أحمد زكي ممثل نادر، بالنسبالي أكتر ممثل مصري أحب أتفرج عليه، كنت بشوفه دايمًا كخطوة تطورية عننا في فن التمثيل، اقتراب للطبيعية أكتر.

بهذه الكلمات يصف الفنان المصري الكبير «نور الشريف» ما مثله «أحمد زكي» لمسيرة التمثيل في مصر. أتى الرجل بطريقة جديدة علينا، طريقة تعتمد على التحضير النفسي والتماهي مع الشخصية التمثيلية، ليصبح الأمر أقرب للتجسيد من كونه تمثيلاً.

طريقة تختلف كليًا عن التمثيل الكلاسيكي المسرحي، تعتمد على أسلوب أقرب للتصرف بطبيعية، يظهر الممثل بحركات جسدية أقل ولكن بتماهٍ نفسي مع الشخصية بشكل أكبر، حتى أنه يتوحد معها ويجسدها في بعض الأحيان داخل وخارج أوقات التصوير. كان الأمر مذهلاً في هوليوود منذ أن ظهرت تلك الطريقة، والتي اختلفت مدارسها عقب ذلك ولكن أصبحت أشهرها طريقة «التمثيل المنهجي Method Acting».

تزداد انبهاراتنا كلما نسمع حكايات التجسيد، بدءًا من الكبير «مارلون براندو»، مرورًا بأجيال متلاحقة نذكر منها «آلباتشينو»، «بول نيومان»، وصولاً إلى «هيث ليدجر»، «أدريان برودي»، و«جيم كاري». ولكننا كنا نفكر دومًا: هل تلبست هذه الروح أحدًا في مصر؟ هل يوجد في أرضنا من يمكننا ذكر اسمه وسط هؤلاء؟ وفي كل مرة تأتيني هذه الخاطرة، أجد اسم أحمد زكي يقفز ليكون الإجابة الأولى.

اقرأ أيضًا: رحلة في التمثيل المنهجي: هل حقًا مات «جيم كاري»؟

وإن كان للتمثيل المنهجي والتجسيد النفسي من علامة أهم، فستكون دائمًا نظرات العيون، نوافذ الروح، وسيلة الممثلين الأولى للتعبير عن مشاعرهم في فن السينما الذي بدأ صامتًا، وكما يقول الممثل الإنجليزي الحائز على جائزة الأوسكار مرتين «مايكل كين»، في كتابه «التمثيل في الأفلام Acting In Film»:

في نهاية اليوم، وعندما يتعلق الأمر بالتمثيل في الأفلام، فإن كل شيء يدور حول العيون.

نظرة عبد الناصر

أحمد زكي – ناصر 56

يعلم أحمد زكي أن جمال عبد الناصر شخصية خلافية، لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنه قرر أن يجسده في لحظة قلما يُختلف عليها؛ لحظة تأميم قناة السويس، عقب ثلاثة شهور من الأخذ والرد والمماطلات مع البنك الدولي والمملكة المتحدة.

هنا يؤدي زكي دور رجل يعرفه الجميع، يعرفون لزماته وحركاته، لكنه يجسده لا يقلده، يحكي زكي في هذا قائلاً:

أحزن حزنًا شديدًا حينما يخبرني البعض أنني نجحت في تقليد عبد الناصر. التقليد هو إظهار لقطة أو لزمة ما متعارف عليها في إنسان معين للتعبير عنه، شيء يشبه الكاريكاتير، التقليد يثير الضحك، حتى لو كان التقليد للقطة لشخص يبكي، لكن التشخيص، التجسيد، علم مختلف تمامًا. كيف يحب هذا الرجل؟ كيف ينام؟ كيف يعمل؟ كيف ينفعل؟ كيف كانت طفولته، علاقته بأسرته، أحلامه وأحزانه؟ هذه هي رحلة التشخيص.

هنا يجسد زكي ناصر في ثلاثة أشهر فقط، ثلاثة أشهر مأزومة ومليئة بالتوتر، يجمع الرجل تاريخ الشخصية، يدرسه ويحلله، ثم يتلبس ناصر، لا يتشابهان كثيرًا في الملامح الشكلية، ولكن يجمعهما وبشكل مبهر نظرة واحدة. جلسة تحمل شيئًا من الانطواء والانعزال ونظرة متأملة. كيف فعلها بكل هذا التماهي؟

يحكي زكي قائلاً:

هناك من يقولون إنني شاهدت صورًا ومقاطع مصورة قديمة وأديت نظرة ناصر من خلالها، لكني في الحقيقة ولكي أحصل على نظرته كان لابد أن أدرك سببها، الأمر أشبه بأحد تكنيكات الطب النفسي. لنعد للوراء، عبد الناصر طفل يتيم، فقد أمه عند 6 سنوات، تزوج والده، ترك بيته وأقام عند خاله، هذا طفل من الطبيعي أن يجلس صامتًا ومتأملاً، يحاول قدر إمكانه ألا يكون عبئًا على أحد. يكبر بعدها صبيًا في الشارع السياسي، وجد شيئًا يشعره بالانتماء إليه، لم يعامله الصبية الثائرون حينها كيتيم، عاملوه كصبي مكتمل، وجد نفسه أخيرًا، التحق بعدها بكلية الحقوق مدفوعًا بحبه لما رآه في الشارع السياسي، ثم طلب الجيش 50 شابًا فكان من بينهم. كبر عبد الناصر بنفس النظرة التي كبرت معه شيئا فشيئًا، صامتًا، يبدو منطويًا إلى حد ما، لا يتكلم إلا بعد أن يتأمل. هنا أنا لا أنظر إليه كونه ناصر، أنا أنظر للشخصية التي سأجسدها، ومن هنا جاءت النظرة. إن لم أفهم كل هذه الرحلة لن أكون سوى مقلد، هذه النظرة هي فن التشخيص وهي عملية قريبة جدًا مما يقوم به الطبيب النفسي من عملية تحليل نفسي.

نظرة رجل مهم

أحمد زكي – زوجة رجل مهم

هنا يؤدي أحمد زكي دور شخصية مكتوبة خصيصًا للسينما، شخصية لا يوجد مرجع حقيقي لشخصيتها قبيل أحداث الفيلم، ولكنه كعادته يبحث عن خلفيتها، تاريخها وهواجسها.

يحكي زكي عن نقاشاته حول ذلك مع الكاتب «رؤوف توفيق» مؤلف سيناريو وحوار الفيلم فيقول: «كنا نتناقش كيف كان هذا الضابط أثناء طفولته، هل كان يحب ارتداء زي يشبه بدلة الشرطي في الأعياد؟ هل كان يهدده أبواه باستدعاء الضابط مازحين أثناء لهوهما معه صغيرًا؟ وأثناء دراسته في الكلية هل كان يشعر بالسعادة أثناء خروجه في الإجازات بالبدلة الشرطية؟ كل هذه النقاشات ساهمت في بناء صورة الضابط هشام الذي أصبح سلطويًا متملكًا فيما بعد».

اقرأ أيضًا: «آل باتشينو»: السنوات الأربع الأولى تكفي.

يكمل زكي حديثه في تحليل نفسي غير متخصص ولكنه جيد للغاية: «هذه شخصية عصابية وصلت لمرحلة هيسترية، توحد مع السلطة، أصبحا شيئًا واحدًا، امتلك صلاحيات مهولة أثناء اعتقالات سبتمبر، أدت لانعدم توازنه النفسي، وحينما أُقصي عن السلطة وقع ما لم يطقه، كالسمك الذي خرج من الماء، مات».

ثم يجمع زكي كل هذا التحليل النفسي في تجسيده لنظرة العين، فيقول: «هذا الضابط وبحكم عمله فدائمًا ما تحمل عينه نظرة شك وتساؤل وريبة، اعتاد التعامل مع متهمين فأصبحت هذه طريقته في الحديث والنظر حتى ولو كان داخل بيته».

عاش زكي هذه الشخصية بكافة جوارحه، لدرجة أنه وأثناء تصوير المشاهد الخاصة بإحالة هذا الضابط للمعاش كان يشعر ولأيام متتالية بأعراض قاسية للقولون العصبي، من انتفاخ وتعرق شديد وصعوبة تنفس، وفي أحد المشاهد ازداد انفعاله فوجّه لطمة عنيفة ناحية الممثل الذي كان يؤدي دور حارس بناية الضابط.

في المشهد الأخير الذي يهدد فيه الضابط والد زوجته بتوجيه الرصاص إليه لمنعه من سلبها منه، يحلل زكي ما جسده ببراعة شديدة فيقول: «هذا رجل ميت منذ لحظة خروجه من السلطة، يشعر أنه وحيد، لم يبق لديه سوى زوجته لتشعره بالحياة، هي الوحيدة التي يمارس عليها سلطته، إذا سلبته منها سلبته من كل شيء».


الأيام

حينما تم اختيار أحمد زكي لتأدية دور عميد الأدب العربي «طه حسين» في مسلسل «الأيام»، كان الجميع ضده. وقتها كان اسمًا جديدًا وسط نجوم الصف الثاني من الشباب، وكانت الجماهير منبهرة بأداء محمود يس لدور طه حسين في فيلم «قاهر الظلام». سخر كثيرون من اختيار زكي كونه مختلفًا في السمات الشكلية ولون البشرة عن طه حسين، لكن المخرج يحيى العلمي كان مؤمنًا بصلابة واجتهاد زكي.

جمع أحمد زكي حينها ما استطاع جمعه من كتب ولقاءات طه حسين، ثم جاءت مرحلة التجسيد النفسي فبدأ في جمع معلومات عنه وعن حياته، وفي أحد هذه اللقاءات التقى بوزير خارجية مصر الأسبق وصديق طه حسين المقرب د. محمد الزيات.

يحكي زكي وهو يخالطه الابتسام عن هذا اللقاء فيقول:

سألت الدكتور الزيات وقد كان غير مرحب بتأديتي لدور طه حسين، كيف كان يضحك طه وكيف كان يبكي؟ فازداد غضبه ورفضه لي، فقلت له: عفوًا يا دكتور، فقد حاولت قدر علمي وسني قراءة كتبه، ولكني سأؤدي دوره كإنسان قبل أن أؤدي دوره كعميد للأدب العربي، فهل من الممكن أن تخبرني بنكتة قالها طه حسين؟ أو تحكي لي موقفًا بكى فيه شخصيًا؟ ابتسم الدكتور الزيات حينها وتخلى شيئا فشيئًا عن تحفظه وبدأ في الحكي عن طه حسين الإنسان، عن جانبه الساخر، عن أحزانه وأحلامه الشخصية.

هنا قد يظن البعض أن لا مكان للنظرات، ولكن تعابير وجه وعين الضرير أهم بكثير من كلماته. يحكي زكي عن دراسته وبحثه عن الضرير في كل ربوع المحروسة فيقول: «وجدت ما يزيد عن 10 أو 15 نوعًا للضرير، هناك ضرير ولد وعاش في منطقة شعبية، فتجده مفتقدًا للتحكم الكامل في حركاته. هناك من ولد وعاش في منطقة مليئة بالغناء والإنشاد الصوفي كالأستاذ سيد مكاوي مثلاً، فتجد حركاته وتعبيراته توحي بحالة انبساطية. هناك ضرير فقد بصره وهو في سن العاشرة، أصبح الآن في سن العشرين، فكل ما كان يدركه تغير حجمه فتجده سريع الغضب».

استمر زكي في الدراسة حتى وصل لهذا التجسيد لشخص هادئ ومتأمل، ولكنه متحد أيضًا، وكأنه يقول للجميع «أنا مش أعمى يا هو». مرت السنين ولا يزال نجاح زكي في «الأيام» حاضرًا، لدرجة أنه قد أصبح وبلا منازع التجسيد الأكثر شهرة لشخصية طه حسين.


بين العقل والروح

هو شخص غير مدرك لاضطرابه النفسي، غير مدرك لأن اللي بيعمله ده مبالغ فيه، هو مؤمن بإنه كده بيحافظ على أمن البلد.
التمثيل يا سادة في الحياة هو الكذب، لكن التمثيل في الشاشة هو الصدق.

بكلمات أحمد زكي تلك يمكننا تلخيص علاقة هذا الفنان المصري الموهوب بفن التمثيل. أحبه الرجل وأخلص له، وأفنى روحه ووجدانه في تجسيد كل هذه الشخصيات، حلل خلفيتها واضطراباتها بشكل قريب جدًا من مدرسة التحليل النفسي التي ابتدعها فرويد، وتلبسها على طريقة التمثيل المنهجي فلم تقل عبقريته عن عبقرية كبار نجوم هوليوود.

أدرك زكي تأثير كل هذا التشخيص عليه ولكنه أدرك أيضًا قيمته، ففيه ما يحاكي نظرية أرسطو في التنفيس، أو ما يمكننا وصفه بأن الجماهير تشعر بالترويح والتنفيس عن آلامها النفسية، حينما تشاهد هذا الآلام وهي متجسدة في عمل فني.

يقول فناننا الراحل أحمد زكي: «ما أفعله يشبه كثيرًا ما يفعله الطبيب النفسي، ولكن الطبيب النفسي يحيد الشخصية التي يقوم بتحليلها عن جهازه العصبي، كي لا يتسلل إليه بعض مما تشكو منه هذه الشخصية. أما أنا فأقوم بنفس العملية، ثم أتلبس هذه الشخصية بشكل مكتمل، أعاني من كل ما تعاني منه الشخصية، وربما قد يستمر الأمر معي حتى بعد نهاية الفيلم، ولكني في النهاية أرى أن ما أؤديه على الشاشة ربما يكون نوعًا من العلاج الجماعي».