اليوم مات محمد حسني مبارك، جملة وقعها غريب جدًا، خاصة على مسامع جيلنا الذي رأي كل شيء إلا انهزام الطاغية أمام الزمن، موت مبارك غريب بالطبع، خاصة مع ما يستدعيه عقلك من مشاعر متناقضة ظللت تجترها طوال ما يقرب من عشر سنوات، أن توضع أخيرًا أمام حقيقة أنه ذهب للجانب الآخر حيث الحقيقة المطلقة، يطلق هذا بداخلك كل المشاعر من معاقلها، كل هذا غريب، والأغرب منه ردود فعل الناس تجاه حقيقة رحيله، هناك قطاع كبير يبدو وكأنه نسي من هو مبارك أصلاً، وهناك قطاع آخر يتعامل مع موته وكأنه انتصار شخصي.

الحقيقة، أنك كي تعرف بم يجب أن تشعر حقًا يجب أن تملك الحقيقة، ونحن هنا في الدنيا حيث لا حقائق قاطعة، ولكن هناك دلائل تساعدك دومًا في اتخاذ القرار، هذه الدلائل يستخدمها عقلك لتحليل المواقف، ماذا إذن لو خدعك عقلك؟ ماذا إذا كانت الحقيقة تصرخ أمامك وأنت لا تراها ولا تسمعها؟ ماذا لو هذه الحقيقة نفسها لم تكن حقيقة من الأساس؟ هل مبارك مجرم أم أنه يستحق الشفقة؟ هل الموت أصلاً عقاب؟ تلك الحيرة الإنسانية والتخبط والتباس الحقائق نناقشه اليوم، ليس بالحديث عن محمد حسني مبارك، ولكن بالحديث عن مسلسل المسيح.

مسيح نتفلكس

شاب يظهر فجأة ليخطب في جموع اللاجئين السوريين ويبشرهم باقتراب الفرج، يمشي فيمشون وراءه حتى الحدود مع القدس المحتلة، يعبر الحدود ويتركهم، ثم يكرر نفس فعلته مع جموع المسلمين في ساحة الأقصى، يستمر في التنقل حتى يصل للولايات المتحدة، تتكون حوله هالة من الحواريين والمريدين على رأسهم قس كان على وشك المروق ثم أعاده ظهور هذا الشاب إلى جادة الصواب، هو لا يطلب أي شيء، فقط يتحدث عن الخلاص، لم يطلق على نفسه أنه المخلص أو المسيح أو غيره، لم يطلب من أحد أن يتبعه، هو فقط يتصرف بغموض.

 بالتوازي مع افتتان الناس به تحاول عميلة المخابرات الأمريكية أن تتبع تاريخه وتقبض عليه، تتعاون مع زملائها تارة ومع أحد عملاء الموساد تارة، وفي كل مرة يفلت منها الشاب الذي أصبح اسمه الرسمي في وسائل الإعلام المسيح والذي تكتشف أن اسمه الحقيقي بايام جولشيري، ويستمر في ما يفعله، والذي لا يعرف أحد على وجه التحديد ما هو هذا الذي يفعله.

المسلسل من بطولة مهدي دهبي وهو ممثل بلجيكي من أصل تونسي، ومن تأليف مايكل بتروني وإخراج جيمس ماك تيجو وكيت وودز، وعرض موسمه الأول في مطلع هذا العام حصريًا على شبكة نتفلكس حيث إنه من إنتاجاتها الأصلية، ومن المنتظر أن يصدر موسمه الثاني قريبًا في نفس العام.

الجنون يسيطر على العالم

الحقيقة، الحقيقة غير الموجودة على الإطلاق، الحقيقة التي تراوغنا طوال الوقت، والتي نحن في أمس الحاجة إليها، الحقيقة التي نعيش طوال حيواتنا القصيرة في محاولة لأن نعرفها، أن نحصل فقط على قبس منها كي تستقيم الحياة، والتي تصدمنا في كل مرة نظن أننا عرفناها أنها ليست الحقيقة!

كل من رأى بايام جولشيري اقتنع أنه المسيح المخلص، مسلمين ومسيحيين، وحتى اليهودي الذي كان ضمن الفريق الذي يحاول الإمساك به شك في أمره وانتهى الجزء الأول من المسلسل وهو تقريبًا مؤمن به، الجموع المتلهفون على حقيقة ثابتة ينطلقون منها نحو عبث الحياة وتعينهم على احتمالها آمنوا به، هو لم يصرح في أي لحظة بلغة واضحة وقاطعة أنه المسيح، ولكن الناس قرروا أنه هو المسيح واكتفوا بهذا القرار وتعاملوا على أساسه.

الجنون يسيطر على الجميع، هذا الشاب استطاع دون مجهود تقريبًا أن يسيطر على الجميع، أن يقنعهم أنه يملك الخلاص، والجميع يبحث عن هذا الخلاص، يرفضون أن يروا الحقيقة، وهي بدورها تراوغهم، ما يحدث في المسلسل مرعب جدًا، ليس على مستوى الحدث فأنت لن تقابل المسيح أو من يدعي أنه هو في شارعك على الأغلب، ولكن الجنون والتخبط والتمسك بحقائق كاذبة والدفاع عنها يحدث كل يوم، يحدث اليوم بالتحديد، ألقِ نظرة على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم وستفهم قصدي تمامًا.

طاقم المخابرات الأمريكية يعرف أنه ليس المسيح، طاقم المخابرات الإسرائيلية يعرف أيضًا، حتى زوجة القس تعرف، أصوات فردية متناثرة هنا وهناك لا تصمد أمام اقتناع الجموع الغفيرة أن هذا الرجل معجزة وبإمكانه أن يجترح المعجزات، حتى عندما تسرب خبر أنه مواطن إيراني عادي، بل أنه مسجل كمريض في مصحة نفسية يعاني ضلالات، خرج أخوه ليتحدث عنه، وأنه يجيد الخدع السحرية وأنه تربى في السيرك، كل هذا لم يؤثر في الجموع التي آمنت بأنه مخلصهم.

أنت لست بأمان

في الروايات الدينية عن المسيح الدجال، يقال إنه سوف يظهر مكتوب على جبهته كافر، ومع ذلك سيتبعه الكثير من الناس، أنت عندما تسمع ذلك تتعجب، كيف سأرى بعيني أنه كافر وسأتبعه؟ كيف سألغي عقلي تمامًا واستسلم للحيل التي سوف يمارسها على عقلي وأصدقه؟ تظن أنه سخف أليس كذلك؟ تظن أن الأمر يلزمه الكثير من الحمق كي تفعل ذلك، وبالطبع تعرف أنك لست أحمق ولن تقع في الشرك.

قل لي بالمناسبة: كم مرة سخرت من أفكار شخص ما أو تصرفاته ووصفتها بالسخف والحماقة ووجدت حلولاً ومخارج له تؤمن له التصرف دون الوقوع في هذه الأخطاء ثم وقعت أنت فيها بسلاسة مدهشة؟ هل تابعت الجدل الدائر هذه الأيام حول الدكتور مجدي يعقوب، وما إذا كان سيدخل الجنة أم النار؟ هل رأيت تمسكك وتمسك من يخالفك الرأي بوجهات نظركم وكأنكم عائدون من العالم الآخر تملكون كشوفًا بمن دخل الجنة، ومن دخل النار؟ يقينك ويقين غيرك يبدو أنه مستند على حقائق لا تقبل المناقشة، رغم أنه على حد علمي لم يمت أحد ويعود ليحكي لنا كيف يسير الأمر هناك، هل تابعت الضجة المثارة حول مصير مبارك اليوم؟ هل أنت طرف في هذه المشاحنات؟ ما هي وجهة نظرك عنه وعن ما فعله؟ كيف ترى موته؟

تلك سنة الحياة بالطبع، الاختلاف والتناحر، نحن لسنا في الجنة، وإذا كنت ترى أن هذا الاختلاف بسيط ولا يمكن أن يؤدي لمشاكل جدية، فالمسلسل يطرح فكرة ماذا لو كان الأمر جديًا فعلاً؟ ماذا لو ظهر من يدعي أنه المسيح؟ هل أنت بأمان ويمكنك أن تثق في حكمك على الأمور تماماً ويمكنك أن تحدد موقفك منه؟ أم أن المشاحنات الصغيرة التي لا تعيرها اهتمامًا الآن يمكن أن تؤدي لفوضى كبيرة؟ مثل أن تؤمن مثلاً أن رجلاً نصابًا هو المسيح، أو تؤمن بأن المسيح الحقيقي ما هو إلا دجال!