصًا في حالة محمد فوزي وفريد الأطرش، اختار مطربو أجيال قادمة أن يعيدوا نفس الخلطة، بنسخ مكررة لرحلة الوصول للمجد.

نرى هذا بشكل واضح للغاية في أفلام محمد فؤاد، ونقصد هنا بالتحديد فيملي «إسماعيلية رايح جاي»، و«رحلة حب»، يعيد فؤاد استخدام تيمة البطل الفقير الذي يعاني، صاحب موهبة الغناء، الذي يملك صديقًا كوميديًّا خفيف الظل للغاية، يختار هنا فؤاد كلًّا من محمد هنيدي وأحمد حلمي لهذه المهمة، بالإضافة لحبه لفتاة جميلة يرتبط وصوله لها بتحقيقه لحلم الوصول للمجد، يتخلل هذا فواصل غنائية تبدو خارج السرد الفيلمي بشكل مكتمل.

يكرر المطرب الراحل عامر منيب هذه الخلطة في فيلم «كيمو وأنتيمو» عام 2004، يشاركه فيه البطولة صديقه الممثل الكوميدي طارق عبد العزيز في دور حمو. مرة أخرى من خلال رحلة مطرب وصديقه الملحن من الفقر المدقع إلى تحقيق المال والشهرة، ليجد المطرب الحب في طريقه ليصبح تحدي الحب والمجد مجتمعين في رحلة واحدة.

الجدير بالذكر أن «إسماعيلية رايح جاي» هو أنجح أفلام فؤاد حتى اليوم، وهو الفيلم الذي يؤرخ به لبداية موجة أفلام السينما النظيفة في التسعينيات وأول الألفية الثانية، في حين أن «رحلة حب» يعتبر بمثابة أحد أنجح أفلام تلك الفترة كذلك. لم تستمر مغامرة عامر منيب طويلًا لكن هذا الفيلم من أنجح أفلامه جماهيريًّا خصوصًا حينما تم عرضه تليفزيونيًّا. يبدو إذن أن النوع الفيلمي الذي أسسه حليم ما زال يحقق النجاح الجماهيري، وما زال قادرًا على لمس أرواح وأحلام الشباب الكادح والحالم بالمجد والحب.

على الرغم من ذلك لا يمكننا أن نختتم رحلتنا دون أن نذكر أننا لا يمكننا المقارنة بين أي من هذه المحاولات وبين أفلام حليم؛ لأن لحليم نقطة تفرد لا يمكن لأحد أن يتفوق عليها، وهي أن حكايته الشخصية الحقيقية كانت أكثر إلهامًا لأفلامه من أي حكاية شخصية أخرى لأي مطرب مصري آخر. ليظل العندليب في النهاية وحيدًا في صدارة المطربين المصريين الناجحين على المستوى السينمائي.