بعد أن أطلق صاموئيل هنتجتون كتابه في الصدام بين الحضارات الذي ذهب فيه إلى إثبات التصادم بين الحضارة الإسلامية والديمقراطية الليبرالية، وأشار إلى أن الخلافات الثقافية والفكرية هي التي ستؤدي إلى عديد من التوترات والنزاعات في العالم وتكون العامل الرئيس في الصراع جاءت الدراسات الأمريكية فيما بعد لإحداث سياسة جديدة تقوم على الدبلوماسية الروحية وعلمنة القيم الثقافية والدينية بمشاريع مختلفة تهدف إلى تذويب الفروقات بين الأديان وبلورة دين ناعم يغض الطرف عن النزاعات والمشاحنات السياسية.

وقد قدمت مراكز الفكر الأمريكية والغربية مخططات تعمل على تحقيق الأهداف السياسية من خلال العقائد والتقاليد الدينية التي تمسّ القلب وبذلك تستطيع أن تنتج وعيًا داعمًا لها من قبل أتباع الديانات المختلفة وكان «الدين الإبراهيمي» أحد هذه المشاريع التي يراد لها تغيير مستقبل المنطقة العربية.

الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي

تعود إرهاصات مفهوم «الدبلوماسية الروحية» و«المشترك الإبراهيمي» إلى مطلع الألفية كمدخل إلى حل الصراعات ذات الأبعاد الدينية، وتقول الباحثة هبة جمال الدين، إن الديانة الإبراهيمية تعود نسبتها إلى إبراهيم -عليه السلام- الذي يحتل مكانة وقدسية داخل أتباع الأديان الثلاث لذلك تم اختياره ليعبر عن المشترك الروحي ويزيل الخلافات القائمة بين الأبناء وذلك لتحقيق تراث مشترك.[1]

ولم يتحوّل اسم إبراهيم إلى اصطلاح بحثي بحسب فتحي المسكيني إلا في الخمسينيات من القرن العشرين، حيث يقول، إن لويس ماسينيون قد رسخ هذا المصطلح في مقالة نشرها عام 1949 تحت عنوان: «الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب كلّ المؤمنين»، ثمّ تحوّلت «الديانات الإبراهيمية» إلى حقل دراسات مستقلة بنفسها.

ولقد حاولت الدراسات الاستشراقية التأكيد على أن الإسلام متأثر باليهودية والمسيحية وأنها جميعًا لها أصل مشترك واحد وقد انتهج المستشرقون اليهود هذا المسلك الخطير لتخترق اليهودية والصهيونية العالم الإسلامي، كما يهدفون إلى تكريس الاعتراف المتبادل والمتجدد بين الأديان الثلاث وهذا ما تؤكده دراسات جولدتسيهر وإبراهام غايغر.

ويعتبر أنصار هذا التوجه أن الدين هو أحد مصادر الخلاف والصراع القائم، وعليه فإذا أردنا إحلال السلام فيكون ذلك عبر الاتفاق للوصول إلى أفق يخدم السلام بين الحضارات، وقد حاولت الإدارة الأمريكية التأسيس والترويج لهذا المشترك الإبراهيمي عبر برنامجها لأبحاث ودراسات الحرب والسلام، وأبحاث جامعة هارفارد.[2]

إن هذا التحول في الطرح الغربي الذي يعد الدين مصدرًا للحل بدل أن يكون سببًا للصراع سيسهم بحسب الباحثين في تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر وفقًا لرؤية البنك الدولي، وصندوق النقد، وذلك عبر خلق سلام ديني ينادي بحل الخلافات والنزاعات السياسية والإقليمية، وبالتالي يتم دمج القادة الروحيين مع الدبلوماسيين والساسة في ساحات مشتركة للحوار ويسهم القادة الروحيون في حل النزاع وفقًا للقيم المشتركة.[3]

ووفقًا للمؤرخ الأمريكي فوكوياما، فإن الهيمنة الأمريكية على العالم العربي ستكون من خلال صهر الأديان الثلاثة والبحث عن مصدر للقواعد الاجتماعية غير الثابتة والمتجسدة في القيم الأخلاقية المشتركة.

ولقد قدمت جامعة هارفارد مشروعًا للمنطقة تحت شعار «معًا نصلي» وهو مدخل لترويج السلام الديني العالمي، وذلك بخلق مناسك ومقدسات مشتركة بين الأديان الثلاث ويقدم هذا المسار لتسوية الصراع العربي -الإسرائيلي.

ويرى دعاة الإبراهيمية إلى أن الوحدة السماوية تساعد على إقامة تجربة مشتركة من الإيمان والوصول إلى شكل من أشكال الحرية الدينية الرفيعة وهذا ما يعمل على بناء أسس مجتمع إنساني عالمي بطبعه فيركزون على مبدأ الوفاق والمشترك العام، مثل: الإيمان بالله، والبعث، والعمل الصالح في الحياة. أما غير ذلك من أسس قضايا التوحيد والعقيدة والتشريع فهي أمور ثانوية لا تسهم في بناء مجتمع إنساني قائم على ديانة واحدة.[4]

أصداء الدين الإبراهيمي في العالم العربي

عربيًا بات مصطلح «الدين الإبراهيمي» الأكثر تداولًا ضمن سياسات توظيفية فقد بذلت الولايات المتحدة الأمريكية جهدًا كبيرًا لإحداث هذا البرنامج في الشرق الأوسط بخاصة بعد التطبيع بين كل من الإمارات والبحرين مع الكيان الصهيوني المحتل برعاية أمريكية وبحضور ممثلي الدول الثلاث مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

حتى إنه أثناء انعقاد المؤتمر شرح السفير الأمريكي في دولة الكيان الصهيوني دافيد فريدمان معنى كلمة «إبراهم» على وثيقة التطبيع، التي تعني إمكانية الوحدة بين الأديان الثلاث تحت مسمى «إبراهم».

وقد كان لنتائج هذه المؤتمرات إحداث ما يسمى بـ«صلاة الخميس» التي دعت إليها لجنة الأخوة الإنسانية في الإمارات للمشاركة في صلاة خاصة تجمع بين رجال الدين من مختلف الأديان السماوية الثلاثة ليرفع الله الوباء عن العالم.

كما قام البابا فرانسيس بصلاة جماعية في مدينة أور بالعراق، التي يقع فيها بيت إبراهيم -عليه السلام- كما وأنشأت الإمارات مجمعًا روحيًا يضم الأديان الثلاث تحت اسم «البيت الإبراهيمي».

الأزهر والدين الإبراهيمي

بعد حادث كنيسة القديسين بالإسكندرية في مصر جاء مشروع بيت العائلة المصرية الذي ينادي بالتعايش والسلم بين الأديان، وفي هذه المناسبة ألقى شيخ الأزهر أحمد الطيب كلمة أثارت جدلًا واسعًا، حيث بيّن فيها أن التعايش بين الأديان لا يعني تذويب الفروقات في ما بينها ومزجها في دين واحد بحسب الدعوة الإبراهيمية. كما تساءل كثيرون عن سبب هذا التصريح الواضح لشيخ الأزهر، هل هو لمجرد المناسبة أم أنه جاء ردًا على ضغوطات خارجية تمارس على الأزهر ليُقرّ بهذا المشروع الخطير؟

ووصف شيخ الأزهر هذا الدين الإبراهيمي بأنه بلا طعم ولا لون ولا رائحة، وأنه دعوة حالمة لا تدرك الأمور بحقائقها وطبائعها وذلك لأن الله تعالى، سنّ الخلاف بين الخلق ومن المحال اجتماع الخلق على دين واحد. كما ونبه إلى أن الاحترام الديني شيء والإيمان بها شيء آخر. كما يعد هذا الدين الإبراهيمي مصادرة على أغلى ما يملكه الإنسان وهو حرية الاعتقاد الديني.

كما وأشار عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف محمود مهنا إلى أن الدين الإبراهيمي تقوم عليه مراكز بحثية ضخمة وغامضة، وأطلقت على نفسها اسم «مراكز الدبلوماسية الروحية». ونبّه إلى أن هذه المراكز تدّعي التنوير والتدين وتعمل على إعادة تأويل النص الديني تمهيدًا للأغراض السياسية.

ملّة إبراهيم

إن فكرة الدين الإبراهيمي تمثل عنوانًا لافتًا ومعسولًا لكنه في حقيقته يهدف إلى تصفية القضايا العربية وعلى رأسها الصراع العربي -الإسرائيلي وذلك بالتطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل علني وصريح ومحاولة لإنهاء الإسلام السياسي.

إن هذه الفكرة وإن كانت تستند إلى أن إبراهيم (عليه السلام) هو أبٌ للديانات الثلاث وتضفي على نفسها الغطاء الديني بدعوة التسامح والاحترام غير أنها استغلال سياسي بائن. ولقد كانت هذه البدايات لإتمام مشروع صفقة القرن، التي تهدف إلى الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني وذلك عبر توظيف الديني وجعله شماعة للأهداف السياسية.

المراجع
  1. هبة جمال الدين، الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي، مركز دراسات الوحدة، عدد 504، ص 36.
  2. حمدان عبد الحق، التوجه الإبراهيمي الجديد والدبلوماسية الروحية، مركز المجدد للبحوث ، ص 5، 6.
  3. هبة جمال الدين، الدبلوماسية الروحية: مسار جديد ومخاطر كامنة وسياسات بديلة لصنع القرار، ص 16.
  4. حسن بن إدريس، الإبراهيمية دعوة باطلة.