إن الآلة التي يعزف عليها الممثل هي ذاته، نفسه، أحاسيسه، ملامحه الجسمانية، دموعه، ضحكه، غضبه، رومانسيته، رقته، شره، ويجب أن يكون ذلك جميعه على الشاشة لكي نراه، إن هذا ليس سهلاً، بل إنه عادة ما يكون مؤلمًا.
المخرج الأمريكي «سيدني لوميت»

بهذه الكلمات وصف «سيدني لوميت» صانع «Twelve Angry Men»، و«Serpico»، و«Dog Day Afternoon» وغيرها من كلاسيكيات هوليوود، ما يدور في عقول الممثلين، وبكلمات شبيهة يتناقل الجميع حكايات عما فعله «روبرت دي نيرو» في «Taxi Driver»، و«دانيل داي لويس» في «My Left Foot»، وصولاً إلى هيث ليدجر في «The Dark Knight».

حكايات كثيرة عن ممثلين اتجهوا للتقمص المكتمل لشخصياتهم السينمائية رغبةً في الوصول لأكثر درجات الصدق الممكنة في إيصال الحكاية. ولكن ماذا يحدث عقب كل هذا، كيف يتعامل العقل مع هويات مختلفة ومتضادة في بعض الأحيان، هل مدرسة التمثيل المنهجي «Method Acting» تدفع الممثلين للجنون؟

حكايتنا اليوم عن «جيم كاري»، الممثل الذي قدم نفسه طويلاً كأحد أكثر المضحكين على كوكب الأرض، ثم اتجه على فترات للكشف عن جانب آخر له، كممثل جاد يصل بالتمثيل المنهجي إلى ما لا يمكن تخيله، وكرجل مثقف وحساس للغاية. كل هذا قبل أن يفاجئ الجميع في نهاية هذا العام بأحاديثه عن كونه ليس جيم كاري أصلاً، «جيم كاري قد مات».


جيم وأندي: انهيار حدود التقمص

في عام 1998 قدم جيم كاري فيلم «Man on The Moon» عن قصة حياة الفنان الأمريكي «أندي كوفمان»، كان أندي كوفمان فنانًا عبقريًا في أعين البعض ورجلاً غريبًا في رأي آخرين، لم يقبل أندي أن يشار له ككوميديان، اعتبر أن وظيفته هي ترفيه الجمهور، ولكن دون أن يقدم الصورة المعتادة من الممثلين الكوميديين في السبعينيات والثمانينيات، أراد أندي أن يكسر الحدود الفاصلة بين الواقع وعالم التلفاز.

ببساطة يصنع كل الكوميديانات مواقف مفاجئة ومحرجة، ولكنهم يخبرونك في النهاية أنها لم تكن سوى مقلب، هذ هي لحظة الكشف التي ينفجر فيها المُتلقي ضاحكًا، أندي لم يكن يخبرهم ولم يرد للحظة الكشف هذه أن تتحقق، كان يفضل أن يظن جمهوره أن ما يشاهده حقيقي فعلاً، وفي معظم الأحيان كان كذلك.

في الفيلم التسجيلي الصادر حديثًا «Jim and Andy: The Great Beyond» يكشف لنا جيم كاري عن نتاج أربعة شهور من كواليس فيلم «Man on The Moon»، نرى جيم وهو متقمص لشخصية أندي حتى بعيدًا عن الكاميرات، نشاهد المخرج الكبير ميلوس فورمان -الفائز بجائزتي أوسكار عن «Amadeus»، و«One Flew Over The Cukoo’s Nest»– وهو يخاطب «جيم» بصفته «أندي» طوال الوقت، يستمر جيم في إعادة خلق كل ما فعله أندي طوال حياته، كل المواقف الكوميدية المفاجئة والغريبة نراها وكأننا عدنا لزمن حدوثها الأول.

حتى شخصية «طوني كليفتون» الصاخبة التي كان يتنكر أندي كوفمان في شكلها عادت مرة أخرى للحياة، تنكر فيها جيم داخل مواقع التصوير وخارجها، حتى أنه ذهب كطوني كليفتون إلى منزل المخرج الأمريكي «ستيفن سبيلبيرج»، حاول اقتحام الأبواب، صرخ في وجه من قابله أن سبيلبيرج مخرج مُدعٍ يحاول إرضاء الجمهور دون صنع فن حقيقي، لم يعرف كل هؤلاء أن هذا هو جيم كاري، كما لم يعرف كثيرون أن طوني كليفتون في الثمانينيات كان في الأساس شخصية تنكرية يقوم بها أندي كوفمان أحيانًا، ويقوم بها مساعده «بوبي زامودا» في أحيان أخرى!

على جانب آخر كان جيم كمن يكمل حياة أندي، كمن يحاول أن يعوض ما فاته، فنشاهد في لقطة مؤثرة للغاية نقاشًا حادًّا بين جيم/أندي وبين الممثل الذى يقوم بدور والد أندي في الفيلم، نقاش عائلي حقيقي وعاطفي للغاية بعيداً عن الكاميرات. وفي لحظة مبهرة أخرى نرى نقاشًا بين جيم/أندي وبين ابنة أندي الحقيقية، لم تحظ هذه الطفلة بحديث مع والدها الحقيقي الذي مات وهي رضيعة في منتصف الثمانينيات بعد إصابته بسرطان الرئة، كان حديثهما هذا إذن حديثها الأول مع والدها، الذي بدا كأنه بُعث من الموت.

ما نراه في هذا الفيلم التسجيلي يضع جيم في صدارة رواد التمثيل المنهجي، لم يدفع الرجل قدراته في التقمص للنهاية فقط، تبدو تلك الحدود منهارة أمام ما نشاهده، هذه إعادة خلق لشخصية حقيقية.


التمثيل المنهجي: جيم كاري يقتل جيم كاري

عندما سمعت أنني حصلت على الدور، كنت أنظر إلى المحيط، وفي هذه اللحظة عاد أندي ليقوم ببطولة فيلمه، ما حدث عقب ذلك كان خارج إرادتي.
إنهم كلهم شخصيات تمثيلية أديتها، بما فيهم جيم كاري، بما فيهم جول باريش، كلهم شخصيات تمثيلية، ربما لم أقصد أن أمثل شخصية جيم كاري بنفس الدرجة، كنت أعتقد فقط أنني أبني شيئًا سيحبه الناس، لكنها كانت شخصية تمثيلية، دور الرجل المتحرر من الهموم، حتى يتحرر من يشاهدني من همومه.

بهذه الكلمات يقودنا جيم داخل الفيلم التسجيلي لكي نتجول في حياته، أفكاره، شخصياته، يتنقل الفيلم طوال الوقت بين خطين، تقمص جيم لشخصية أندي، ورحلة جيم الحقيقية. ولكن هل كان لطريقة جيم كاري التمثيلية المنهجية Method Acting أثر في رحلته الشخصية، هل هي ما دفعته في النهاية لكي يتخلي حتى عن شخصية جيم كاري؟

التمثيل المنهجي يقصد به عادةً أسلوب التمثيل الصادق، التمثيل المعتمد على أداء ينساب من الداخل للخارج وليس العكس، وهو الأسلوب الذي ابتكر مبادئه المخرج المسرحي الروسي «قسطنطين ستانيسلافسكي»، ثم نشره في أمريكا الممثل والمخرج الأمريكي «لي ستراسبرج» تحت إسم «تمثيل المنهج» في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، تتلمذ حينها العديد من الممثلين الأمريكيين على يد «ستراسبرج» وأخرين ممن تبنوا مبادئي ستانيسلافسكي، أمثال «إليا كازان» و«سانفورد مايسنر»، و«ستيلا أدلر» ، وكان من أبرز هؤلاء التلاميذ «مارلون براندو».

تفاجأ الجمهور بكم الصدق والواقعية الذي رأوه من براندو، ومن يومها خرجت أجيال متلاحقة لنفس المدرسة، أبرزهم بول نومان، ألباتشينو، داي لويس، وغيرهم. التمثيل المنهجي إذن هو وصف لعملية يبذل فيها الممثل مجهودًا كبيرًا للوصول في النهاية لكي يبدو وكأنه لا يمثل. يرتبط الممثل بماضي شخصياته، كما تتداخل ذكرياتهم وهواجسهم، وبالتالي نخرج بنسخ مختلفة من التمثيل المنهجي مع كل ممثل.

ما نراه الآن مع جيم كاري هو حصاد كل هذا، وكل ما مر به، عاش جيم طفولة شهدت تخلي أبيه عن حلمه، يقول جيم: «كان من الممكن أن يصبح أبي كوميديانًا عظيمًا أو عازفًا مرموقًا، لقد كان موهوبًا بشدة ولكنه فضل أن يعمل كمحاسب، وجد في هذا عملاً آمنًا لرب أسرة، ولكنه فقد وظيفته في النهاية، تعلمت من هذا أنك يمكنك الفشل أيضًا فيما لا تحب، لذا سأعمل ما أحب على أي حال».

ولّدت هذه الحادثة عند جيم رغبة هائلة في النجاح، وجد في الكوميديا طريقًا ممكناً، فانطلق كالإعصار، في بداية عمله كمؤدٍ كوميدي أدرك أن لحظة صمت واحدة ستؤدي لملل الجمهور، يعني هذا ببساطة نهاية عرضه، وبالتالي نهاية حياته، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف، أرادوا شخصًا ضاحكًا بلا هموم، فأعطاهم ما أرادوا، هذا هو جيم كاري الذي أراده الجمهور، هذا هو جيم كاري الذي عرفناه.

أثر بالطبع كل دور أداه جيم عقب هذا على شخصيته، دور ترومان في «The Truman Show»، الشاب الذي يدرك فجأة أن حياته ليست إلا عرضًا تليفزيونيًا، كل من حوله ممثلون. دور جول باريش في «Eternal Sunshine»، الحبيب الذي يفقد حبيبته فيرغب في مسح ذكرياتهما المشتركة، يحكي جيم أنه كان منفصلاً فعلاً عن حبيبته الحقيقية في نفس التوقيت.

وأخيراً يمكننا تتبع التأثير الكبير لدور أندي كوفمان حين يقول: «حينما انتهيت من تصوير Man on the Moon، حينما تخليت عن شخصية أندي كوفمان، لم أعد أعرف من أنا»، أنهى جيم هذا الدور منذ 20 عامًا، ولكنه عاد لصنع هذا الفيلم التسجيلي هذا العام، تزامن هذا مع حزنه الشديد على فقدان حبيبته السابقة التي انتحرت تاركةً خطابًا موجهًا له.

أعادت ذكريات تقمص أندي كوفمان هواجس جيم القديمة، شعر الرجل بأنه في حاجة للراحة من تقمص دور الرجل المضحك المتحرر من الهموم، وحينما أنهى تصوير الفيلم التسجيلي خرج ليعلن أنه توقف عن كونه جيم كاري.

أن تتوقف عن تأدية الدور الذي رسمه لك المجتمع، ربما يحلم الكثيرون بهذا، ولكنهم لا يملكون أن يعلنوه، يستحق جيم التحية على شجاعته، على كسره للنبرة المصطنعة التي عادةً ما يتحدث بها النجوم، كما يستحق منا الدعم كفنان أسعدنا كثيرًا، حتى لو توقف عن كونه من عرفناه.