«ربما أنفجر يا حبيبتي، ربما أنفجر وعندها لا أدري ماذا ستكون النتائج، لكنهم يدوسون قلبي» قصاصة من خطاب كتبه فخر الدين إلى شيرين.
مقتل فخر الدين -عز الدين شكري فشير

في مسلسل «أبو عمر المصري»المأخوذ عن روايتين لعز الدين شكري فشير هما «مقتل فخر الدين»، و«أبو عمر المصري»يتحول (فخر الدين/أحمد عز) المحامي المثالي ونصير الغلابة والباحث عن العدالة إلى قاتل، وعضو في إحدى الجماعات الإرهابية المسلحة والتي ستصبح فيما بعد «تنظيم القاعدة». هل يمكن أن يتغير شخص إلى هذا الحد؟ هل يمكن أن تتأرجح شخصيته هكذا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين؟

أبو عمر ليس مجرد خيال روائي فالواقع شاهد على حقيقيته وكثرته، فليس ببعيد انضمام المغني «فضل شاكر»إلى جماعة مسلحة تمارس القتل والإرهاب، وكم كانت الصدمة قاسية حين رأينا مغني الأغاني العاطفية يفتخر بفعل القتل. كيف حدث ذلك؟ الجواب غامض قدر غموض الإنسان وتعقد دواخله. بدلاً من أن يتحول بقية المقال إلى جدل نظري، سنحاول خلال ما تبقى من مساحة هذا المقال أن نضيء قدر المستطاع شخصية «أبو عمر المصري»وأن نرصد كيف حدث هذا التحول.

في دراسته «الإرهاب الديني من منظور التحليل النفسي»يتحدث «جيمس جونز»عن مشاعر الإذلال والحرمان والمهانة كعناصر أساسية في عملية تحول الأشخاص الذين يختبرون مثل هذه المشاعر نحو العنف الديني، كذلك الفكرة الدينية القائلة بالانفصال الابوكاليبسي للعالم إلى معسكرين للخير والشر، ما يعني أن العالم كله في حالة حرب وعليك دائمًا أن تكون معدًا لهذه الحرب، التمسك بهدف مثالي ومطلق تسقط دونه كل القيم.

فخر رومانسي وحالم، يرى العالم فقط بالأبيض والأسود. عاش فخر تجربة مريرة من المعاناة والإذلال انكسر خلالها حلمه المثالي وخسر حبه الوحيد. ربما هذا ما حدث مع فخر، كما يورد جونز على لسان أحد مدربي تنفيذ العمليات الإرهابية والذي يقوم باصطياد عناصر جديدة لمجموعته أن 90% من العمل تم إنجازه بالفعل عن طريق المعاناة التي مر بها هؤلاء الأشخاص في حياتهم أما أنا فدوري لا يتجاوز 10%.


خطاب ناصر إلى فخر: احذر لدغة الأمل الجريح

في الحلقة التاسعة من المسلسل، يكتب ناصر (محمد سلام) إلى فخر ردًا على خطابه، وهي من أجمل لحظات المسلسل ومن إضافات النص التليفزيوني الذي كتبه «محمد المصري»رفقة «مريم نعوم»:

لم أكن أخاف عليك من شيء بقدر الأمل، أخبرتك مرارًا أن الأمل شيء لعين وأنه لابد أن تترك مسافة بينك وبين الواقع تأمن معها ألا ينكسر قلبك، لكنك أبدًا لم تسمع، كنت وفي كل مرة وبحماقة تحسد عليها يا أعز الأصدقاء تقفز على تلك المسافة، تأمل وتجبر من حولك أن يأملوا.

ربما هي خطيئة فخر أنه كان يحلم حتى وإن اصطدم رأسه الحالم بحائط صلد، الأخيلة النشوانة تختزل العالم في الوقت نفسه الذي تضخم فيه الذات. كان يأمل مع تكرار الصدمات أن تنفتح كوة في هذا الحائط لكن رأسه هو الذي تصدع. الرأس الذي تصدع صار مفخخًا بغضب هائل وبينه وبين الحائط آلاف الأبرياء وبدلاً من أن ينفجر الرأس في الفراغ عليه أن يجد ممرًا ملتويًا نحو هدفه المرغوب، بين أنياب الموت الذي يطارده ومن وسط الجثث الطافية يولد أبو عمر المصري.


حكاية قط السطوح الذي حلم بتغيير العالم

في لقاءاته مع سمير العبد (فتحي عبد الوهاب)، كان يوضح له رؤيته للعالم مستخدمًا حكايات عن حيوانات، وكان فخر يستنكر دائمًا لغة القوة التي يتحدث بها سمير العبد محولاً العالم إلى غابة والبشر إلى حيوانات يأكل بعضها بعضًا.

في الحلقة (17) حين يريد فخر أن يحكي حكايته فإنه يستخدم ذات اللغة التي طالما استنكرها من قبل. يحكي فخر لقط مشرد وجده أمام بيته في السودان كأنما يتحدث لنفسه:

إنه نوع من الإدراك الباطني لقانون الغاب الذي يحكم العالم وتمهيد للتحول الداخلي الذي سيصيب فخر وانحيازه إلى جانب القوة، قاوم السير طويلاً خلف منطق القوة لكن كل طريق آخر فشل. حين يلتقي بحسين (منذر رياحنة) ويحكي له ما أصاب الأهل والأصحاب فإنه يدق بذلك المسمار الأخير في نعش فخر الدين.

يصرخ القط كأنما يستغيث، يحمل فخر بيده القط ويلقي به خارج البيت كما لو كان بذلك قد أحدث قطيعة مع حياته الماضية وتخلص من ذاته القديمة. لن يكون قطًا بعد الآن، لن يكون خاسرًا بعد الآن حتى لو خلق أوهامًا لينتصر عليها.


بين فخر وسعيد مهران

أحكيلك حدوتة: كان مرة فيه قط قاعد فوق السطوح فاكر إنه هيغير الكون. أصحابه قالوله لأ ماتنزلش، بس هو عنيد نزل الشارع ولقاهم كلهم كلاب قعدوا ينهشوا فيه ويعوروه.
في المقاطع الأخيرة من رواية «اللص والكلاب»لنجيب محفوظ:
وأطلق الرصاص مرة أخرى وقد ذهل عن كل شيء فانصب الرصاص كالمطر وفي جنون صرخ :يا كلاب! وواصل إطلاق النار في كل الجهات، آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق.

يخيل إليّ أن «أبو عمر المصري»هو النسخة الأحدث من سعيد مهران بطل «اللص والكلاب»، كلاهما رومانسي وحالم، يفشل كل منهما في تحقيق العدالة حسب تصوره. تسيطر عليهما الآن شهوة واحدة هي الانتقام، لكن رصاصهما دائمًا ما يخطئ أهدافه الحقيقية، يطول طابور الضحايا ولا فداء.

في النهاية يسأل عمر بن فخر في رواية عز الدين فشير والده: لماذا تصرف في حياته وكأنه مسئول عن الكون محاولاً نشر العدل ودفع الظلم؟ هل كان ذلك غرورًا منه أم براءة زائدة؟