نهار خارجي

الزمان: 19 يناير/كانون الثاني 77، السابعة صباحًا

المكان: أمام ليمان طرة

أحمد فؤاد نجم يتقدم مجموعة جديدة من المعتقلين. اجتاحت الشوارع بالأمس مظاهرات حاشدة خرجت اعتراضًا على مشروع الموازنة الجديدة الذي قدمته الحكومة وأعلنت فيه نيتها رفع أسعار بعض المواد الغذائية وتقليل الدعم استجابةً لشروط صندوق النقد الدولي. المظاهرات شعبية بمشاركة واضحة من العمال والطلبة، والهتافات تلخصت في «يا ساكنين القصور.. الفقرا عايشين في قبور» و«سيد بيه يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه».

ينظر نجم فيجد صفين طويلين من المخبرين والعساكر في استقبالهم، ومن وراء الجميع يظهر الجنرال حسين زكى. يصرخ «الجنرال» قائلا: «فتشوه». يخلع نجم قميصًا ثقيلا من الصوف بشكل منفعل وبحركة واحدة. يظهر صوت نائب المأمور حازمًا: «خلاص». يسأل نجم لمَ كل هذا التفتيش؟ فيعلم أنهم يريدون التأكد من عدم امتلاكه لقلم. يقسم نجم أنه سيؤلف قصيدته الجديدة وستُنشر بالغد.

يُخرج نجم أوقية حشيش خبَّأها بين معصمه و«إسوارة» القميص، يطلب من «عم إبراهيم» الشاويش بعضًا من ورق «البفرة». يستغرق نجم في التأليف والحفظ، وفي نهاية الليلة ينادي على زنازين الطلبة سائلا عن الذين سيُعرضون على النيابة في الصباح التالي. يجيبه أربعة من الطلبة، فيبدأ«نجم» أبياته: «كل ما تهل البشاير من يناير كل عام»، ثم يستمر في ترديد قصيدته عليهم حتى يحفظوها.

في الصباح التالي خرجت عناوين الجرائد المصرية الحكومية الثلاث (الأهرام، والأخبار، والجمهورية) بشكل واحد، وهو: «مخطط شيوعي لإحداث بلبلة في مصر وقلب نظام الحكم»، فيما وصف السادات المظاهرات بأنها «ثورة حرامية». أما قصيدة نجم فقد نُشرت في «الجارديان» بعنوان: «الرسالة رقم 1 من معتقل طرة».

كل ما تهل البشاير من يناير كل عام يدخل النور الزنازن يطرد الخوف والضلام يا نسيم السجن ميل ع العتب وارمي السلام زهر النوار وعشش في الزنازين.. الحمام من سكون السجن صوتي نبض قلبي من تابوتي بيقولولك يا حبيبتي كلمتي من بطن حوتي سلمي لي عالحبايب يا حبيبتي

ليل داخلي

الزمان: 19 نوفمبر/تشرين الثاني 77

يجلس أحمد فؤاد نجم في غرفة منعزلة في عمارة سكنية بإحدى ضواحي القاهرة، التليفزيون المصري يعرض لقطات من زيارة السادات غير المتوقعة لإسرائيل، جيمى كارتر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يُعلِّق: «السادات يشبه أول رجل يخطو على سطح القمر»، بعد سنين من الحرب بين العرب وإسرائيل، يطرح السادات خيار السلام المنفرد بين مصر (صاحبة أكبر جيش عربي) وبين إسرائيل.

وزير الخارجية المصري يتقدم باستقالته اعتراضًا على زيارة السادات للقدس، تنتهي الزيارة ويعود السادات، يخطو أولى خطواته بعد العودة إلى أرض مصر التي أصبحت في معزل عن باقي الدول العربية التي قررت مقاطعة نظام السادات ووصفته بالخيانة. تستمر الأخبار ويتذكر نجم أنه هارب من حكم بالسجن لمدة عام أصدرته محكمة عسكرية اتهمته بنشر أشعار «مضادة لسياسات الدولة». يقرر نجم أن يكرر الجريمة التي ارتكبها من قبل، قلم رصاص، دفتر ورقي متهالك والكثير من الحزن. تبدأ الكلمات «بستنظرك .. بستنظرك، رغم القساوة في منظرك». يشعر «نجم» ببعض الدموع في عينيه، يشعل سيجارة حشيش أخرى وينتهي المشهد.

بستنظرك رغم الشتا والبرد والرعد المخيف بستنظرك ف الشارع المشغول بأوحال الرصيف أنا أصلي حاســــب موعدك وعارف اللي بيبعدك وأنا اللي خابر تبقي مين وأنا اللي صابر من سنين وباعدّ لك مطرح ف بســــتان الأمل بستنظرك يا جرحي يا حلمي العنيد بستنظرك يا مصر يا حبي الوحيد وحتيجي يوم وتصدّقي عشقي الأصيل وتحققي حلمي الجميل وتزوقي عمري اللي ضاع مستنظرك بستنظرك

ليل داخلي

الزمان: 25 إبريل/نيسان 2016

غرفة مُظلمة إلا من ضوء طفيف قادم من شاشة هاتف محمول بين يدي شاب نحيل جالس في أحد الأركان، شارة الشبكة تحمل علامة «إكس» ولكن الهاتف متصل بالإنترنت بشكل ما. يستخدم الشاب برنامج اتصالات غير معروف، أشار به عليه أحد أصدقائه قائلا أن النشطاء السياسيين في الإكوادور وإيران وجنوب إفريقيا يستعملونه.

دقائق من الصمت قبل أن تظهر رسالة جديدة على الشاشة، الرسالة تؤكد اعتقال أربعة من أصدقائه المقربين في مظاهرات «جمعة الأرض» التي اعترضت فيها مجموعات شبابية على اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وتخلّى على إثرها النظام المصري عن جزيرتي تيران وصنافير. دقائق أخرى من الصمت ثم تظهر رسالة جديدة قادمة من صديقه من الطرف الآخر تخبره بالبقاء بعيدًا عن مقاهي «وسط البلد» فيما هو قادم من أيام.

يمر أسبوع من الصمت .. لا يزال الشاب داخل غرفته في الليلة السابعة. يبدو أنه تذكر شيئًا ما، يترك الهاتف أخيرًا من يده ويفتح حقيبته ثم يقرأ آخر رسالة استلمها من زميل دراسته المعتقل منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.

أعرفكم جميعًا إن السجن سور .. واعرفكم جميعًا إن الفكرة نور وعمر النور ما يعجز يأزح ألف سور وعمر السور ما يقدر يحجز بنت حور واعرفكم جميعًا إن الظلم شايخ واعرفكم جميعًا باب السجن خايخ واعرفكم جميعًا إن ملهش أوكرة واعرفكم جميعًا إنه هايبقى ذكرى واعرفكم جميعًا إن الثورة فكرة وابشركم جميعًا إن الوعدة بكرة والنور عندنا وعندكو .. يا حبايب

يغلق الشاب الرسالة ثم يفتح هاتفه مرة أخرى ليشاهد أحمد فؤاد نجم فوق خشبة المسرح في إحدى ضواحي باريس في عام 1986.

-نهاية مفتوحة-