حين يتلفظ أحدهم بلفظ: «آه» تجد الرد السريع في لغة الشارع: وجع ولا دلع؟

هما هذان الحرفان الألف والهاء اللذان ما اجتمعا إلا ليتحدا، تجد ما ينتشي بك من الاستحسان فتُطلِق «آه»، ويؤلمك ما يؤلمك من الدنيا وما فيها فلا تُطلِق إلا الـ«آه».

تلك القطعة النادرة التي لا نفصلها لنتحدث عن حرف الألف وتأثيراته بالمد والتقطيع، ولا نفصلها لنتحدث عن الهاء التي تخرج من آخر الحلق مُحمَّلة بالأوجاع والثقل؛ بل هي تلك الجديلة من ألفٍ وهاء وألفٍ وهاء وألفٍ وهاء إلى أن نتلاشى.

لذلك فتلك بعض المحاولات لطرق أبواب الـ«آه»، لعلنا نفلح في الدخول.

هنا آهات الحكاية… آهات العاشق الحكّاء… تقطيعات متواصلة من الآهات تعود بك إلى الوراء وتعود بالزمن لتُنبِّهك لبداية الحكاية: أحببتها أحببتها أحببتها… وأحبُ في الأيام يوم رأيتها، ثم يقرر أن يحكيها والآهات هي فواصل لمواصلة الحكاية ببعضها: لم أدر ما قالته إلا بعد ما كانت بمعصمها يدي ورفقتها، كل المنى في لحظة أنا نلتها، لمّا شعرت بأنني كلّمتها، وكلامها إن قلت إن كلامها نغم القيثارة، فقد أكون ظلمتها، آاااااه آه آه آه آه آه آه آه آه.

لم يكن يوماً سيد درويش هو الفنان الذي يحتكر العمل على نفسه، فتسمع منه الأغنية لتُحرَّم بعد ذلك على أذنك من غيره، بل كان دائماً من يمسك بطرف الخيط ليتركه يكرُ عبر الزمن، فتستطيع أن تستمع لرائعته «أنا هويت وانتهيت» بأكثر من نسخة وأكثر من صوت رجالي أو نسائي وتنتشي بهم جميعًا.

حتى ولو لم تسمعها من مطرب، يمكنك أنت أن تنتشي بها وتدندنها لها، وتدندنها هي لك فقط، إلى أن تجدا الوقت المناسب الذي يستحق أن يعترف كل منكما للآخر: أنا هويت وانتهيت، آهات أنا هويت وانتهيت تظهر في منتصف الأغنية تقريبًا، تأتي بعد الذوبان الكامل في جملة أنا وحبيبي في الغرام مفيش كده لتكون إيذاناً معلناً بالرضا التام عن هذا الانتهاء، ثم تدخل جملة أحبه حتى في الخصام، ويستمر أيضاً استهلاكها تماماً حتى تُطلِق آهة الانتهاء الأعظم التي لا تملك بعدها إلا الاعتراف: ما دمت أنا بهجره ارتضيت… مني على الدنيا السلام.

ومعنى آخر فريد للآهات يشرحه «علي الحجار» في آهات «أنا مش عابر سبيل»، وهو آهات المسافر المُحِب للسفر والترحال.

حيث يدخل علينا بآهاته تلك دون مقدمات ولا أي تمهيد موسيقي، بل يُقحِمك في هذا الجو سريعاً، فكأنما آهاته تسمعها من بعيد وتقترب عليك شيئاً فشيئاً إلى أن تصل. أتى من آخر الطريق بعد أن أتعبه السفر فجلس يستريح ويشرح لنا أنه «مش عابر سبيل لكن يعشق الترحال». يُفسِّر لنا ويوضح أسبابه، ثم يفسرها ويجعلها هي السبب والسفر، «وأنتي ليالي العشق والموال»، ثم يكمل آهاته مسافراً في عينيها.

وعلى كل حال لا يصح ذكر الآهات دون ذكر الست، فما فعلته أم كلثوم بالآهات لم يفعله آخرون بفرق موسيقية كاملة.

مبدئياً ومع عشرات الآهات التي غرّدت بها الست لا يمكنك أن تجد آهة تشبه الأخرى، وعلى صعيد ما وراء الآهات وما تحويه فقد استهلكت كل ما يخطر من مشاعر إنسانية بجديلة الألف والهاء هذه. آهة الشوق في «افتكرلي لحظة حلوة»، وآهة المكسور في «يا قلبي آه الحب وراه»، وآهة المغلوب على أمره في «آه لما منعت ودادك»، وآهات العتاب في «كنت بخلصلك في حبي من كل قلبي»، وآهات الوله في «ياللي هواك في الفؤاد عايش في ضل الوداد»، وآهات الذائب في «وصفولي الصبر»، وآهات المستسلم في «ياما حليتلك آهات قلبي»، وآهات الحذر والفرح في «جاني الهوى من غير مواعيد»، وآهات الهائم بالذكريات في «لسه فاكر»، وآهات الدلع والغرام في «ياللي مليت بالحب حياتي»، وآهات السهرانين في «والليالي كنت بتسمي الليالي».

وبعيدًا عن تلك الآهات المُحمَّلة بالمعاني، لك أن تخوض تجربة الاستمتاع بالآهات كحدث موسيقي منفصل، مثل أن تستمع إلى آهات عبد الوهاب في «أحب أشوفك كل يوم». عبدالوهاب الذي دائمًا في فرحٍ أو حزنٍ يغني فوق الماء، بل يغني كالماء، تدفق هادئ يسري بك ليُجبِرك على إغماض عينيك، وهذا ما يفعله في آهات «أحب أشوفك كل يوم»، آهات لا تضطرك لفرض أي تأويلات عليها، بل تضطرك فقط لترجوها بألا تنتهي، «رأيت خياله في المنام محلاه يا وعدي»، ثم يتفرد بالآهات صعوداً محسوباً حتى حد الارتقاء لتتساءل: أين أنا؟

وبمنطق مشابه يمكنك تحقيق الارتقاء بآهات مارسيل خليفة في «أمر باسمك»، لكن هذه المرة مارسيل يقصدها، أدخل آهاته كآلة موسيقية ضمن توزيع الأغنية، ثم يقصد أن يجعلك تسرح مع الآهات تحديداً حتى ولو لم تكن بكامل تركيزك مع باقي الأغنية، يمكنك أن تنفصل بالآهات بمفردها، يبدأ آهاته فتتغير دقات قلبك، يختلف الرتم تماماً ويُقرِّر أن يُحدِّثك بجديلة الألف والهاء هذه حيث لا تكفيه باقي الحروف، فتتمنى حينها لو تستمع لمقطوعة كاملة بآلتين فقط؛ الألف والهاء وأوتار العود.

كان فيه شجر موعود
يصبح كمنجة وعود
تسمع في حسه الودود
ضي النسيم ع الغصن بيتمرجح
ويلاغي ظل الشجر
وسقف بيت في القمر
وجيران تطل وتفرح
وباب يفتح
لكل غايب يعود
ليه كل ما نقول آه
الناس تقول الله.
من قصيدة «أنا المغني» لـفؤاد حداد.

ثم ماذا؟

ثم تصبح الآه هي النواة والغاية… هي التي تبدأ معها الفرحة وهي التي تُنهِي بك النشوة… تُحمِّلها ما شئت من الرمزيات والفلسفات، وتتنهد بها ما شئت من البساطة والاستسهال، تصبح الآه هي السؤال والجواب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.