يأتي فيلم «بعد الشمس» للمخرجة شارلوت ويلز بعد ثلاثة أفلام قصيرة كأول فيلم طويل لها، وهو عمل كما صرحت قد استوحت منهجيته من شرائط فيديو كانت تحتفظ بها جدتها للحظات مميزة في تاريخها العائلي، وأن طريقة تصوير هذه الشرائط هو ما أثارها، المخرجة المتأثرة بـ«شانتل أكرمان» تقول:

كنت أشاهد أحد هذه الشرائط ثم جاء مشهد لجدتي مع أحد أفراد العائلة وتوسطهم صورة لي وأنا صغيرة، في هذه اللحظة شعرت كم هو غريب أن يحدق الشخص في نفسه في مرحلة زمنية أخرى كأنه كيان وهوية أخرى، كان هذا هو المحرك الأول في صنع الفيلم.

الرحلة

تتذكر البطلة (صوفي) رحلتها مع والدها إلى تركيا وهي طفلة في عيد ميلادها الحادي عشر، والدها كان في عمر الحادي والثلاثين، وهو ما يعطي خلفية عن إنجابه لطفلته وهو صغير في العشرين، توثق (صوفي) الرحلة بكاميرا فيديو محمولة

الفيلم يدور على ثلاثة مستويات الأول: الرحلة في تركيا

الثاني: (صوفي) وهي في عمر والدها الآن وتحاول أن تشاهد فيديوهات الرحلة مرة أخرى

الثالث: هو مستوى تجريدي تقابل فيه الابنة الأب وهم في نفس السن وهم يرقصون في مكان مظلم إلا من فلاشات خاطفة للضوء تحاول فيها التواصل الجسدي مع الأب الراحل.

لعنة الأب

من خلال كاميرا الفيديو الرقيقة نراقب الأحداث معهم، في الحقيقة أنه يظهر كأب نموذجي يغمرها بالحنان ويشاركها أنشطتها، لكنه ليس غنيًا وتشعر (صوفي) بهذا، فهي ترى معظم من في الفندق يضعون حول أرسغتهم شريطًا أصفر يتيح لهم الاستمتاع بخدمات الفندق وهي لا تمتلكه، ولكن لا يبدو أنها مستاءة من هذا بل على العكس تكون مقدرة لوالدها ومتفهمة له، هي لا تقول هذا، ولكننا نرى من منظورها ونفهم ما تشعر به من خلال الصورة وشريط الصوت التجريبي، وخلال هذا نستشعر معها تغيرات أخرى خاصة بها في هذه السن مثل الجنس، الذي تختبره وكأنه شيء غامض غير مفهوم، فهي في سن إشكالية للغاية، ليست صغيرة كفاية وليست كبيرة كفاية، تراقب المراهقين وهم يتبادلون القبلات والأحضان ونستشعر الفضول معها لمملكة غامضة وعالم جديد قادم، عالم يعطي إشارات معاكسة لبعضها مخيفة وفي نفس الوقت لها سحرها، من خلال منظور (صوفي) نرى الأب، هنا يحدث شيء غريب، من عيون الابنة نحن نرى أبًا حنونًا ومحبًا ونموذجيًا، من عيون الكاميرا، نحن نرى ( شابًا) في الحادية والثلاثين يعاني من اغتراب كبير واكتئاب شديد.

في أحد مشاهد البداية تسأله: عندما كنت في عمري، ماذا توقعت أن تكون عندما تبلغ عمر الحادي والثلاثين؟

وهو سؤال لا يرد عليه لنبدأ في فهم الوضع الإشكالي للأب وأزمته.

 تسأله ابنته في مشهد آخر

 هل سترجع اسكتلندا مرة أخرى؟

يجيب عليها: لا، هناك لا يوجد شمس

في محاورة أخرى له مع الغواص المسئول عن تدريبهم يقول له: أنا لم أتخيل أن أعيش لهذه السن… ولا أتخيل نفسي في الأربعين.

بمرور الوقت ندرك أزمة الأب ووحدته، ونحبه أكثر لأنه رغم كل هذا قام بدوره كأب، لكن هذه هي المشكلة في علاقة كهذه لأنه أب لم تستطع ابنته أن تفهمه في وقتها، هذا الفهم حدث بعد ذلك، عندما وصلت لمثل عمره واسترجعت وشاهدت مقاطع الفيديو التي تم تصويرها مرة أخرى أحست أنها تتعرف عليه من جديد …كشخص مقبل على الانتحار.

هناك شيء مأساوي في هذا، هو شيء تأسيسي، هو أنه مستحيل أن تعرف الأب خارج إطار أبوته في لحظتها، هذا الإدراك يأتي لاحقًا، من خلال حياتك ورحلتك، لذلك العشق الحقيقي للأب يأتي بعد رحيله.

اختراع الزمن

خلال صنعها للفيلم، نستكشف مع المخرجة (شارلوت ويلز) غرضها الحقيقي من صنعه ونتماهى معها، بمرور الوقت ندرك أنها لا توثق رحلة أب مع ابنته في بلد شرقي دافئ، بل هي تبعث له رسالة مستحيلة ميتافزيقيا لا تستطيع تبليغها إلا بالسينما، هي تخلق عالمًا مجردًا، عالمًا متجاوزًا للأبعاد حيث يوجد فيه الأب والابنة في نفس السن وعندهم نفس التفهم والحب والتقبل، وهذا العالم عبارة عن اختلاسات من الزمن، ينير بطريقة خاطفة، كأنها تريد سرقة الزمن واختراقه وخلق جزيرة به تعبر فيها عن عشقها لوالدها وحزنها عليه، شيء لم تستطع التعبير عنه في الواقع أو في رحلتهم مع بعضهم البعض، هناك شيء آخر لن تستطيع رميه على صغر سنها وعدم إدراكها، لأنه خلال الرحلة من خلال لحظات معينة نعرف أنها تدرك أزمة الأب ولكن في صيرورة الزمن وانجرافهم في علاقة محددة مسبقًا لم تستطع التعبير عن شيء، هذا الإحساس بالذنب سيحرك حياة المخرجة بعد عشرين عامًا.

الكاميرا كأمنية

خلال الفيلم نحن نشاهد من منظور كاميرا (صوفي) أو مشاهد لا توجد بها الكاميرا ولكن لا بد أن توجد هي لأنها تتذكر، ولكن المشاهد الملغزة تأتي عندما نشاهد الأب بمفرده، هذا تجاوز من الفيلم، هنا تجاوز الفيلم نفسه، غاية العاشق هو المعرفة، هي كانت تريد معرفته بشدة، تريد أن تعرف ماذا يفكر به وهو وحده، هناك مشهد نجد الأب به يجلس وحيدًا بالغرفة ويبكي دون أسباب واضحة، مشهد آخر وهو يتجه للبحر ليلًا ويلتهمه السواد ويسبح في بحر الليل، هذه مشاهد تم تصويرها كأمنية تحققها لنفسها بأن تكون معه عندما تضطرب روحه، كاختراق لروح المعشوق حتى تصبح جزءًا من أنفاسه.

أين تقف المخرجة؟

في نهاية العمل نجد الابنة (الشابة) تراقب شاشة الكاميرا التي عليها الأب يودعها وهي طفلة في المطار وهي تجلس في شقة سوداء بلا إضاءة تقريبًا، وتدور الكاميرا، لتكسر الزمان والمكان ونجد الأب على الطرف الآخر يغلق كاميراته ويغادر مبتسمًا، هنا نعرف شيئًا غريبًا عن الابنة، حمل الماضي ثقيل، جعل الابنة في اللامكان، تائهة بين الأزمان، تريد أن تخلص روحها، العالقة في زمن آخر وذكريات حية أبدية كلعنة أزلية .

بعد الشمس

الفن له طبيعة تطهيرية واستشفائية –يمكنك سؤال دانتي عن هذا- قد يساعد، ليس علي التخلص من الذنب، ولكن رؤيته من الخارج والتعرف عليه الاعتراف به، المعرفة في حد ذاتها تقتل الشعور الأسطوري الملغز ذو الثقل النفسي، لكن في هذا العمل كانت الصبغة العلاجية تتجه لمنطقة محظورة وعميقة وأزلية في المخيلة والنفسية البشرية، عقدة الأب–ليس كما صاغها فرويد- بل عقدة الأب في وجوده أصلًا -أنها عقدة تأسيسية- لأن في لحظة ما ستدرك أنك مستحيل أن تحب الأب إلا عندما تعرفه، ولكي تعرفه عليه أن يكف أن يصير (أبًا) من الأساس، (الأم) لا تواجه هذه المشكلة من بدايتها أصلًا، هي متفقة مع ذاتها نفسيًا ووجوديًا وجسمانيًا، أما الرجل فهو ملعون، لا أستطيع أن أرى الرجل سوى أنه كائن ضحى بذاته في سبيل مثل عليا، أو في سبيل ميتافيزيقا لأن الواقع لم يكن مشبعًا روحيًا له، الرجل في الحضارة يحمل ميراثًا تطوريًا خطيرًا، ميراث الدم والروح ، الأب يضحي بذاته في كل لحظة، هذا ليس عمله ولكن هويته، وهذه هي مأساته.