شغل المعتمد بن عَبَّادٍ مساحة واسعة من الحيِّز السياسي والأدبي في القرن الخامس الهجري، فكان أهمَّ ملوك الطوائف من جهة، وترك ديوان شعر لم نر مثله من مَلِكٍ من ملوك الطوائف من جهة أخرى، بالرغم من أن أباه كان شاعرًا كذلك، كما ضَمَّ بلاطُه في إشبيلية أكبر شعراء هذا القرن بالأندلس، وهو أبو الوليد ابن زيدون، الذي كان وزيره كما كان وزير أبيه أبي عمرو المعتضد بن عباد.

ولد المعتمد في 431هـ أو 432هـ، وتولى الحكم 461هـ، وأَسَرَه يوسف بن تَاشَفِين 484هـ، وانتقل إلى الله تعالى 488هـ.

محمد هو اسمه وكنتيه أبو القاسم، واستجماعا للسلطان ومظاهر العظمة تلقب بالظافر بحول الله والمؤيد بالله والمعتمد على الله، وظل يحمل في نفسه روح العربي الأبي، سليلِ الملوك؛ حيث ينتهي نسبه إلى قبيلة لَخْم من أسرة النعمان بن المنذر ماءِ السماء حاكمِ الحيرة في الجاهلية، ولقد أحال كثيرا على هذا النسب العريق في أشعاره؛ إذ يقول مفتخرًا:

نَحْنُ أَبْنَاءُ مَاءِ السَّمَا نَحْوَنَا تَطْمَحُ أَلْحَاظُ الْحَدَقْ
وقال بعد وقوعه في الأسر:
أَذَلَّ بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ زَمَانُهُمْ وَذُلُّ بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ كَبِيرُ

ولهذا البيت روايتان: كبير، وكثير، ويرجح الباحث الأولى؛ لأنه استعظام للحادثة الكائنة بتطاول الزمان عليهم، وإساءته الأدب معهم، وَهُم من هم عظمةً وشأنًا، وهذا يعبر عنه بالكيف، وهو هنا الحجم، ولو معنويا، أما الكمّ، وهو هنا الكثرة؛ فغير مراد، وهذه الرواية هي الواردة في “نفح الطيب” للمقري و”قلائد العقيان” للفتح بن خاقان، وقد رجح محققا الديوان ومراجِعُه الثانية.

كما قال يذكر قصوره بإشبيلية بعد أن آل إلى أغمات:

بَكَى “الْمُبَارَكُ” في إِثْرِ ابْنِ عَبَّادِ بَكَى عَلَى إِثْرِ غِزْلَانٍ وَآسَادِ بَكَتْ “ثُرَيَّاهُ” لَا غُمَّتْ كَوَاكِبُهَا بِمِثْلِ نَوْءِ الثُّرَيَّا الرَّائِحِ الْغَادِي بَكَى “الْوَحِيدُ” بَكَى “الزَّاهِي” وَقُبَّتُهُ وَالنَّهْرُ وَالتَّاجُ، كُلٌّ ذُلُّهُ بَادِي ماءُ السَّمَاءِ عَلَى أَبْنَائِهِ دِرَرٌ[1] يَا لُجَّةَ الْبَحْرِ دُومِي ذَاتَ إِزْبَادِ

وتطلعنا هذه الأبيات على أسماء بعض قصوره: “الْمُبَارَكُ” و”الثُّرَيَّا” و”الْوَحِيدُ” و”الزَّاهِي”، الأمر الذي يساعد في رسم صورة أقرب من حياة المعتمد الناعمة في إشبيلية.

وبخلاف ما يحاول كثير من المشتغلين بتقديم شخصية المعتمد للناس باعتباره عاشقا مخلصًا لمعشوقته اعتماد، أَمَةِ الرُّمَيْكِ التي أحبها، فاشتراها، وأعتقها، وتزوجها، وأنجب منها، بخلاف هذا نجد المراجع تدلنا على أسماء محبوبات عديدات شَبَّبَ بهن من جواريه، عرفنا منهن: جوهرة، وسِحْر، ووِدَاد، وَقَمَر، ولم يكن الأمر مجرد نزوات عابرة في قصور فارهة، فلقد كتب لكل منهن شعرا، بل دارت رسائل شعرية بينه وبينهن، وكان شعره هذا صريحا في أكثر الأحيان، فقد كتب في معشوقته جوهرة مثلا:

سُرُورُنَا دَونَكُمُ نَاقِصُ وَالطِّيبُ لَا صَافٍ وَلَا خَالِصُ وَالسَّعْدُ إِنْ طَالَعَنَا نَجْمُهُ وَغِبْتِ فَهْوَ الْآفِلُ النَّاكِصُ سَمَّوْكَ بِالْجَوْهَرِ مَظْلُومَةً مِثْلُكِ لَا يُدْرِكُهُ غَائِصُ

كما ذُكر في كتاب “خريدة القصر” أنه كتب مرة إلى جوهرةَ يسترضيها في عتاب جرى بينهما، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها، فقال:

لَمْ تَصْفُ لِي بَعْدُ وَإِلَّا فَلِمْ لَمْ أَرَ فِي عُنْوَانِهَا جَوْهَرَةْ دَرَتْ بِأَنِّي عَاشِقٌ لِاسْمَهَا فَلَمْ تُرِدْ لِلْغَيْظِ أَنْ تَذْكُرَهْ قَالَتْ: إِذَا أَبْصَرَهُ ثَانِيًا قَبَّلَهُ، وَاللهِ لَا أَبْصَرَهْ!

فهذه حِوَارِيَّة مع حبيبة تعطي وتمنع، وتصل وتقطع، والْمَلِكُ مشغول برضائها، متبتل في محرابها.

ويقول في محبوبته سِحْر:

عَفَا الله عَنْ سِحْرٍ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ وَلا حُوسِبَتْ عَمَّا بِهَا أَنَا وَاجِدُ
ويقول في محبوبته وِدَاد:
اشْرَبْ الْكَأْسَ في وِدَادِ وِدَادِكْ وَتَأَنَّسْ بِذِكْرِهَا فِي انْفِرَادِكْ

فلو قلنا أنها كانت نزواتٍ عابرةً لما كان مخاطبًا نفسه بأن يتأنس بذكرها في انفراده؛ إذ هذا شأن العشاق دائما.

أما زوجُه اعتماد؛ فيقول فيها:

إِنِّي رَأَيْتُكِ في الْمَنَامِ ضَجِيعَتِي وَكَأَنَّ سَاعِدَكِ الْوَثِيرَ وِسَادِي وَكَأَنَّمَا عَانَقْتِنِي، وَشَكَوْتِ مَا أَشْكُوهُ مِنْ وَجْدِي وَطُولِ سُهَادِي وَكَأَنَّنِي قَبَّلْتُ ثَغْرَكِ وَالطُّلَى[2] وَالْوَجْنَتَيْنِ، وَنِلْتُ مِنْكِ مُرَادِي

هذا مراده منها الذي ناله، أما مراده من الخمر فيبدو أنه كان دَيْدَنًا في حياته، ينادم الجُلَّاس عليه من غير احتشام، ويُهديه لخلَّانِهِ، فتجدُ في “نفح الطيب” و”قلائد العقيان” قصة أرسل فيها قطيعًا من الخمر، والقطيع عن الأندلسيين اسم لإناء الخمر، ومعه شعر، منه:

جَاءَتْكَ لَيْلًا فِي ثِيَابِ نَهَارِ مِنْ نُورِهَا، وَغِلَالَةِ البُلَّارِ
بل تمادى به الأمر مخاطبًا أباه في قصيدة يسترضيه بها؛ قائلا:
مَا تَرْكِيَ الْخَمْرَ مِنْ زُهْدٍ وَلَا وَرَعٍ فَلَمْ يُفَارِقْ لَعَمْرِي سِنِّيَ الصِّغَرُ

ويبدو أنه بعد الأسر وما ذاقه فيه تاب عنها، فقد كتب إلى ابن حمديس حين زاره في أغمات:

وَلَوْ كُنْتُ مِمَّن يَشْرَبُ الْخَمْرَ كُنْتَهَا إِذَا نَزَعَتْ نَفْسِي إِلى لَذَّةِ الْخَمْرِ
وقال في مُقَطَّعَةٍ شعرية أخرى في الأسر:
وَطِّنْ عَلى الْكُرْهِ، وَارْقُبْ إِثْرَهُ فَرَجًا وَاسْتَغْنِمِ الله، تَغْنَمْ مِنْهُ غُفْرَانًا

وهنا يظهر تساؤل: إلى أي حد استفاد من بلاغة ابن زيدون أستاذه في الشعر؟ وهل قاربه في شيء منه؟ ويجيب عن هذا السؤال تصفح فهرس الديوان وحده، لترى أن الكثرة الكاثرة من شعره ما كانت إلا مقطعات يسيرة، يقضي بها غرضًا، أو يراسل بها أحدًا، أما القصائد المطولة، فلم يكن له فيها كبير باع.

وعلى مستوى الكيف فقصائده مقارنةً بابن زيدون لا تعدو إرهاصًا شعريًّا لمبتدئ، ولكن يبدو أن من التَّظَرُّفِ الاجتماعي والسياسي في هذا العصر أن يكون الأمير شاعرا، ولذا حَرِصَ على تولية وزرائه من الشعراء وعلى أن يظهر شاعرا أمام الناس، وهذا لا يمنع من أنه يجيد في بعض الأبيات أحيانًا.

ومن حيث الشجاعةُ أثبتت المصادر أنه قاتل مع المرابطين ضد (ألفونش) ألفونسو السادس بجسارة يوم العُرُوبة (الزَّلَّاقَة) لكن السؤال الأهم: أين كان هو من ألفونسو قبل هذا اليوم؟

يسعفنا المؤرخون مُجْمِعِينَ على أنه كان في دُوَلِ ملوك الطوائف دولتان بربريتان: دولة بني زيري في غَرناطة قريبًا من الساحل الجنوبي للأندلس، ودولة بني ذي النون في طليلطة في قلب شبه الجزيرة على المواجهة مع مملكة النصارى، وقد قرر صاحبنا من اليوم الأول في الحكم أن يهادن النصارى ويدفع لهم الجزية الباهظة من الذهب وهو صاغر، مستعينًا بمهارة وزيره ابن عَمَّار ودهائه؛ ويَغُضُّ الطرف عن حروبهم مع طليلطة، لكي يتركوه يتوسع على حساب آل جَهْوَر في قرطبة والصقالبة في بَلَنْسِيَة وغير ذلك من الممالك المحيطة به، وظل مسلمو طليطلة يجأرون بالشكوى والاستغاثة به حتى اصْطَلَمَهم ألفونسو السادس من جذورهم، وسقطت طليطلة لقمة سائغة في أفواه النصارى.

ولم ينفعه عهده مع ألفونسو إذ انقلب عليه وطلب ما تحت رجليه من الملْك، لولا المرابطون الذين غَيَّرُوا وجه الصراع العسكري في الأندلس؛ إذ أنجدوا المعتمد والمسلمين معه الذين استغاثوا بهم، وعَبَرُوا الزُّقاق إلى الزَّلَّاقة وكتب الله لهم النصر على النصارى بقيادة ألفونسو.

ويزيد الأمر وضوحًا حين نجد جيوش يوسف بن تَاشَفِين تعبُر في المرة الثانية؛ لتقوَّم ما اعوج من أمر ملوك الطوائف الأندلسيين، وتريد أن تنزلهم عن حصونهم؛ لِتُؤَمِّنَ ظَهْرَهَا في غزو الفِرَنْجة، كما صنع صلاح الدين وغيره من القادة العسكريين المحنَّكِين، فيرسل المعتمد إلى ألفونسو عدو الأمس لينقذَه من المرابطين، ويَقَدِّمُ أن يكون عبدا للمغتصب الفرنجي على أن يكون خادمًا للأمير البربري المسلم، وقديما قالت العرب: الملك عقيم، وفي هذا الطريق فَقَدَ ابنيه: الراضي والمأمون، ثم ينزل ليقاتل بنفسه إلى أن يؤسر، ولا قيمة إذن لقصص البطولة والشجاعة التي دبجها أوفياؤه في الكتب حين لاقى المرابطين، بعد أن علمنا أنه استنجد بجيش ألفونسو فأجابه وقَدِمَ إليه، لولا أن المرابطين هزموه قبل أن يُعَرِّجُوا على إشبيلية.

وعلى العموم أَسَرَ ابن تاشفين المرابطي المغربي البربري المعتمدَ الأندلسي كما أسر أيضا الأمير عبد الله بن بُلُّقين البربري الصِّنهاجي آخر ملوك بني زيري في غَرناطة، وأُرسل الملِكَان المأسورين إلى أَغْمَات في أقصى جنوب المغرب، ليترك لنا الأمير عبد الله كتاب: “التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة” ويترك لنا ابن عباد حِفْنَة من الأشعار المستسلمة لقَدَرِ الله فيه، لا تجد فيها روح الموتور، ولا المتوثب الواعد بالكَرَّة بعد الفَرَّة، ولكنها روح باكٍ على مجده، مُدْبِرٍ عن ملكه، قائلا منتظرا أجله:

تُؤَمِّلُ لِلنَّفْسِ الشَّجِيَّةِ فَرْجَةً[3] وَتَأْبَى الْخُطُوبُ السُّودُ إِلَّا تَمَادَيَا لَيَالِيكَ مِنْ زَاهِيكَ أَصْفَى صَحِبْتَهَا كَذَا صَحِبَتْ قَبْلُ الْمُلُوكُ اللَّيَالِيَا نَعِيمٌ وَبُؤْسٌ، ذَا لِذَلِكَ نَاسِخٌ وَبَعْدَهُمَا نَسْخُ الْمَنَايَا الْأَمَانِيَا

وقد وفد عليه عدد من شعرائه المخلصين كأبي الوليد النَّحْلِي وابْنِ اللَّبَّانَة وابنِ حَمْدِيس لزيارته في منفاه، وكتبوا له شعرا كما كتب لهم.

ثم نودي يومَ العِيد للصلاة على الغريب، وقُبِرَ وكُتِبَ على قبره أبياتٌ أوصى بأن تكتب على قبره:

قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي حَقّاً ظَفِرتَ بِأَشلاءِ ابْنِ عَبّادِ بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُعمى إِذِ اِتّصلَت بِالخَصبِ إِن أَجدَبوا بالرِّيِّ لِلصادي بالطاعِن الضارِب الرامي إِذا اقتَتَلوا بِالموتِ أَحمَرَ بالضِّرْغَامَةِ العادي بالدَهر في نِقَم بِالبَحر في نِعَمٍ بِالبَدرِ في ظُلمٍ بِالصَدرِ في النادي نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ مِنَ السَماءِ فَوافاني لِميعادِ وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ أَنَّ الجِبال تَهادى فَوقَ أَعوادِ كَفاكَ فارفُق بِما اِستودِعتَ مِن كَرَمٍ رَوَّاكَ كُلُّ قَطوب البَرق رَعّادِ يبكي أَخاهُ الَّذي غَيَّبتَ وابِلَهُ تَحتَ الصَفيحِ بِدَمعٍ رائِح غادي حَتّى يَجودَكَ دَمعُ الطَلِّ مُنهَمِرًا مِن أَعيُن الزَّهرِ لم تَبخَل بِإِسعادِ وَلا تَزالُ صَلاةُ اللَهِ دائِمَةً عَلى دَفينكَ لا تُحصى بِتَعدادِ

وزاره بعد ذلك ميتًا في أغمات لسان الدين بن الخطيب، وترحم عليه، وكتب فيه شعرا، كما وَفَى له في العصر الحديث الأستاذان: حامد عبد المجيد، وأحمد أحمد بدوي فقاما بجمع ديوانه من كتب التاريخ والأدب، وراجعه الدكتور: طه حسين، وطبع عن دار الكتب المصرية.


الهوامش:-

[1] دِرَر جمع: دِرة، ويقصد استمطار السحاب مدرارا غزيرا.[2] والطُّلى بضم الطاء: الأعناق.[3] الفَرجة تفتح الفاء: الراحة من حزن أو مرض.