يقولون إن العالم أصبح أكثر قسوة، عجلة الدنيا الثقيلة تدور بسرعة جنونية وكأنها تتدحرج على منحدر مائل فتدهس كل من يوقعهم حظهم في طريقها، يقولون إن الحياة أصبحت أصعب، وإننا جميعا مطالبون ببذل مجهودات أكبر من الأجيال التي سبقتنا لنظل فقط على قيد الحياة.

يقولون إن العالم أصبح قرية صغيرة، ينتابها الجنون ويريد جميع سكانها أن يكونوا مرئيين، لا يقنع أحدنا بالتواري في الظل، كلنا مهووسون بالفضاء الكبير، نقاوم قسوة العالم بأن نكون أكثر تألقا حتى لو كان ذلك على حساب أرواحنا المرهقة، يقولون إن الحياة أصبحت أصعب لأننا نحن من يزيد مستوى صعوبتها على أنفسنا والآخرين يوميا.

يقولون إن الانفتاح الذي أصاب العالم أصابنا بالجنون، الناس لهم أكثر من حقيقة وكل حقائقهم مؤلمة، أنت نفسك لك أكثر من حقيقة، حقيقة في بيتك أمام مرآتك، وحقيقة في الشارع، وحقيقة في العمل، وحقيقة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحقيقة أخرى مختلفة تماما تواجهك على الوسادة ليلا، يقولون إن هذا سببه انفتاحنا على حيوات الآخرين، وهوسنا بالميديا والتواصل الاجتماعي والصورة البراقة التي يجب أن نصدرها عن أنفسنا للعالم حتى يعطينا صك الغفران ويصنفنا سعداء، حتى لو لم نكن.

حسنا، ما علاقة هذا كله بالإنسان، وبالتريند، والأهم من ذلك، ما علاقته بأحمد الفيشاوي؟


المهووس، الموهوب، المرفوض، اللامبالي

«أحمد الفيشاوي» فنان شاب يثير اللغط أينما حل، بعد أزمته الأخيرة في مهرجان الجونة السينمائي ثم اعتذاره عنها، وبعد أن تداولت جميع وسائل الإعلام أخباره، وإدلاء كل من يملك صوتا بدلوه في تصرفاته، وبعد أن نال الكثير من السب، واللعن، والتفهم، والإشادة، وتباينت ردود الأفعال حول ما يفعله في كل مرة تسلط عليه كاميرا ما في أي مكان، بعد كل ذلك لم يتحدث أحد عن علاقة كل ما يفعله «أحمد الفيشاوي» بما يحدث لنا جميعا في هذا العالم.

«أحمد الفيشاوي» محب للظهور، يدمن الكاميرا، صاخب ولامبالي، يتعمد الإتيان بأفعال صادمة، حتى ملابسه، وأكسسواراته، والوشم الذي يغطي جسده بالكامل، حديثه وردود أفعاله المبالغ بها، والتي لا تكون على مستوى الحدث في معظم الأحيان، مقابلاته التليفزيونية التي لا تمر مرور الكرام في العادة.

كل هذا يحدث جنبا إلى جنب مع تمسكه دوما بأن يصرح بأنه يحب الله، وأنه يثق في أنه يتفهمه حتى وهو يتحدث عن الخمر، تناقض صارخ يجعل تباين ردود الأفعال شيئا طبيعيا جدا، ويجعل مرات البحث عن صوره على جوجل تتزايد، ويجعل صورته تتصدر تريندات السوشيال ميديا، ويجعله نجما إعلاميا لن تستطيع أن تنساه حتى يقفز أحد أخباره الجديدة في وجهك مرة أخرى.

منذ بداياته وهو محل خلاف، ممثل يشارك في برنامج شبابي توعوي ديني، ثم تنفجر مفاجأة قضية إثبات نسب ابنته، ثم إنكاره هو وأسرته لها، الكثير جدا من اللقاءات والأحاديث الإعلامية، ثم سفر واختفاء عن الأنظار، ثم عودة وتمثيل وأغنيات راب وعلاقة قوية بابنته التي أنكرها من قبل، ثم صخب لا ينتهي وبرامج تليفزيون يقدمها وأفلام تنجح جدا، وموهبة تتفجر على الشاشات.

أحاديث عن الخمر، والحرية، والوشم، والحب، والنساء، والطيبة، والخير، وتقبل الآخر، هو لم يكن أبدا ذا بعد واحد، لا يمكنك أن تصفه وصفا واضحا، في الحقيقة كان ولا زال –أحمد الفيشاوي- يمثل ما يمكن أن نطلق عليه -متحذلقين- أزمة الإنسان المعاصر.


كلنا فاسدون.. لا أستثني أحدا

كل وقت قصير تتفجر قضية على مواقع التواصل الاجتماعي تلفت لها الأنظار، فتاة تنتحر وينقلب الفيس بوك حزنا عليها، ومشاركة لصورها، وحكايات عن ذكرياتها مع أصدقائها، ثم يتبين أنها لم تنتحر أصلا، فتاة أخرى تموت بالسرطان وتترك حسابات على كل مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بالخير والجمال فيترحم عليها كل من عرفها وتنتحب صديقتها المقربة عليها حتى يخشى عليها المتابعون من أن تلحق بصديقتها، ليكتشفوا لاحقا أن الفتاة المتوفاة والصديقة هما نفس الشخص، وأنه لا سرطان ولا وفاة وكل شيء مزيف.

فتاة منتقبة تصور فيديو لها ترقص الزومبا ويتفجر العالم كيف يمكن أن تفعل هذا وكيف لا تحترم النقاب، منشد أزهري يغني لأم كلثوم وهو يرتدي العباءة والعمامة الأزهرية، فتاة تصور فيديو لتشكو أن أحدهم يسرق صورها ويروج لأفكار فاسدة باستخدامها ليجمع متابعين، كل يوم قضية جديدة تلفت الأنظار يتحلق حولها المتابعون يبدأ جنون «اللايك»، و«الشير»، ويشتهر صاحب أو صاحبة الصرعة الجديدة لوقت قصير ثم يخفت كل شيء في انتظار الحدث الجديد.

هذا هو ما يحدث في العالم الجديد، كل العالم يقتات –حرفيا– على اللايك والشير ومدى اللغط الذي بإمكانك أن تصنعه، الهوس أصاب كل شيء، وضرب عميقا في ثقافتنا وفي حيواتنا اليومية، كل شخص أصبح يحلم بأن يقف تحت الأضواء لفترة من الزمن، أن يكون نجما وأن يشير إليه الناس، و«أحمد الفيشاوي» نموذج واضح جدا على هذا الهوس الجنوني.

حتى العاديين الذين لا يخترعون قصصا تثير ضجة، ولا لديهم الفرصة ليتقافزوا أمام الكاميرات ويتفوهوا بأشياء صادمة، يصيبهم هوس الحديث عن كل وأي شيء، وكلما ازداد إعجاب الناس بكلامهم ازدادوا شهرة ويقينا فيما يفعلونه، فنفيق جميعا فجأة لنجد كتبا غاية في الركاكة والسطحية تغرق السوق الثقافي وتسمى عبثا «أدب».


مرض نفسي أو جنون عالمي

مؤخرا وبعد أزمته الأخيرة تحديدا انبرى جانب من السوشيال ميديا للدفاع عن «أحمد الفيشاوي» باعتباره مضطرب نفسيا يستأهل مساعدة، وكل تصرفاته الطائشة وأفعاله غير المحسوبة هي نواقيس إنذار يدقها طلبا للمساعدة، ويستندون في تحليلهم هذا لحوادث حياته المتتالية التي تركته –في رأيهم– شخصا خاويا يعاني فراغا روحيا هائلا، ويعوض ذلك بإتيان الأفعال المجنونة لينبه من حوله أنه يحتاج للمساعدة.

حسنا، ربما كان هذا صحيحا، وربما لم يكن، ربما كانت آراؤهم حقيقية وأنه يحتاج مساعدة ممن حوله، وأنه نفسيا غير مستقر، وربما كان «أحمد الفيشاوي» جزءا من جنون الشهرة الذي يجتاح العالم مؤخرا والذي بات واضحا أكثر من اللازم، والذي ينبئ بأننا جميعا معرضون يوما ما لأن نصنع من أنفسنا «تريند».