هناك نوعية معينة من الأفلام التي تتيح لك التسكع مع شخصياتها بقدر كبير حتى يصبحوا فعلًا أصدقاءك. وتلك قيمة نادرة جدًا في السينما، تلك الأفلام عادة ما تكون طويلة نسبيًا، لأن عملية تخطي الشخصية السينمائية حتى تشعر فعلًا أنك تعرف ذلك الشخص وتحبه تأخذ وقتًا، وعندما ينتهي الفيلم، تصبحون أصدقاء.

يصف المخرج الأمريكي الشهير كوينتن تارنتينو الشعور الذي تخلفه بعض الأفلام التي لا تملك حبكة واضحة وتمضي وقتًا طويلًا في التعريف بشخصيات الفيلم وقضاء الوقت معها بأنها أشبه بالتسكع مع بعض الأصدقاء، لا يوجد ما يحدث حقًا ولكن يوجد ذلك الشعور بأن الفيلم يأخذ وقته لكي يجعلنا نعتاد على تلك الشخصيات، ويجعلنا نحبها حتى وإن لم تكن شخصيات خيرة بالكامل، أطلق تارنتينو على ذلك النوع من الأفلام اسم أفلام التسكع Hangout Films.

صنعت نادين خان التي يمكن أن يستدعي اسمها في ذهنك ربطًا سريعًا بالمخرج الشهير محمد خان -وستكون على حق فهي ابنته بالفعل- فيلمين طويلين فقط حتى الآن، «هرج ومرج» في 2012 و«أبو صدام» في 2021، تدور أحداث كليهما في مجتمعات مهمشة لكنها واسعة وأساسية، تحكي قصص أناس نراهم يوميا، نتعامل معهم أو نعيش وسطهم أو نحن هم بالفعل إذا تصادف وكنا جزءاً من الطبقة المتوسطة المصرية، لكن الذي يميز تجربتها السينمائية في تمثيل قطاع من البشر لا يتسم بالثراء أو الألق الاجتماعي هو عدم انجرافها للاستغلال أو تصوير تلك الطبقات وكأنها كائنات موجودة لاستعراض المآسي والانحلال الاخلاقي، بل هم شخصيات متكاملة معاشة يملكون حيوات معقدة، لكن الأكثر تميزًا في أفلامها هي قيمة التسكع، عدم وجود أحداث كبرى مروعة أو مثيرة، أفلام تجعلنا نعيش مع شخصياتها اليوم بيومه، نختبر ما يختبرون في الحياة من صعوبات ومسرات.

تظهر قيمة التسكع تلك في فيلم أبو صدام المعروض عالميًا لأول مرة ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي بشكل أكبر، ففيه نمضي يومًا واحدًا مع شخصيتين دون أن نتركهما لحظة، وعلى الرغم من صفاتهما العنيفة والمؤذية فإننا نبني تعاطفًا كبيرًا تجاههم على مدار الفيلم ونرى العالم من أعينهم، لكن في قلب ذلك الإطار الواسع من الخفة والتجوال الحر فإن خان تحيك فيلمًا يجمع بين عدة أنواع سينمائية مثل فيلم الطريق وفيلم النوار إضافة لكونه دراسة شخصية تتعمق في طبيعة الذكورة بأكثر صورها قبحًا.

الطريق والصحبة

يبدأ فيلم أبو صدام في بداية يوم عمل للشخصية الرئيسية «أبو صدام» يلعب دوره محمد ممدوح ويصاحبه «تباعه» أبو علي أو حسن ويلعب دوره أحمد داش، نمضي مع الشخصيتين وقتًا طويلًا في داخل «تريلا» عربة نقل ضخمة حيث يسافران على الطريق، يتسامران عن العمل والنساء والحياة، ويلعب أبو صدام دور المرشد لذلك الغر الصغير، من البداية يرسخ الفيلم لنفسه كفيلم طريق، يتبنى جماليات هذا النوع من إظهار السيارات والمناظر الطبيعية على جانبي الطريق كما أنه يقتبس طبيعة الموسيقى الريفية الخفيفة التي نسمعها عادة في أفلام الطريق الأمريكية ، فيصبح هنالك مزج مثير دون مجهود بين الطريق الذي نعرفه والطريق الذي نراه في الأفلام الهوليوودية، فنسمع الجيتار الكهربائي الهادئ ثم نسمع عبدالباسط حمودة يشدو الجو هادي خالص والدنيا هس هس.

تستمر رحلة الشخصيات الرئيسية داخل السيارة لفترة طويلة، يقطع القيادة أحداثًا على الأرض من حين لآخر لكنها لا تغير من نوع الفيلم ، لكن طبيعة ديناميكية العلاقات هي التي تسمح بإدخال أنواع أخرى، فيمكن بسهولة وصف الفيلم بأنه فيلم صداقة Buddy Movie وهي الأفلام التي تصور علاقة بين رجلين في الغالب في مهمة ما أو يتحولان من عدوان إلى صديقين، علاقة أبو صدام بحسن مربكة، لا يملك حسن أنقى النوايا تجاه رئيسه، بل يطمح في استغلاله لكنه مبهور برجولته وقوته في الآن ذاته، بينما يعامل أبو صدام حسن بفوقية فائقة، فهو يرى في نفسه الرجل الأوحد و«ملك الطريق» لفترة قبل أن يلينا عندما تأتي سيرة النساء والجنس، عندها تذوب الفواصل ويصبحا صحبة متكافئة.

وفي كل ذلك لا تغيب قيمة التسكع، كلتا الشخصيتين لا تملك عوامل جذب كبيرة فهما لا يملكان منظومة أخلاقية واضحة أو جاذبية، لكنهما حقيقيان إلى أبعد حد، شكلًا وموضوعًا، وكثرة التسكع معهما تجعلنا نطور رابطًا عاطفيًا معهما، أسمى البعض تلك اللحظات من اللاحدث «تطويل» لكنها لحظات ضرورية لخلق تلك العلاقة وتحويل الفيلم من درس عن أضرار الذكورة المسممة إلى فيلم حقيقي لا يحكم على شخصياته بل يستعرضها، يستمر ذلك التوازن لفترة طويلة لكنه يختل عندما تضغط خان بمجازها على ما تريد أن تقوله مرة بعد مرة.

الذكورة والمجاز

بعيدًا عن دراسات النوع الفيلمي فإن فيلم أبو صدام يهتم بشكل رئيسي باستكشاف عالم من الرجال، فعالم قيادة السيارات وبخاصة ذلك الحجم الكبير منها هو عالم حصري للرجال، ويتخطى الفيلم القصة الرئيسية لكي يستكشف الذكورة كمفهوم، بخاصة في تلك المجتمعات التي تقدسها، الذكورة بكل الأوصاف السلبية التي يمكن أن تلحق بها (مسممة، جريحة، هشة)، يساعدها في ذلك اختيار عربة النقل الضخمة التي تجعل من قائدها إلهًا يطل على من تحته ناظرًا باحتقار ومطلقًا للأحكام، يملك عينًا فوق الجميع ومن مقصورته المرتفعة يخترق من يريد، لكن ما يضعف تلك الدراسة ويقلل من تأثيرها هو تكرار المجاز، تتخذ خان من الخدش/الجرح الذي يصيب عربة أبو صدام مجازًا لذكورته الجريحة، نتيجة للضغط المجتمعي وعدم قدرته على التكاثر وعصيان امرأته له وإزعاج فتيات الطبقات العليا بسياراتهن الفارهة له على الطرق، باختصار نتيجة رفض أي أنثى أن تطيعه أو عجزها عن رؤية فحولته وقوته التي لا تضاهى.

يعمل ذلك المجاز لفترة حتى يتم ذكره عشرات المرات فيصبح النص الفرعي نصًا أصليًا مما يضعف من قدرة الفيلم على بناء طبقات متعددة للتلقي، يتحسس أبو صدام جرح عربته مرارًا وتكرارًا ويتشاجر بسببه في الهاتف عدة مرات في فيلم لا تتعدى مدته التسعين دقيقة، يذكر أنه رجل لا تضاهى رجولته في كل فرصة تأتيه، ربما لو تراجع المجاز خطوة وتم الاعتماد بشكل أكبر على ما نراه واضحًا جليًا أمامنا من تصرفات طبيعية صادرة من أبو صدام أو حتى حسن كان المجاز سيصنع ذاته تلقائيا، فالفيلم لا يخلو من بصريات كاشفة بجانب السيناريو السلس العفوي الذي كتبه محمود عزت الكفيل بإخبارنا ما نحتاج معرفته.

جماليات أصيلة

بالحديث عن بصريات الفيلم، فإنه يمكن بسهولة تسمية «أبو صدام» «فيلمًا جميلًا»، لا ينتج ذلك عن «تجميل» ما هو جاف أو قبيح بالأساس ولكن عن استخدام الجماليات الأصيلة لطبيعة المكان والحدث والشخصيات، تستخدم خان مع مدير تصويرها عبد السلام موسى الانعكاسات الطبيعية للسحب والتوقيتات المختلفة في اليوم من شروق وغروب وغسق لبناء صور مثيرة للتأمل دون أن تكون مشتتة عن طبيعة الفيلم، لا توجد إضافات تجميلية أو محاولة لصنع صورة تشبه المعايير المتصورة مسبقًا عن الجمال البصري.

مشهد ليلي من فيلم «أبو صدام» إخراج نادين خان
مشهد ليلي من فيلم «أبو صدام» إخراج نادين خان

للمخرج السويدي الشهير روي أندرسون مقولة يرد بها على خياراته البصرية بإضاءة الشخصيات بالكامل دون ظلال، وهي أنه بفعل ذلك لكي لا يترك وسيلة لهم للتخفي أو الاختباء فحقيقتهم مكشوفة أمامنا بالكامل، في مشاهد النهار في أبو صدام، على مدار اليوم الذي تدور به قصة الفيلم يتم استخدام الضوء الطبيعي لإضاءة وجوه الشخصيات وكشفها لنا على طبيعتها دون مجال للاختباء، وعندما يحل الليل يأخذ الفيلم منحى مختلفًا ويتبنى جماليات النيون المدينية التي لا تضاف من العدم بل تبزغ من داخل بيئتها، فعربات النقل تملك كثيرًا من الإضاءة الملونة الصناعية كما أن الأفراح الشعبية تتسم بالبذخ الضوئي واللوني، يصنع ذلك صورًا جميلة بشكل مجرد كما أنه يعطي فرصة للشخصيات لإظهار جانبها المظلم، للاختباء وراء الزيف والزحام البصري وهو ما لا تجد فرصة لفعله في ضوء النهار الطبيعي.

فيلم «أبو صدام» تجربة يمكن ضمها إلى تقاليد الواقعية الاجتماعية المصرية، كما أنه فيلم بسيط ويمكن فهمه على أكثر من مستوى، يصنع شخصيات ملموسة وحقيقية بأداءات مؤثرة ومتميزة من بطليه محمد ممدوح «الفائز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» وأحمد داش، يمكن تفهمها ويمكن كراهيتها، ويهتم بما يبديه بنفس قدر ما يقوله، فيلم يستحق المشاهدة بشكل تجاري واسع وينذر بميلاد موهبة ذات عين مراقبة وذكية.