حقق مسلسل «رمضان كريم» نسبة مشاهدة لا بأس بها، ويُذكر له أنه استطاع أن يفعل ذلك ، برغم العرض الحصري، والمنافسة وسط تناحر كبير بين مسلسلات، أثارت حولها جدالات ونقاشات، لا زالت تترد أصداؤها حتى الآن، مثل: (واحة الغروب، لا تطفئ الشمس، وهذا المساء)، ناهيك بالمحتوى البسيط في السرد، الذي انتهجه صناعه، دون الاعتماد على قصة شائكة يتعلق بها المشاهد، في انتظار ما ستسفر عنه بقية الحلقات، بنفس القدر من الشغف.

وهو ما يجعلنا أمام سؤال مهم، لماذا حقق تلك الشعبية، على الرغم من تلك «العادية»التي انتهجها؟ وهذا يأخذنا لتساؤل أشمل: ما الذي يجعل كاتب العمل، السيناريست «أحمد عبد الله» تحوز أعماله نسب مشاهدة جيدة، وتنال قدرا لا يُستهان به من إشادات النقاد، خاصة أعماله في العشر سنوات الأخيرة، والتي لم تختلف كثيرًا عما جاء في المسلسل، حيث السرد البسيط، دون الاعتماد على حبكة بعينها، والإمعان في التفاصيل، وامتلاء العمل بكم هائل من الشخصيات، حتى لو أربك هذا المشاهد؟

اقرأ أيضا:مسلسل «رمضان كريم»: دراما الشخصيات العادية

منذ عشر سنوات تقريبًا، والسيناريست أحمد عبد الله يقدم لونًا مختلفًا عليه، وعلى منتجه المفضل «أحمد السبكي»، من خلال عرض أفلام، تحمل قدرًا من الدراما الحقيقية، دون الاعتماد على الكوميديا الخالصة، والتي حققت لهما أرباحًا مادية، وانتشارًا عريضين، كما في أفلامهما في مستهل الألفية الجديدة (عبود على الحدود، الناظر، 55 إسعاف، اللمبي، ميدو مشاكل، وعسكر في المعسكر، انتهاءً بفيلم كركر).

إلى أن اتخذ طريقًا مغايرًا على نهجه السينمائي من خلال فيلم «كباريه» عام 2008، وحققت التجربة نجاحًا ملحوظًا، لما بها من اختلاف وتميز سواء له أو لمنتجه أحمد السبكي، وبالطبع المخرج «سامح عبد العزيز»، الذي كان هو الآخر قد قدم من قبل أفلامًا دون المستوى، أشهرها: (درس خصوصي، وأسد و4 قطط).

مرحلة كهذه، يُقدم بها مثل تلك النوعية من الأفلام الهزلية، كان طبيعيًا أن يصنع «كباريه» حالة مختلفة في ظل هذا السائد؛ كان هذا بالنسبة لملابسات نجاحه الخارجية،بالنسبة للمحتوى الداخلي للفيلم، لا ننكر أنه كان به قدر من الجدية، بما يجعل مقارنته بما سبقه من أعمال ترجح من كفته؛ حيث القدرة على سرد أحداث تدور جميعها في يوم واحد، والإلمام بشخصيات كثيرة في عمل واحد، وهو مالم يكن شائعًا وقتها، حتى حاليًا تحدث على استحياء، كل هذا ساهم في جعل الفيلم أرضية ممهدة، وصالحة للبناء عليها.


استثمار النجاح.. واعتماد نفس التيمة

لم ينتظر السبكي كثيرًا، وأنتج في العالم التالي فيلم «الفرح»، معتمدًا على نفس الثنائي، أحمد عبد الله كاتبًا، وسامح عبد العزيز مخرجًا. سيناريو عبد الله هذه المرة، جاء متماسكًا بصورة أوضح من «كباريه»، وحمل فكرة إنسانية يعلم جيدًا أنها ضاربة في عمق وجذور المجتمع المصري، وهي فكرة احترام الموتى، من خلال سرده لشخصية «خالد الصاوي»، الذي شرع في عمل فرح وهمي، لجلب أموال «النقطة»وشراء ميكروباص يتكسب من خلاله لقمة عيش.

لكنك رغم طزاجة الفكرة، تتساءل: هل قدم أحمد عبد الله نفس الفكرة من قبل، لكن بقالب كوميدي؟ على الفور، سيتبادر إلى ذهنك فيلم «اللمبي»، حيث تزوج بطل الفيلم «محمد سعد»من محبوبته «حلا شيحة»متخذًا ذات الطريقة، باستخراج الكراسة الصفراء، ورغم علمك بهذا، ينجح الفيلم، ويتسلل إلى روحك، بل وتعُده ضمن الأفلام الجيدة في العشر سنوات الأخيرة.

يدخل عبد الله الدراما من خلال مسلسل «الحارة» عام 2010، لكن هذه المرة لم تكن بنفس القدر من النجاح الذي حققه فيلمي «كباريه»، و«الفرح»، وهذا يطرح التساؤل الأهم، هل اعتماد أحمد عبد الله على دراما اليوم الواحد، أي السيناريو الذي تدور أحداثه في يوم واحد، جعل محاولاته في التخلص منها تبوء بالفشل؟ وإن كانت الإجابة نعم، لماذا نجح «رمضان كريم» هذا العام؟


سيناريو اليوم الواحد

لم يعهد المشاهد العربي كثيرًا ذلك النمط في العرض السينمائي، سوى في أعمال قليلة أشهرها قديمًا «بين السما والأرض» لنجيب محفوظ، وصلاح أبو سيف، وحديثًا أكثر من فيلم على سبيل المثال: «واحد صفر» لمريم نعوم، وكاملة أبو ذكري، و«عين شمس» لإبراهيم البطوط، وكلا الأخيرين عُرضا في نفس الحقبة التي عرض بها عبد الله أفلامه، وأعمال أخرى تنتمي للسينما المستقلة، أبرزها «ميكروفون» للمخرج الشاب أحمد عبد الله.

كل الأفلام السابق ذكرها وغيرها الكثير، استطاعت أن تجد لنفسها مكانًا في الأرشيف الجاد للسينما المصرية، وفي وعي الكثير من محبي الفن السابع، بما يعني أن السيناريست أحمد عبد الله لم يأتِ بجديد بتقديمه هذا اللون الدرامي، إلا أن ما يميزه عن غيره من أصحاب هذا اللون، هو ذاته ما يجعل أفلامه أقل منها على المستوى الفني، خاصة «كباريه، الفرح».

ففي الوقت الذي تميز فيه هذان الفيلمان، من وضع جُمل حوارية، في غاية الصدق على لسان أبطالها، إلا أننا في الوقت ذاته، لم نلمح أي بناء درامي يعول عليه، أو تعمق في سرد الخلفيات التاريخية للشخصيات، فخرج الفيلمان وكأنهما أعمال تسجيلية، لما يدور في مكنون تلك الطبقة الفقيرة، الذي يغلفها التدين الشكلي، وتتحايل لفعل الموبقات، ناهيك عن إصراره على وضع الحكمة الأخلاقية في النهاية، وهي خلطة «سُبكية»بامتياز، حيث النهاية بالعقاب القاسي للمذنبين والخلاص للتائبين. لاحظ نهاية «كباريه»

الحال لم تختلف كثيرًا في فيلم «الفرح»، الذي بالرغم من طزاجة الفكرة، إلا أن انحيازه للخلطة السُبكية، والنهاية الأخلاقية الإلزامية، أفسدت تلك الطزاجة، لنتيقن في النهاية أن الفرح لم يكتمل احترامًا لحرمة المتوفى و«يا دار ما دخلك شر».


تيمة «المذنب مصيره الهلاك»

تلك الخلطة وإن رُفضت فنيًا وبدت سطحية ومباشرة، لكنها تلقى رواجًا لدى الجمهور، الذي يعلم أحمد السبكي جيدًا كيف يخاطبه، سواء بإيمان داخلي لديه، أو لمجرد الجذب التجاري؛ حاول عبد الله الخروج منها، لكنه لم يستطع مثلًا في تجربة «الليلة الكبيرة»، حيث الصراع بين الصوفية والسلفية اللذين سيطرا على المجتمع المصري في الفترة الأخيرة، وهي فكرة براقة لو سارت على نفس النهج ذي الأقواس المفتوحة، وعدم الانحياز لأي من الطرفين، والعلاقات الكثيرة والمتشابكة.

لكننا في النهاية لم نبرح النهاية الصادمة، بل زاد عليها التيمة الميلو درامية القديمة، حيث يكتشف «عمرو عبد الجليل» أن من تزوجها هي ابنته من علاقة غير شرعية، وطرد «محمد لُطفي» من عمله جزاء لمحاولته السيطرة عليه، ليطبق المقولة الخالدة: «من أعمالكم سلط عليكم»، وهو ما يتضح جليًا في جملة صبري فواز مجذوب المولد لمحمد لطفي: «لو كنت اديتني لقمة مكنش اتقطع عيشك».


التخلي عن الخطابية

تلك النهايات الأخلاقية التي تفرغ العلم من مضمونه، وتحيله إلى خطبة على منبر بأحد المساجد، تخلّى عنها عبد الله في «ساعة ونص»، فخرج الفيلم مجردًا من أي أخلاقيات، والشخصيات جميعها تعبر عن البؤس الذي يرزح تحته المجتمع، وبالرغم من ذلك يتحملون، كل هذا الهوان، فتكون النهاية هي الهلاك، ذلك الهلاك الذي يأتي للخائف ما دام لم يدفع بعيدًا عنه حتى حط على رأسه.

«ساعة ونص»، تضافر في إخراجه بهذه الصورة، إلى جانب براعة السيناريو، المخرج وائل إحسان، الذي استطاع أن بكادرات متنوعة ألا يشعر المتلقي بالملل في فيلم تدور أحداثه في لوكيشن واحد تقريبًا، وكذلك أداء الممثلين، وهو للحق ما تتميز به كل أعمال أحمد عبد الله، وتساهم في خروج الأفلام بصورة جيدة، حتى وإن اختلفنا على رسالتها المباشرة، وبالطبع كانت لموسيقى ياسر عبد الرحمن دورها في إضفاء الجانب الشجي على الفيلم.

في «رمضان كريم»، جاءت التجربة مختلفة تمامًا، حيث السلاسة في السرد، حتى لو لم يعتمد السيناريو على حبكة بعينها لإبرازها، واعتماد عبد الله على ما به تميز من سرد محكم للتفاصيل اليومية، التي تعيشها طبقة البسطاء، لكنه خرج بصورة جيدة، بالإضافة إلى تخليه عن الخطاب الأخلاقي الزاعق في نهاية العمل، والتزامه بالعهد الضمني الذي أقره مع الجمهور منذ بداية الحلقات.

بدءًا من التتر الشعبي، وكلماته التي تلخص المشهد الرمضاني المصري، ونهاية التتر بكوب شاى يُصب على مهل، كناية عن «الروقان»الذي سيلتزم به النص، مرورًا بالشخصيات الحية، انتهاء بالحلقات التي تنتهي في كل مرة أزمة إنسانية تعيشها إحدى الأسرتين، وتبدأ الحلقة التي تليها وكأن شيئًا لم يحدث، وتستمر الحياة، كما في حلقة تسبب الابن وليد «كريم الأبنودي»في احتراق «أنتريه»شقيقته رضا «ريهام عبد الغفور»، في الحلقة التالية نرى وليد جالسًا على مائدة واحدة مع الأب وبقية الأسرة يتناول الإفطار، بالرغم من كون الأب لا يعلم من أين سيأتي بأموال لجلب أثاث آخر غير المحروق.