خلال لقاء مرئي بثته مؤسسة الفرقان الإعلامية، في أبريل/نيسان 2019، أشاد أبو بكر البغدادي، خليفة داعش آنذاك، بالدور الذي يلعبه أبو الوليد الصحراوي، زعيم داعش في منطقة الساحل والصحراء، في تعزيز وجود التنظيم في تلك المنطقة، قائلًا: (أما ما يخص بيعة إخوانكم في مالي، وبوركينا فاسو فنبارك لهم البيعة ونسأل الله أن يحفظهم وأن يحفظ أخانا أبا الوليد الصحراوي، ونوصيهم بأن يكثفوا ضرباتهم ضد فرنسا وحلفائها، وأن يثأروا لإخوانهم في العراق والشام).

مثلت كلمة البغدادي التي نُشرت بعد نحو شهر من سقوط آخر معاقل «الخلافة المكانية» في قرية الباغوز فوقاني السورية (مارس/ آذار 2019)، اعترافًا بجهود ونشاط فرع داعش في الساحل والصحراء وزعيمه، لحبيب عبدي سعيد، والشهير بعدنان أبي الوليد الصحرواي، وتأكيدًا على تحول استراتيجية التنظيم لـ «الحرب الاستنزافية» المعتمدة على مبدأ فتح جبهات متعددة ضد الأعداء في آن واحد، اعتمادًا على الأفرع الخارجية في أفريقيا وآسيا.

وبعد نحو 6 أشهر على كلمة البغدادي، أعلن برنامج مكافآت من أجل العدالة التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، رصد مكافأة قدرها 5 ملايين دولار، لمن يُدلي بمعلومات تؤدي لقتل أو اعتقال أبي الوليد الصحراوي، الذي برز اسمه بشكل لافت في أوساط التنظيمات الإرهابية في الصحراء الأفريقية الكبرى.

رحلة تحولات معتادة

كان بروز اسم الصحراوي على المشهد الجهادي العالمي بمثابة التتويج لمسيرة طويلة من العمل في أوساط الجماعات المسلحة بشمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء الكبرى، إلا أن البدايات الحقيقية لـلحبيب عبدي سعيد (اسمه الحقيقي، المولود عام 1973)، ترجع إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي.

ففي تلك الفترة، حصل الشاب الصحراوي المولود بمدينة العيون (خاضعة للسيطرة المغربية، وتقع ضمن الصحراء الغربية المتنازع عليها بين الجزائر والمغرب) والذي نشأ بمخيم «تندوف» للاجئين بالجزائر، على معدلٍ عالٍ في «البكالوريا الوطنية»، ورُشح للدراسة بجامعة منتوري (مدينة قسنطينة) الجزائرية، غير أنه جرى إهمال نتيجته العالية في «البكالوريا» وتحويله إجباريًّا للدراسة بشعبة «علم المكتبات» في الجامعة، دون مراعاة تفوقه ومعدله في الشهادة السابقة.

وترك «التمييز السلبي» الذي قامت به السلطات الجزائرية أثرًا غائرًا في نفسية الشاب الصحراوي، كما يقول زميله التاقي مولاي إبراهيم، البرلماني السابق في البرلمان الصحراوي («الجمهورية العربية الصحراوية» المعلنة ذاتيًّا في الصحراء الغربية).

ولاحقًا، بدأ لحبيب عبدي سعيد تدخين السجائر للتخلص من الضغوط النفسية الواقعة على كاهله بسبب التخصص الدراسي الذي أُجبر عليه، وواصل العمل على تغيير تخصصه بأي طريقة ممكنة، إلى أن نجح في الانتقال من دراسة «المكتبات» إلى دراسة علم الاجتماع بحلول العام الدراسي 1994/ 1995.

وخلال دراسته الجامعية، برزت مواهب لحبيب عبدي سعيد/أبي الوليد الصحراوي، واعتداده بنفسه، فكان يستطيع أن يأسر المتحدثين معه بطريقته الجذابة، كما نجح في تَعلم عدة لغات (الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية) بصورة ذاتية، وواصل لعب الكرة التي تمتع فيها بمهارة كبيرة.

 وبحلول عام 1997، تخرج الصحراوي من جامعة منتوري، لكنه اتجه للانضمام إلى الجماعة الإسلامية المسلحة، التي خاضت قتالًا ضد الجيش الجزائري، في غضون العشرية السوداء (1991: 2002)، ثم انضم بعد ذلك إلى «منظمة الشبيبة الصحراوية» (اتحاد الشباب الصحراوي) (تابعة لجبهة البوليساريو) ونشط في استقبال الوفود الأجنبية أثناء زيارتها لمسقط رأسه في مخيم «تندوف»، وانضم، في عام 2004، إلى حركة «أحرار تندوف» التي تحولت إلى ميليشيات مسلحة، بعد ذلك، وراجت شائعات عن وجود علاقة غير معلنة بينها وبين اللواء سعيد شنقريحة، قائد المنطقة العسكرية الثالثة بالجيش الجزائري حينها، ورئيس الأركان حاليًّا.

على درب الجهاديين

وفي عام 2010، قرر أبو الوليد الصحراوي الالتحاق برفاقه من الجهاديين الجزائريين الذين انتقلوا، إلى شمال مالي منذ العقد الأول في الألفية الحالية. ومن داخل تلك البقعة، أعلن مع عدد من نشطاء القاعدة السابقين (أبرزهم سلطان ولد بادي، وحماد بن محمد ولد خيري) تأسيس حركة «التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» التي جمعت بين صفوفها مزيجًا من المقاتلين العقديين وتجار المخدرات السابقين، ونجحت في اجتذاب العشرات من المقاتلين بصورة سريعة، لتصبح واحدةً من الجماعات الفاعلة في المنطقة التي كانت تعيش على وقع فوضى واضطراب أمني واضح.

بيد أن الحركة الوليدة تبنت أيديولوجية متشددة واتبعت نهجًا صارمًا لبناء علامتها الجهادية المتمايزة عن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، كما أكدت أنها امتداد للحركة الجهادية المعولمة/العابرة للحدود الوطنية، وبذلك صارت معروفة بأنها «أخطر منظمة إرهابية في شمال مالي».

وشاركت «التوحيد والجهاد» إلى جانب حركتي أنصار الدين (الموالية للقاعدة)، وتحرير أزواد (مجموعة إثنية قومية)، في السيطرة على شمال مالي، في 2012، وسيطرت في يونيو/حزيران من نفس العام على مدينة «غاو» المالية بعدما انقلبت على حركة تحرير أزواد، وطردت مقاتليها من المدينة.

وعمدت حركة «التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» إلى اتباع أسلوب الخطف والفدية لتمويل عملياتها، فاختطفت في أكتوبر/تشرين الأول 2011، ثلاثة أوروبيين (إسبانيين اثنين وإيطالية)، وطلبت فدية قدرها 30 مليون يورو، مقابل الإفراج عنهم.

وفي أبريل/ نيسان 2012، اختطفت الحركة سبعة دبلوماسيين من القنصلية الجزائرية في مالي وطلبت إطلاق سراح سجناء تابعين لها وتقديم فدية قدرها 15 مليون يورو، لإطلاق سراحهم، وذلك قبل أن يُعلن أبو الوليد الصحراوي إعدام أحد الرهائن (الدبلوماسي الطاهر تواتي) بسبب رفض الحكومة الجزائرية الاستجابة لمطالب حركته.

وبالتوازي مع توسعها في اختطاف الرهائن الأجانب، تحالفت حركة التوحيد والجهاد، في عام 2013، مع كتيبة «المرابطين» بقيادة الجزائري مختار بلمختار، وعملا معًا بصورة منسقة حتى عام 2014، والتي شهدت انقسامًا جهاديًّا على الولاء والتبعية لتنظيم القاعدة أو داعش.

وأعلن محمد ولد خيري، القيادي البارز بالتوحيد والجهاد، في بيان معنون بـ «النصرة الأزوادية للدولة الإسلامية»، بيعة الحركة لأبي بكر البغدادي، زعيم داعش، بينما بقي أبو الوليد الصحراوي، نشطًا في صفوف «المرابطين» حتى مايو/ آيار 2015، إذ أعلن حينها بيعته لـ «داعش» عبر بيان صوتي قال فيه: «تعلن جماعة «المرابطبن» بيعتها لأمير المؤمنين وخليفة المسلمين أبي بكر البغدادي، وذلك من أجل لزوم الجماعة، ونبذ الفرقة والاختلاف».

بيد أن كتيبة «المرابطين»، نفت على لسان قائدها مختار بلمختار، انضمامها لتنظيم داعش مؤكدةً تمسكها ببيعتها السابقة لتنظيم القاعدة وأميره أيمن الظواهري، ما حدا بـ «الصحراوي» للانشقاق ومواصلة العمل تحت شعار «داعش».

في ركب «داعش»

وعقب نحو عام من إعلان البيعة، أشار تنظيم «داعش» لأبي الوليد الصحراوي في صحيفته الأسبوعية (النبأ)، وعبر مقطع مرئي بثته وكالة أعماق الإخبارية (إحدى أذرع التنظيم الدعائية)، ظهر فيه الصحراوي وعدد من المسلحين وهم يؤدون يمين الولاء لزعيم التنظيم الإرهابي.

لكن اعتراف «داعش» الرسمي بفرع الصحراء الكبرى، في هذا التوقيت، ارتبط بتراجع التنظيم في معقله الأهم داخل شمال أفريقيا (مدينة سرت الليبية)، إذ حوصرت المدينة من قبل قوات عملية «البنيان المرصوص»، وبدا أن طرد التنظيم منها مسألة وقت لا أكثر.

ولعل قبول قيادة «داعش» المركزية لبيعة أبي الوليد الصحراوي ومجموعته، كان بمثابة المناورة التكتيكية لإحراز انتصار معنوي في ظل الخسائر التي تلقاها التنظيم في معقله الأهم بالقارة السمراء، والذي تزامن مع انطلاق عملية استعادة مدينة الموصل العراقية (معقل التنظيم الأهم)، في أكتوبر/ تشرين الأول 2016.

وبمرور الوقت، أثبت أبو الوليد الصحراوي أن رهان قيادة داعش عليه، كان رهانًا رابحًا، لا سيما وأن المجموعة التابعة له نجحت في تنفيذ عدة عمليات إرهابية ناجحة داخل المثلث الحدودي بين دول (النيجر، ومالي، وبوركينا فاسو)، واكتسبت تلك المجموعة زخمًا كبيرًا بعد تنفيذها هجومًا ناجحًا، في عام 2017، ضد دورية مشتركة للجيش الأمريكي ونظيره النيجري بالقرب من قرية «تنغو تنغو» (شمال العاصمة نيامي)، ما أسفر عن مقتل 4 من عناصر القوات الأمريكية الخاصة «القبعات الخضر»، كما شنت هجومًا آخر ضد القوات الفرنسية بمالي في يوليو/ تموز 2018.

حلفاء الأمس أعداء اليوم

ورغم صعود تنظيمه اللافت في الصحراء الأفريقية، حافظ أبو الوليد الصحراوي على علاقة تعاون غير عدائية مع تنظيم القاعدة والمجموعات المرتبطة به، وعمد الجهاديون إلى تقسيم مناطق النشاط والنفوذ بينهم، فنشط «داعش» في المنطقة الممتدة من جنوب مدينة غاو المالية إلى غرب النيجر وشمال بوركينا فاسو، حتى الحدود الجنوبية للجزائر، بينما نشطت المجموعات التابعة لـ «القاعدة» في شمال ووسط مالي بالقرب من مدينة موبتي (وسط البلاد) وكذلك في مناطق الحدود مع موريتانيا في الشمال الغربي لمالي.

وعزز من متانة العلاقات البينية بين مجموعات داعش والقاعدة، وجود روابط إثنية وقبلية بين الأفراد النشطين في كلا التنظيمين، بجانب وحدة الهدف النهائي الذي يُركز على استنزاف جيوش دول الساحل والصحراء المدعومة بالقوات الفرنسية والأمريكية.

غير أن «تحالف المصالح» بين القاعدة وداعش في الساحل الأفريقي، شهد منحنيات من الصعود والهبوط المدفوع بالمصالح الذاتية لكلا التنظيمين، اللذين دخلا في صدامات على المصالح والنفوذ في أكثر من مناسبة، وفق تقارير غربية ومحلية.

نهاية مناسبة لـ «زعيم جهادي»

وفي حين تمكن الفرع الداعشي الذي يقوده أبو الوليد الصحراوي (معروف بـ «ولاية وسط أفريقيا»)، في كسب مناطق جديدة للنفوذ داخل الساحل والصحراء، واستقطاب مجموعات جهادية جديدة كالقوات الديمقراطية المتحالفة في الكونغو الديمقراطية (وسط أفريقيا)، وحركة الشباب الموزمبيقية التي تنشط في مقاطعة كابو ديلجاو الاستراتيجية في موزمبيق (جنوب شرق أفريقيا)، نجحت القوات الفرنسية في التوصل إلى مكان الزعيم الداعشي واغتياله في إحدى المناطق الحدودية بين مالي والنيجر.

وأعلن الرئيس الفرنسي ووزيرا الدفاع والخارجية، بشكل منفصل، نجاح القوات الفرنسية في اغتيال أبي الوليد الصحراوي، في أغسطس/ آب الماضي، بعد مطاردة طويلة الأمد في صحارى مالي والنيجر، واصفيه بـ «عدو فرنسا الأول».

لكن تنظيم «داعش» تجاهل، بصورة واضحة، الإعلان الفرنسي واكتفى في صحيفة النبأ الأسبوعية (عدد 304)، بالإشارة إلى نجاح عناصره في «ولاية وسط أفريقيا» في شن هجومين خلال نفس الأسبوع، كما نشر سيرة لأبي عمر الخليفاوي، أحد قادته المقتولين خلال العام الماضي (شغل منصب العسكري العام للتنظيم في الفلوجة العراقية)، مرسلًا بذلك رسالة ضمنية مفادها أن «قتاله سيستمر رغم مقتل قادته، وأن قتل قادته دليل على صدق دعوته»، على حد تعبير التنظيم.