في منتصف الخمسينات ذهبت سيدة عجوز تعمل معلمة للمسرح فى إحدى مدارس الحي الجنوبي الفقير في «برونكس» إلى منزل أسرة أمريكية من أصل إيطالي، تكلفت عناء الطريق ثم صعود السلم المتهالك، لتلتقي أخيرًا بجدة تتحدث الإنجليزية بلهجة إيطالية واضحة، لتخبرها أخيرًا أنها لابد أن تعتني بحفيدها «ألفريدو» لأنه يملك موهبة تمثيلية غير مسبوقة.

اليوم يكمل هذا الحفيد 77 عامًا بعد أن أصبح واحدًا من أعظم الممثلين فى تاريخ السينما الأمريكية. اليوم نتذكر معكم السنين الأربع الأولى فى هذا المشوار السينمائي الحافل لألفريدو جيمس باتشينو، أو كما يسميه الجميع الأن «آل باتشينو».

لقد كان بإمكاننا أن نمنحك هذه الجائزة فى عام 1975 عن مجمل أعمالك، ما فعلته فى الفترة من 1971 إلى 1975 كان يكفي يا صديقي.

«روبن ويليامز مخاطبا آل باتشينو فى حفل Life Achievement award عام 2007»


The Godfather: من هذا الفتى يا فرانسيس؟

فى أوائل السبعينات أكمل «آل باتشينو» عامه الثلاثين، عمل لأكثر من عشر سنوات فى المسرح بعد أن ترك المدرسة وهو ابن 17 عاماً، وتفرغ لثقل موهبته التمثيلية من خلال أسلوب التمثيل الحي Method Acting تحت إشراف كل من المخضرميّن «لي ستراسبيرج»، و«تشارلي لوجتون».

كان باتشينو يعلم أن التمثيل هدية السماء التي ستنقذه من مصير شباب برونكس الفقير، خصوصًا بعد أن شهد وفاة أقرب أصدقائه بجرعة مخدرات زائدة. حينها تلقى مكالمة من «فرانسيس فورد كوبولا» تدعوه لزيارته، وفي ذلك الوقت كان كوبولا مجرد مخرج شاب يتنقل فى لوس أنجلوس برفقة «سبيلبيرج»، و«جورج لوكاس» وغيرهم من صناع السينما الشباب الذين سيثورون فيما بعد على نظام الأستديوهات وسيغيرون شكل هوليوود بشكل مكتمل.

قبل باتشينو الدعوة وذهب لمقابلة كوبولا، تحدثا حول مشروع فيلم رومانسي مستقل، تبادلا الآراء حول السينما عمومًا، ثم رحل في انتظار مكالمة هاتفية للعودة. في تلك الفترة ظهر باتشينو لأول مرة سينمائيا فى دور صغير فى فيلم «Me, Natalie»، تبعه دور أكبر كمدمن للمخدرات فى فيلم «Panic in the needle park» صاحب الميزانية الصغيرة. تأخرت مكالمة كوبولا عاماً كاملاً، ولكنها حينما أتت لم تكن من أجل فيلم رومانسي مستقل، كانت من أجل دور البطولة فى «The Godfather»

لم يقتنع منتجو شركة Paramount Pictures بأن هذا الفتى الجديد يمكنه أن يكون «مايكل كوليورني» بطل ملحمة «الأب الروحي»، حاولوا تغيير رأي كوبولا أكثر من مرة لدرجة أنهم هددوه بسحب الفيلم منه.

استمرت تجارب الأداء من أجل شخصية مايكل، واستمر الممثلون فى اختبارات الكاميرا، وبين الفينة والأخرى استغل كوبولا الفرصة ليطلب باتشينو من أجل اختبار جديد، يسجله ثم يحاول إقناع منتجي الشركة بأنه هو المناسب. استمرت المحاولات حتى وافق المنتجون في النهاية على مضض. ببساطة قام فرانسيس كوبولا وآل باتشينو بتصوير The Godfather وهما تحت تهديد إيقاف المشروع وطردهم سويًا.

حينما عُرض الفيلم فى مارس/ آذار 1972 كان الأمر أشبه بثورة سينمائية، كانت طوابير المشاهدين تملأ الشوارع وتتصارع للحصول على تذكرة، الجميع يحاولون تقليد أبطال الفيلم، واجهات المحال تتغير لتلائم الموضة الجديدة، واقتباسات من حوارات الفيلم فى كل مكان. وبين كل هذا كان باتشينو يصنع أول أدواره التاريخية.

بدأ الفيلم بمشهد الزفاف الشهير، يظهر مايكل فى هذا المشهد كفتى العائلة المدلل، بطل الحرب الذي قدمته العائلة للخدمة العسكرية ليبتعد عن أعمال الأسرة غير الشرعية والعنيفة، والعاشق الذي يرافق صديقته فى حفل زفاف عائلي. تعرف الملايين على آل باتشينو لأول مرة في هذا المشهد، بوجه وسيم وعيون واسعة تحمل نظرة طيبة للغاية.

تستمر أحداث الفيلم لتصبح الحبكة الرئيسية هي كيفية تحول مايكل من هذه الصورة إلى نقيضها في المشهد الأخير. حينما نراه وقد تحول للأب الروحي الجديد، رجل يقتل بدمٍ بارد، قائد يعطي أوامر بتنفيذ مذبحة مكتملة أثناء تعميده لطفل داخل كنيسة، وأخيراً زوج يكذب على زوجته دون أن يجفل، وجه بارد بعيون مخيفة وقاسية. وكأننا أمام رجلين مختلفين تمامًا، ليس على مستوى الكلمات والأفعال وفقط، ولكن على مستوى الروح أيضًا. تحول تمثيلي مخيف سيظل علامة أيقونية خاصة بآل باتشينو وفقط.


Serpico: من رجل مافيا إلى شرطي متخفٍ؟

آل باتشينو من فيلم Serpico عام 1973

في العام التالي «1973» وقبل أن يعود آل باتشينو لدور مايكل كورليوني فى الجزء الثاني من The Godfather قرر أن يقضي عطلته من المافيا فى دور «سيربيكو»، الشرطي المتخفي الذي قرر أن يفضح فساد شرطة نيويورك.

اشترك باتشينو هذه المرة مع مخرج كبير وخبير هو «سيدني لوميت»، الرجل الذى صنع تحفة «12 Angry men» من قبل، الفيلم الذى دارت حكايته حول رجل يستطيع تغيير كافة الأحداث بمفرده، ليس ببعيد عما دارت عنه حكاية Serpico.

الممثل الجيد هو من يتقن دوره، أما الممثل العظيم هو من يستطيع أن يحمل فيلمًا كاملاً على عاتقه، وقد كنا وبوضوح أمام ممثل من النوع الثاني في Serpico. أعطى باتشينو درسًا تمثيليًا فى تقمص الشخصية لدرجة حطمت إمكانية تخيل أي ممثل آخر في مكانه. بصوته وحركاته ومرة أخرى نظرات عينينه التي تخبرنا بكل شيء.

تعزز هذا الشعور أيضًا من خلال الصورة الأيقونية التي اكتسبها الفيلم ككل بسبب هذا الأداء، صورة جعلت من وجه باتشينو بعيون «سيربيكو» ملصقاً دعائيًا للفيلم. وجه باتشينو كان كافيًا للتعبير عن حياة شرطي يحارب الفساد وحيدًا، بكل ما فيها من تناقضات وشكوك.

في نهاية عام 2010 صور موقع The New York Times مقطعاً مصوراً لفرانك سيربيكو نفسه، الشرطي الأصلي الذي حارب الفساد في شبابه، وهو يشاهد فيلمه الذي أداه آل باتشينو، وحتى بعد مرور ما يقرب من الأربعين عامًا ما زال الشبه بين النسختين كبيرًا جدًا، ليس على مستوى الشكل وفقط ولكن حتى على مستوى نبرة الصوت.

ومؤخرًا فى عام 2013 حكي باتشينو لجمهوره فى أحد مسارح تورنتو أنه كان يتجول أثناء تصوير الفيلم في زي سيربيكو في شوارع نيويورك وهو داخل الشخصية لدرجة أنه قام بمحاولة اعتقال حقيقية دون أن يشعر.


The Godfather II: ما هو أكثر من الأوسكار

في العام التالي «1974»، عاد مايكل كورليوني إلى الحياة مرة أخرى، هذه المرة والجميع يثقون في موهبة آل باتشينو، وعدسة فرانسيس فورد كوبولا. ظهرت قدرة باتشينو التمثيلية في الجزء الأول من خلال التحول المكتمل للشخصية، وتجلت عبقريته في الجزء الثاني حينما استطاع تجسيد الشخصية -بعد عام واحد- وكأنها أكبر بعشر سنوات، مرة أخرى روحًا قبل شكلاً.

في الجزء الأول، دارت الحكاية حول تحول شخصية مايكل من أجل حماية أسرته من أعدائها الخارجيين، أما في الجزء الثاني فقد تحول صراع مايكل لمحاربة الخيانة من الداخل، من داخل الأسرة، تنتهي الحكاية بمايكل محملاً بالهموم والخطايا، وبلا أسرة تقريبًا. الجزء الثاني دار حول مفهوم رئيسي هو الخداع، الجميع يحاول خداع الجميع، أعداؤك لن يسبوك قبل قتلك، بل سيحتضنونك.

مايكل في الجزء الثاني، ماكر لدرجة بدا معها الجميع سُذجا، ومخيفا لدرجة جعلت من الجميع صغاراً من حوله، وأخيرا مهموما وكأنه يحمل الدنيا بكل ما فيها فوق رأسه.

ترشح آل باتشينو مرتين لجائزة الأوسكار عن دور مايكل، مرة في فئة «أفضل ممثل في دور مساعد» عن الجزء الأول وحينها امتنع عن حضور الحفل، أخبرهم أنه يتفهم أن الجائزة تدور حول التفضيل ولكن هذا لا يبرر وضعه فى فئة خاطئة. والمرة الثانية في فئة «أفضل ممثل في دور رئيس» عن الجزء الثاني وحينها لم يعطوها له أيضا. كلما تذكرت هذا لم أجد خيراً من جملة اعتاد أحد أصدقائي تكرارها، «ربما لم يستحق باتشينو أوسكار عن دور مايكل كورليوني لأنه استحق شيئًا أهم، جائزة نوبل مثلاً!»


Dog Day Afternoon: درس تمثيلي دائم

فى العام التالي «1975» عاد باتشينو للتعاون مع المخرج الكبير سيدني لوميت، مرة أخرى من أجل قصة حقيقية غرائبية جديدة. قصة رجل قرر أن يسرق أحد بنوك نيويورك فى عصر أحد أيام أغسطس الحارة.

القصة الحقيقية ألهمت لوميت والكاتب «فرانك بيرسون» لتحويلها لفيلم يتحدث عن أمريكا السبعينات بكل تناقضاتها. عن تأثير الإعلام على الجماهير وقدرته على تحويل مجرم إلى بطل، عن تعاطف الرهائن مع الخاطفين أو ما عرف حينها «بمتلازمة ستوكهولم»، وأخيرا عن محاربي فيتنام العائدين بعقول مشوشة.

هذا الفيلم يدور بلا شك حول حكاية البطل، «سوني» الذى ربما تكون شخصيته واحدة من أكثر الشخصيات غرابة وتعقيدا، ليس فى أفلام حقبة السبعينات وفقط، لكن في تاريخ هوليوود كله.

سوني «الذي حارب في فيتنام» هو رجل مثلي، يحاول سرقة بنك من أجل توفير المال لحبيبه من أجل عملية تغيير جنسي، فى نفس الوقت فهو رجل متزوج من امرأة تهتم لأمره ولديهم ثلاثة أبناء، سوني أيضا تربطه علاقة قوية بأمه التي تبدو متحكمه للغاية، وسط هذا كله يتحول سوني لبطل شعبي معارض أثناء التغطية الإعلامية لحادث السرقة.

لم يكن غريبا إذن أن يتم استخدام سيناريو الفيلم بشكل متكرر في ورش السيناريو كنموذج لبناء شخصية البطل، ولم يكن غريبا أيضا أن يصبح أداء باتشينو في هذا الفيلم درساً تمثيليًا دائماً.


ملك التجسيد مازال هنا

آل باتشينو، سيربيكو
آل باتشينو، سيربيكو

لم يحظ ممثل في تاريخ هوليوود بمثل هذا التتابع المذهل في أربع سنين متتالية، فما بالك أن هذه السنين كانت الأربع سنين الأولى. أربع سنين ربما لم تكن كافية للفوز بالأوسكار -رغم حصوله على أربع ترشيحات متتالية- ولكنها بالتأكيد كانت كافية لإثبات قدرة باتشينو الهائلة على التجسيد.

أربع سنين بدل فيها جلده بشكل مكتمل لأكثر من مرة وكأنه ساحر يملك قدرة خارقة على تلبس الشخصيات. أربع سنين قدم لنا فيها أربعة أفلام ستظل علامات سينمائية خالدة مهما مرت السنون. أربع سنين كانت كافية، ولكنه لم يكتف وصنع بعدها الكثير. أربع سنين كانت كافية ولكننا لم نكتف منه حتى الآن. إنه الممثل العظيم الذي سيظل وجوده في أي عمل سببًا كافيًا لمشاهدته، في السينما أو على خشبة المسرح التي يحبها، إنه ألفريدو جيمس باتشينو، أو كما نحب أن نناديه «آل باتشينو».