ما الذي يمكن أن يقدّمه كاتب الروايات والحكايات الخيالية الأكثر جماهيريّة وانتشارًا بين أوساط الشباب، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي كله؟

هل يكشف لهم سر كتابته وانتشاره ونجاحه بهذه السهولة في سطور كتابه الجديد «اللغز وراء السطور»؟ أم أنه يكتفي فقط بأن يدور حول عددٍ من المسائل والقضايا الشائكة المتعلّقة بعالم الكتابة والأدب الذي قضى فيه زمنًا طويلاً، ومرّ خلاله بعدد من التجارب وتراكم الخبرات، ما جعله بالفعل أهلاً لأن يقدّم أخيرًا طرفًا من تلك الخبرة كاشفًا بعض الأحاديث عن مطبخ الكتابة، على حد تعبيره.

بأسلوبه الخاص جدًا الذي يجمع بين السخرية وحكاية عدد من المواقف ومخاطبة القارئ مباشرةً يقدّم «أحمد خالد توفيق» كتابه «اللغز وراء السطور» الذي يقسمه إلى قسمين، يبدأ بثرثرة من داخل المطبخ الذي يتعرَّض فيه من خلال 18 مقالاً إلى عددٍ من الأفكار المهمة الخاصة بالكتابة، والتي قد تشكّل حجرة عثرة أمام الكتّاب الجدد، محاولاً أن يمهّد لهم الطريق ويذلل لهم الصعاب، عبر بيان عدد من المواضيع الخاصة بالكتابة، رغم أنه يوضّح في البداية أن الكتابة عملٌ شاق لا يمكن شرحه أو تعليمه عبر «وصفة سهلة»، ويبقى على الدوام لغزًا عصيًا على التفسير.

حاولت دومًا فهم اللغز الكامن وراء السطور، ولماذا تبدو هذه الفقرة جميلة وتلك مفككة، ولماذا تمتعنا هذه القصّة بينما تثير تلك مللنا. الرسالة الكهربية المنبعثة من اجتماع الحرف جوار الحرف، لا تقل غموضًا ورهبة عن الطريقة التي تتابع بها شفرة الحمض النووي لتصنع حمضًا أمينيًا مختلفًا في كل مرة.. هذا السحر الذي لا أعرف من أين يأتي، ولا يمكن استدعاؤه عند الحاجة، ولو عرفت السر لصرت مليارديرًا، ولنلت جائزة نوبل في الأدب خلال بضعة أعوام.

يتحدث في الكتابة بشكلٍ عام عن مشكلاتٍ وعقبات تواجه الكتّاب مثل «قفلة الكاتب»، تلك المشكلة المؤرقة التي تصيب عددًا من الكتّاب المحترفين بعد فترة كتابة طويلة، ليفاجأ بتوقف مصادر الإلهام ويشعر أنه أفلس تمامًا وبحاجة إلى طريقة أخرى يستعيد بها موهبته ويواصل من خلالها كتابته، كما يتحدث عن عددٍ من المشكلات الخاصة بالكتابة السردية مثل «مشكلة اختيار الأسماء»، وكيف أنه ينبغي على أي كاتبٍ أن يحرص على اختيار أسماء شخصياته التي تتناسب مع زمان ومكان كتابتها.

كما يتناول في مقالٍ عن «التقمص» شرح مقدرة الكاتب الاستثنائية التي تجعل كاتبًا ما محترفًا وآخر ليس كذلك، وهي قدرته على تقمص شخصيات أبطاله والتعبير عنهم بشكلٍ كامل، وهو الأمر الذي يقرّب الكاتب من أن يكون «نصابًا» لأنه يقنع القارئ بأشخاصٍ وأحداث ربما لا يكون لها أي علاقة بواقعه، بل هذا هو ما يجعله كاتبًا بالأساس.

في الكتابة الروائية البوليسية أو التشويقية بشكلٍ خاص كذلك يبرز موضوع جر القارئ واستدراجه إلى عالم الرواية ليواصل القراءة مقطوع الأنفاس، لذا فهو يفرد عددًا من المقالات التي تتناول «الحيل الروائية» في هذا الصدد عارضًا عشر حيلٍ شهيرة ترددت في عددٍ من الأعمال الأدبية والدرامية، مثل (السرد غير الخطي، النهاية غير المتوقعة، التحوّل المفاجئ، الراوي في وسط الأحداث، السرد المقلوب… وغيرها)، وهو يجمع في هذه الحيل بين الحيل المستخدمة في الروايات والأفلام، ويضع في نهايته قائمة بعشرين فيلمًا أجنبيًا جاءت نهايتها غير متوقعة ومفاجئة للمتفرج.

اقرأ أيضًا: عالم الكتابة.. بين الأصول النظريّة وسحر التطبيق

ليست الكتابة الروائية والتشويقية فقط ما يتعرّض له «أحمد خالد» في هذا الكتاب، ولكنه يتحدث عن فنون الكتابة الأخرى، فيصب جام غضبه على «المسرح» مثلاً، ويبدو أنه كان سيئ الحظ إذ شاهد عددًا من العروض المسرحية الشبابية غير الموفقة التي جعلته يكره هذا النوع من الفنون، رغم كبير امتنانه وتقديره لكبار المسرحيات العربية والأجنبية التي يشير إلى أنه تربّى عليها وتعلم منها الكثير.

كما يلقي «أحمد خالد توفيق» باللوم والعتاب على الكتّاب العرب لعدم اهتمامهم بطرفٍ من الكتابة الأدبية القيمة، وهي كتابة “الخيال العلمي” الذي برع فيه الغرب بشكلٍ موسّع في مقاله «خيال علمي عربي هل هو خيال علمي؟!» عارضًا عشرين نوعًا من أنواع كتابة الخيال العلمي المنتشرة في العالم.

يمكن القول بلا خطأ كبير: إن الحركة الأدبية العربية لم تتعامل قط مع “الخيال العلمي” بجديّة، كما أنه لم ينمُ قط ليتخذ شكل تيّار، هناك محاولات فردية من الكتّاب ومحاولات فردية من النقاد، فهل الخطأ يكمن في المتلقي أم في هذا الأدب ذاته؟ وهل ما يناسب الغرب لا يناسب المتكلمين بالعربية؟ من الممكن أن يكون التفسير المتفاءل هو حداثة التجربة الروائية العربية أصلاً، بحيث لم تصل بعد لمرحلة التخصص في أنواع أكثر انتقائية مثل الخيال العلمي والأدب البوليسي وأدب الجاسوسية.. ومن الممكن أن يكون التفسير المتشائم هو أن أدب الخيال العلمي قد ولد خاسرًا في بيئةٍ تستهلك العلم ولا تنتجه.

في الجزء الثاني من الكتاب «ثرثرة من خارج المطبخ» يتعرّض الكاتب لعددٍ من القضايا والمشكلات الأدبية والثقافية التي تطفو على السطح كل فترة، مثل «حرية الإبداع» مثلاً، وينبري ليدافع بشدةٍ وضراوة عما يراه أهمية الالتزام بالقيم والأخلاق في الكتابة الأدبية، وهي قضية شائكة كما نعلم، وذات شجون كثيرة.

إلا أن الغريب أنه يعرضها على أكثر من مقال، وبأكثر من طريقة، منها مثلا طريقة تبدو شديدة السذاجة في مقال «ست غالية والسمالوطي» التي يحكي فيها عن قصة كتبها أحد أصدقائه وكانت «تفوح منها رائحة الجنس» على حد تعبيره، فلم يكن منه إلا أن عرضها على صديقٍ آخر هو «السمالوطي» لا علاقة له بالأدب، ولكن القصة أثارته وجعلت الدم يغلي في عروقه، مما جعله يمزقها، وبالتالي قرر صديقه ألا ينشرها!

ونحن لا نعلم بالطبع لماذا لا يعد الكاتب وصديقه ذلك الأمر نجاحًا حقيقيًا للكاتب أن استطاع من خلال قصّة أن يؤثر على قارئٍ عابر بهذا الشكل، ولكنهما اعتبرا وجود «الجنس» في القصة القصيرة أمرًا خطيرًا وقررا إعدامها!

كما يتناول هذا القسم أيضًا علاقة مهمة وخطيرة تربط الكاتب بالقارئ، وهي علاقة خاصة وشديدة الالتباس، هو «الناقد» الذي لا يراه «توفيق» إلا متحذلقًا يرطن بعباراتٍ غامضة غير مفهومة مثل «هارمونية التوازي»، و«إرهاصات الكوزوموبوليتانية»، و«تفتيت النص لوحدات» وغيرها من عبارات.

وعلى الرغم من أن النقد المعاصر يعاني فعلا من وجود عددٍ من النقاد يتشدقون بمثل تلك المصطلحات والمقولات غير المفهومة للقارئ العادي، فإنه كان يُفترض بكاتبٍ كبير أن يلحظ الفرق بين هؤلاء وبين طائفة نقادٍ آخرين يكشفون للقارئ سلبيات بعض النصوص التي يتناولونها أو يتعرضون لإيجابيات البعض الآخر، وكيف أن هذا الدور مهمٌ جدًا يجب أن يمارس بحرصٍ ووعي ودراية.

كما يجيء في هذا القسم الحديث عن السينما وسحرها وأثرها، وعلاقة السينما بالأدب، وكيف اكتشف أن عددًا من الأفلام العربية الشهيرة جاءت مقتبسة من أفلام أجنبية معروفة أيضًا، ويستند في ذلك إلى كتاب «محمود قاسم» الشهير في هذا الشأن «الاقتباس في السينما المصرية»

ويسخر «أحمد خالد توفيق» بطريقة غير مبررة ـ بالنسبة لي على الأقل ـ من المؤتمرات الأدبية في مقالٍ أسماه «بين المستشفى ولوزان» ليضع مقابلة غير مفهومة بين ممرضي المستشفى وبين النقاد الذين يتحدثون عن الشعر والسرد في مؤتمرٍ ما بمدينة لوزان، ويختم مقاله بأن «هناك دائمًا حلولا وسطا، وهناك أدبا مفيدا للبشرية فعلا، ولكنه يتحرّك على حبلٍ رفيع ويسهل أن يسقط في هاوية التحذلق»!

ولعل من أهم مقالات هذا الجزء من الكتاب مقاله عن «العزاء المتحفّظ» الذي يتناول فيه قضيّة مهمة جدًا، بدأت في الظهور في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، حيث بدأ الناس يرصدون مواقف الأدباء والمثقفين مع الثورة وضدها، وبدؤوا بالفعل في نفي والاستهزاء من كل من كان مع النظام السابق أو أيده، وهو ما يحدث طوال الوقت حتى وقتنا الحالي.

يأخذ «أحمد خالد» من موقف عددٍ من الشباب من عزاء الشاعر الكبير «عبد الرحمن الأبنودي» وتحفظهم على حضوره أو نعيه، وأن ذلك الأمر لا يستقيم طوال الوقت مع الكتّاب والأدباء، فكل كاتبٍ من الممكن أن نأخذ منه ما يستقيم مع أفكارنا ومبادئنا ونترك الجانب الآخر الذي لا يرضينا عنه، ويبقى في النهاية الأثر الأدبي والإنساني أقوى من الاختلافات السياسية المؤقتة.

هكذا دار بنا «أحمد خالد توفيق» في رحلة شهيّة داخل أروقة مطبخ الكتابة، وأطلعنا على عددٍ من القضايا والمشكلات التي تخص هذا العالم الثري الذي لا يُمل، واستطاع أن يقدّم في النهاية وجبة دسمة، ربما نختلف مع بعض مكوناتها، ولكن يبقى الطعم شهيًا والمذاق متميزًا.