في تجاربه القصيرة كمخرج، يبدو أن أنجح أفلام «بن أفليك» كان هو فيلم «Argo» الممتلئ بخلطة هوليودية سحرية لصناعة ملحمة من الفخر الوطني الذي يحب الأمريكيون رؤيته، وحصد من خلاله ثلاث جوائز للأوسكار، أهمها جائزة الفيلم الأفضل والسيناريو المقتبس الأفضل، وفي تلك المرة يعود أفليك من خلال فيلم «Air» إلى خلطة أمريكية مُحببة عن قصص نجاح الحلم الأمريكي ونوستاليجيا ثمانينيات ريجان وزمن الرخاء وذُبول الحرب الباردة، ولا يبدو ذلك غامضًا، فالشارة الافتتاحية للفيلم عبارة عن مشاهد «ثمانينية» إن جاز لنا تسميتها هكذا لأبطال الفيلم تتمازج مع لقطات حقيقية من الشارع الأمريكي، والغوص في الثقافة الأمريكية الشعبية، فالثمانينيات الأمريكية لا تتحدث عنها دون ذكر حذاء نايكي الذي أحدث ثورة في ثقافة الاستهلاك، حذاء آير جوردن.

القاسم المشترك هنا الذي يجعل تلك الأفلام ناجحة أنها تنطلق من قصص قد تكون معروفة للمشاهد بالفعل، فمن قرأ مذكرات «مارد الأحذية» لفيل نايت لا تخفى عليه قصة فيلمنا، ولكن الفيلم كغيره من الأفلام الدوكيودرامية، يعود بالمشاهد ليرى بناءً دراميًّا لحدث تاريخي ويعيش بشكل مجازي كجزء منه كأنه شاهد على ولادته وصانع له.

مات دايمون، الرجل الذي كان دومًا هناك

حسنًا، إن كنت تبحث عن ممثل هادئ، ليمُثل تلك الشخصية العادية التي تراها يوميًّا بمحيطك في العمل والمواصلات والمناسبات الاجتماعية الاضطرارية، ترس في آلة البيروقراطية لا يتميز عن غيره من التروس حينما تراه للوهلة الأولى، تجد مات دايمون هناك دائمًا جاهزًا ومستعدًّا لتمثيل ذلك الدور دون أن يذرف قطرة عرق، ذلك سر مهنته وما يجعله محببًا، أنه دومًا كان عاديًّا.

الكاميرا منذ بداية الفيلم تصف الشخصية الرئيسية للفيلم «سوني فيكارو»، والتي يؤديها دايمون دون الكثير من الزخم والكلام، فهو شخص مُطلَّق، بدين، يكره الجري والملابس الرياضية في مفارقة ساخرة مع كونه أحد الموظفين لقسم كرة السلة في نايكي، لا يهتم إلا للاستمتاع بوجبة العشاء، ثرثار، وحياته محاطة بالذكور من محيط عمله، ويعالج ذلك الخواء العاطفي بعلاقة رومانسية مع العمل، فمن داخل منزله وبعد انتهاء أوقات الدوام، نجده يحاول أن يحلل أسباب الشهرة والنجومية، ليصقل مهارته في اكتشاف النجوم، دون أن يحاول أن يكون شهيرًا أو نجمًا.

تلك السمات التي يبدو أن سوني يعيش معها في وئام، هي ليست كذلك، فشعوره بعدم الرضا والهامشية الشديدة يدفعه لأن يكون أكثر الأشخاص هوسًا بنجاح قسم كرة السلة الذي أضافته نايكي حديثًا لأعمالها، ويبدو أنه شوكة في خاصرتها في ظل المنافسة المستحيلة مع شركات مثل أديداس وكونفرس.

مستعمرة الذكور

تكمن العُقدة في الفيلم في كون نايكي لا تريد أن تُنفق الكثير من الأموال على قسم كرة السلة، وتتضاد تلك السياسة مع رغبة فيكارو في إنجاح القسم من خلال التعاقد مع الشاب اللامع آنذاك «مايكل جوردن»، تلك الرغبة التي تُشبه «يوريكا» أرشميدس حين يكتشف فيكارو الشخصية الطاغية لمايكل جوردن في أحد اللقطات التي شاهدها صدفة، وتجعله يراهن عليه كنجم يعيش لمائة عام، ويتجهز ليضع أمامه كل سنت في ميزانية القسم ليوقع لنايكي. وفي إطار تلك الثنائية التضادية التي تتمثل في البُخل الاقتصادي لنايكي والرغبة في منافسة عملاقة إنفاق مثل أديداس وكونفرس اللذين يستحوذان على مجالات الرياضة الأمريكية من السلة إلى الوثب وسباق المسافات، وفي ذلك السياق تتطور قصة الفيلم التي تبحث عن حل بمناخ يمتزج من الكوميديا الخفيفة والدراما الخفيفة.

الكوميديا في الفيلم تنبع من علم المشاهد المُسبق بأعماق شخصية فيكارو التي لا تراها الشخصيات التي تتفاعل معه على السطح، فأنت تعلم أن فيكارو مُحبط ومُكتئب ووحيد وممتلئ بدوامات الغضب والإحباط، ولكنه يتعامل بإيجابية شديدة مع زملائه ورؤسائه وفي محيطه، وتمكنه سرعة بديهته من الصبر على الحمقى وعدم الانفجار. 

فيكارو يسعى لإنجاح وظيفته مصطدمًا بشخصية «فيل نايت» المؤسس لشركة نايكي التي يؤديها بن أفليك مرتديًا تلك الباروكة البرتقالية السخيفة والمضحكة لتجعله يشبه نايت، ولكنها مقبولة في إطار من الكوميديا والخفة التي يسمح بها الفيلم.

تتفاعل الشخصيتان في مزيج مُدهش رغم التنافر الظاهري، فبعد أن تأسست لنا شخصية فيكارو كشخصية روتينية بشكل سلبي، تظهر شخصية نايت روتينية كذلك ولكن بشكل إيجابي، فهو شخص يعشق الجري والأكل الصحي وغارق في محاولة العيش داخل نسق فلسفي والتحدث بمزيج من حكم بوذا والمهاتما غاندي، وعلى الرغم من أن الحدث يرسم مفارقة وطريقين مختلفين لكل شخص منهما في الحياة، فإن كليهما يريد النجاح، وهذا ما يجعل جوًّا من التعاطف يسود بينهما حينما تتأزم الأمور. ولا تغيب التراجيديا من الفيلم كذلك، فهناك «جايسون بايتمان» الذي يؤدي دور «روب ستراسر»، وهو رئيس فيكارو، وتنبع التراجيديا في الفيلم من وضع السكين على رقبة تلك الشخصية، فهو كذلك مطلق، ولكن لديه ابنة سلواها في الحياة أن يجلب لها أحذية من نايكي يحصل عليها بشكل مجاني كهدايا، ومن أجل هذا تحبه في الساعات القليلة التي يراها فيها أسبوعيًّا، وحين يضع فيكارو مصير القسم على المحك بمحاولة التعاقد مع مايكل جوردن، يتحرك دومًا وعيناه على مصير علاقة ستراسر بابنته.

سيكون الفيلم عقيمًا إذا كانت كل الشخصيات، وإن اختلفت سماتها، ولكنها تسعى بحسن نية إلى تحقيق هدف واحد، لذلك كانت شخصية وكيل أعمال مايكل جوردن «ديفيد فالك» وازنة وشديدة الأهمية لأحداث القصة، فشخصية فالك المادية الاستغلالية تجعل منه مولدًا للهيستيريا في الفيلم والشعور بالقلق من تصرف قد يفعله شخص سيئ، كما أنه يُحرك الجوانب السيئة في شخصية فيكارو كرد فعل عليه، فنجد فيكارو يستحوذ على حق امتيازه في كلمة «آير جوردن» دون شعور بالذنب، بل في مشهد نتقبله كأنه شيء أخلاقي ومشروع.

يبدو الفيلم عن مستعمرة من الذكور البيض الذين يعانون الوحدة، فتزوجوا العمل، لذلك فهو ممتلئ بالكوميديا والشتائم والحانات والبيرة، وهنا تأتي شخصية «بيتر مور» المُصمم لشركة نايكي، والذي يعاني أزمة منتصف العمر كدليل على هذه الفكرة التي تميز الشخصيات دون البوح بها.

ما نعرفه ونتصنع عدم معرفته

بالطبع سينجح فيكارو في التوقيع مع مايكل جوردن، هذا ما نعرفه جميعًا حتى إن لم نشاهد الفيلم، ولم نقرأ مذكرات نايت، ولكننا شاهدنا ميسي يرتدي قميص باريس سان جيرمان الذي تصنعه شركة نايكي من فرع إنتاجها الخاص المسمى «آير جوردن»، لذلك كان على أفليك البحث عن صناعة التشويق في الأحداث، خاصة أن الفيلم دوكيودرامي وله جمهوره الذي يختلف تمامًا عن جمهور الفيلم الوثائقي «دوكيومنتاري» الذي لا يبحث عن التشويق بقدر ما يهتم بالحدث التاريخي بحد ذاته. كان بإمكان أفليك أن يستخدم مشاهد كثيرة لكرة السلة لصناعة الإمتاع، ولكنه تخلى عن الإفراط في هذا الأمر وجعل كرة السلة هامشية جدًّا في الفيلم، وانصرف إلى الحركة ليصنع منها التشويق في الفيلم، حيث إن القصة تدور باستمرار في العديد من الأماكن، في الحانات والمكاتب وساحات الجري، ويتكلم الأشخاص بينما هم يلهثون لفعل شيء ما، وفيكارو كسيزيف يطير بين أوكلاهوما وكارولاينا الشمالية مقابلًا العديد من الأشخاص لمحاولة التوقيع مع جوردن.

دولوريس جوردن

مايكل جوردن وكرة السلة ونايكي هم الأبطال الرئيسيون للقصة بشكل بديهي، ولكن Air يظهر أن الفيلم ليس عن كرة السلة ولا عن نايكي بقدر ما هو عن كواليس صناعة النجومية بواسطة شغف العاديين مثل فيكارو، أو «بيلي بين» في Moneyball.

تبدو هنا براعة تطويع القصة الحقيقية سينمائيًّا، حين يقرر أفليك التخلي عن مايكل جوردن تمامًا، الذي رغم أهميته ومحوريته هو غير مهم على الإطلاق بالنسبة للفيلم، لا تظهر له مشاهد إلا من الخلف، حتى إننا لا نعرف مَن مثَّل ظهر مايكل جوردن إلا من موقع Imdb، إنه يبدو كإله أسطوري مُحتجب تسعى كل الشخصيات لرضائه بينما هو لا يتواجد على الإطلاق.

ومن هنا تأتي أهمية شخصية دولوريس جوردن، أم مايكل، والتي تؤديها ببراعة معتادة الممثلة الأوسكارية «فيولا ديفيس»، التي تلعب دور الحامية لابنها الشاب الأسود ذي الـ 21 عامًا، من مجتمع رجال الأعمال البيض الذين يتحكمون باقتصاديات اللعبة والتسويق وكل شيء بشكل كامل. تبرع فيولا في أداء دور تلك الأم الشامخة المدبرة، حتى كأنك تشعر في بعض الأحيان أن لا أحد يأخذ التمثيل بجدية في هذا الفيلم سواها، رغم أن دور دولوريس مباشر وغير مركب، ومساحته لا تسمح بمونولوج واحد أو مشهد انفعالي، إلا أن كاريزما ديفيس تخلق جوًّا مسيطرًا على الأحداث ودورتها، كأنها كاشفة لكل ما يحدث، وتسير كل الأمور فقط بالطريقة التي تريد.

حسنًا، إن كنت تحب فلسفة الشيء أكثر من الشيء نفسه، ويمتلكك الفضول لتعرف ما دار في الغرفة التي شهدت الأحداث، فسيكون فيلم Air مناسبًا جدًّا لك حتى لو لم تكن تهتم بالرياضة على الإطلاق.