لكي يسافر المرء إلى مدينة بوشكار [1]، يتعين عليه المرور بأجمير أولاً، وهي مدينة صغيرة بقلب صحراء راجستان، تحفها سلسلة جبال أراولي، التي تبدأ رحلتها في دلهي مرورًا بغرب شبه القارة الهندية، وتنهيها في ولاية راجستان. وهي قبلة للحجاج المسلمين، والهندوس المتأهبين لمواصلة الطريق إلى بوشكار المقدسة.

لم تكن أجمير مدرجة ضمن خطتي لجولة راجستان، غير أن ساعات الانتظار بموقف الباصات طالت، ووجدتها فرصة سانحة لاستكشاف المدينة. غادرت الموقف مع أول شعاع للفجر، يملؤني إحساس بالتشوف، فكانت بانتظاري حكايات غاية في الغرابة، وأساطير تطل على العالم من ضريح ضخم؛ ضريح سلطان العارفين وشيخ الهند، الإمام معين الدين الجشتي.


مرفأ للجميع

الله حاضري، الله ناظري.

انفتحت بوابة الضريح على حلقة من نغم، تحت ضوء الصبح الندي. عشرات من الرجال يتربعون في ملابس بيضاء نظيفة، يضعون على رؤوسهم طواقي مزركشة، وعلى أكتافهم أشولة مطرزة، تتمايل مع أجسادهم الهزيلة. إلى جوارهم، ودون فواصل، تجلس النساء، في سوارٍ[2] ملونة وموشاة بالورود، يحتضن أطفالهن، ويدربونهم على ترديد التواشيح.

في مركز الدائرة، يعزف رجل بلحية خفيفة على صندوق خشبي له مفاتيح، يشبه البيانو، فيما تدق عن يمينه وشماله الطبول، وتنفخ المزامير، وتردد التواشيح ثناءً ومديحًا وتضرعًا، يحملها النسيم المعبق بزخم المساجد الهندية للقبر المسكون بالنور.

ضريح معين الدين الجشتي في أجمير
ضريح معين الدين الجشتي في أجمير

بإزاء الحلقة تقف طوابير الزوار، أسر كاملة، وشبان، وعجائز على كراس متحركة. يحملون في أيديهم لوازم الزيارة؛ عيدان بخور داكنة، وأصناف من الحلوى، وأطباق كبيرة مفروشة بورود حمراء، ومفارش مشغولة بالصور والآيات والأدعية لصاحب الكرامات والبركة. ينتظرون دورهم في الدخول إلى القبر، ليقرأوا الفاتحة لغريب نواز، ويقبلوا قبره ويتلمسوا حوافه المزخرفة بالآيات، ويرفعوا أيديهم ضارعين إلى الله، يسألوه- بحق كرامات خواجا معين التي لا تحصى- إصلاح أحوال دنياهم وآخرتهم، ثم يخرجون وقد أشرقت وجوههم الباهتة الحزينة، وأشرفت أرواحهم على الطيران.

عندما دخلت، كان النور المتسلل من النوافذ المفتوحة، ينزلق على الرخام الأبيض المصقول، مضفيًا لمسة من القدسية. والورود الطازجة تغمر الضريح ببهاء اللون الأحمر، قرأت الفاتحة لروح الإمام، وأهداني أحد حراس الضريح عقدا من خيوط صفراء وحمراء، وخرجت أردد مع فيض الحجاج: الله حاضري، الله ناظري.


خواجا غريب نواز

هو الخواجا «معين الدين حسن بن غياث الدين السجزي»، يُسميه أتباعه «غريب نواز»، وهي كلمة أوردية تعني مغيث الفقراء. هو أشهر أعلام الصوفية وأبرز الأولياء بشبه القارة الهندية، يمتد نسبه للإمام علي كرَم الله وجهه، ويرجع إليه الفضل في دخول آلاف الهنود إلى الإسلام.

ولد في سيستان (إيران) عام 1136م لعائلة غنية، وتصوف بعد لقاء في بيته مع شيخ يدعى إبراهيم كندوز، فهجر ماله وبيته، وارتحل في طلب العلم بين سمرقند وبخارى وبغداد، واستقر به الحال في المدينة المنورة. وفي العام 1191، غادرها مع أربعين من أتباعه، قاصدين أجمير الهندية، فنشر منها الإسلام إلى شتى بقاع الهند، ومات ودفن فيها عن 97 عامًا.

يتوافد الملايين كل عام لزيارة ضريح الجشتي بأجمير، يقدر عدد الزوار اليومي بـ 150,000 وهو طقس متبع منذ عهد السلطان جلال الدين أكبر، ثالث سلاطين المغول، الذي كان يحج مع زوجته من أجرا إلى أجمير سيرًا على الأقدام للتبرك بالضريح، ولطلب العون من غريب نواز في معاركهم.

لا تقتصر زيارة الضريح على المسلمين، فهندوس أجمير، بل وكل الولايات المحيطة، يكنون احترامًا بالغًا للخواجا، ويؤمنون بكراماته وقدرته على إجابة حاجاتهم. قال لي سائق سيارة الريكشا، التي نقلتنا من محطة الباصات إلى الضريح: «أبدأ يومي بزيارة درجة شريف [3] أمضي هناك ساعة أتعبد وأدعو لتحل البركة على يومي وأطفالي وزوجتي، والحق أن الخواجا لا يتأخر أبدًا».


سقيفة اليومين ونصف

فوق تل خفيض، وراء ضريح الجشتي، يقوم أقدم أثر باقٍ في مدينة أجمير، بعمر 825 سنة. تتلوى الطريق صعودًا بين حوار غير ممهدة، محتقنة بالمجاذيب والدراويش وأصحاب العاهات، وباعة الأرصفة ببضاعتهم المفروشة، والأبقار الشاردة، والحوانيت التي تعرض لوازم زيارة الضريح، ثم سلم حجري كبير يفضي إلى المسجد.

مسجد «أدي دين كا جانبرا»
مسجد «أدي دين كا جانبرا»، أجمير

بوابة هائلة، قوس مهيب كأنه معد لاستقبال الفاتحين، وعن يمينه وشماله ستة أقواس صغيرة، قواعدها الثمانية العريضة منقوشة بآيات من القرآن، ومزخرفة بأزهار متداخلة على الطراز الفارسي. وراء البوابة ساحة كبيرة، تتباعد بها الأعمدة، ويمرح الأطفال والماعز. لفت انتباهي نقوش غريبة تزين أعمدة البهو الرئيسي للمسجد، واقتربت أفحصها مشدوهًا.

مسجد وتزينه آلهة هندوسية؟

أجل، هو مسجد «أدي دين كا جانبرا» وتعني سقيفة اليومين ونصف، وهو واحد من أقدم مساجد الهند، وله حكاية عجيبة. عندما مر السلطان محمد الغوري بأجمير، افتتن بمعابدها البديعة، وببهاء الزخارف والمنحوتات الملونة على الأعمدة، لكنه أمر مملوكه، القائم حينها على ولاية دلهي، قطب الدين أيبك، بهدم المعابد جميعًا، وبناء مسجد يصلي فيه السلطان قبل مغادرة أجمير، وذلك كله خلال 60 ساعة (يومان ونصف).

لم يكن بناء مسجد في هذه المدة ممكنًا، لذلك خطر لأيبك أن يشيده على أنقاض مدرسة لتعليم اللغة السنسكريتية كان قد هدمها بنفسه، وأن يستعمل حطام المعابد الهندوسية من حجر جيري ورخام وأعمدة، وسخر لذلك العمال الهندوس تحت إشراف مهندسيه. كان هذا في العام 1192، لكن البناء، بصورته الحالية، اكتمل سنة 1199.

وضم المسجد عشر قباب كبيرة، و344 عمودًا، لم يبق منهم إلا 70 واحدًا، تظهر عليهم بوضوح نقوش هندوسية ويانية [4] ومنحوتات للآلهة برهاما(الخالق في الهندوسية) وفيشنو(الإله الأعلى) وساراسواتي(إلهة الحكمة والموسيقى والفنون).

مسجد ومحراب «أدي دين كا جانبرا»، أجمير

فكرت كثيرًا، وأنا أتأمل هذه الآهلة المطلة علينا من أساطير عمرها آلاف السنين، كيف بقيت لابدة هنا على هذه الحال؟، كيف لم يخطر للسلاطين الذين خلفوا الغوري وأيبك، وحرص بعضهم على زيارة المسجد، أن ثمة شيئًا غريبًا؟، كيف لم يحمل المصلون المواظبون بالجامع فؤوسًا يحطموا بها هذه المنحوتات؟، ووجدتني في النهاية أشكر صنيع كل هؤلاء، لأنهم منحوني الفرصة لأرى هذه التركيبة، التي تبعث في داخلي الدهشة إلى اليوم.


أنا ساجار

مسجد ومحراب «أدي دين كا جانبرا»، أجمير
مسجد ومحراب «أدي دين كا جانبرا»، أجمير

في وسط مدينة أجمير، وفي تناقض تام مع حال شوارعها الرثة، تتسع بحيرة بديعة، تحفها مساحات خضراء شاسعة، تتناثر بها الأشجار والنخيل وأحواض الزهور، وترف فوقها أسراب من طيور البلشون البيضاء. على ضفاف البحيرة ثمة مبان جميلة، من رخام أبيض لؤلؤي، بناها السلطان شاه جهان(صاحب تاج محل) للإقامة عند نزوله بأجمير.

بحيرة أنا ساجار
بحيرة أنا ساجار

من بين كل الروايات العجيبة التي تؤرخ لبدايات تنور الأولياء، تكشف لحظة تنور خواجا معين عن فرادته منذ الصغر. كان يملك مزرعة كبيرة، بها أشجار عنب وتفاح وموز، وحدث أن مر بها متصوف، فأكرمه الشيخ وقدم له طعامًا وشرابًا، وبمجرد فراغه منهما، قص من لحيته بضع شعيرات، وطلب من معين أن يأكلها. أكلها دون تردد، فأحس بالنور يشرق في باطنه. هجر بيته ومزرعته وارتحل في طلب العلم بين البلدان، تتلمذ على يد كبار المشايخ والأساتذة، إلى أن استقر به الحال في المدينة المنورة، فقيها يُسأل المشورة، ويستضاء بهديه.

ذات ليلة، راح في النوم منكفئًا على كتبه، فكانت كرامته الأولى، كرامته الأعظم التي لم تفارقه بعدها أبدًا. جاءه سيد خلق الله عليه الصلاة والسلام، تغمر رأسه هالة من نور، وعن يمينه وشماله ترف ملائكة متوجة بالذهب والماس. سلم عليه بكلام من حرير، ومثل بين يديه الكريمتين وقبلهما وبكى مطرًا.

-رأينا يا معين الدين أن تنزل بمدينة أجمير ببلاد هندوستان مبشرًا ونذيرًا.

ركبت معين الدهشة واستولى عليه الخوف، قال: يا رسول الله أنا شيخ هرم، ولست على شيء من القوة أو الجاه، أأنزل بقوم يعبدون الشمس والقمر والريح العاتية وأدعوهم إلى الله فيقتلونني؟.

-اعلم يا معين الدين أن أصعب الدعوة ما كان في قوم تسكنهم الخرافة، غير أن الأجر؛ أنهار فياضة وجبال من نور.

وأخذه عليه الصلاة والسلام من يده، وركبا أجنحة الملائكة إلى أجمير. ومنذ ذلك اليوم لم يفارقه الرسول أبدًا.

أما كرامته الثانية، فإنها تتعلق بالبحيرة التي نجلس على ضفافها. كان الشيخ وأتباعه يتخذون من الجبال المطلة على البحيرة مأوى لهم، يلتحفون بسمائها، ويأكلون من أسماكها ويشربون.

وكانت تحيط بالبحيرة عشرات المعابد الهندوسية، ساورت كهنتها المخاوف فظلوا يحرضون الملك على طرد الغريب من المدينة، للحيلولة دونه ودون إغواء فقراء أجمير بسحره الأسود وعجيب كلامه، فأصدر الملك أوامره بمنع الشيخ وأتباعه من الاقتراب من البحيرة، وجعل حولها حرسًا كثيفًا مدججًا بالأسلحة، لكن الشيخ نزل في الليل، وبنظرة واحدة منه سقط أحد الحراس مغشيًا عليه فتسلل إلى الماء، وملأه كله، بعون الله، في وعاء صغير، حتى غاضت البحيرة.

ضرب الجفاف أجمير وشبت في الحلوق حرائق، لجأ الملك إلى كهنته، لكن محاولاتهم باءت بفشل ذريع فأيقن الجميع بالهلكة، وسار الملك بين جنوده إلى خواجا غريب نواز وتوسلوا إليه. عاد الماء إلى سريره، ودخل جل الأجميريين، وعلى رأسهم الملك نفسه إلى الإسلام وصار للشيخ شأن عظيم.

إن كراماته لا تحصى، كان يحيي الموتى، ويحيل التراب ذهبًا، ويراه الناس في أكثر من بلد في نفس الساعة. وأي واحد تسأله في أجمير سيحكي لك كرامة عجيبة سمع بها أو عاين آثارها بنفسه.

مولانا معين الدين قدس الله سره، النور الخالص، المبدد كل عتمة، البالغ كل أرض. بذكر اسمه يذوب الخوف والحزن».


[1] يمكنك الاطلاع على رحلتي إلى مدينة بوشكار بالحلقة الثالثة من السلسلة.[2] الساري هو الرداء الشعبي للسيدات الهنديات.[3] درجة شريف: الاسم الذي يطلقه الهنود على ضريح الإمام الجشتي، وهي كلمة أوردية تعني الضريح الشريف.[4] اليانية: واحدة من ديانات الهند الدرامية الفلسفية.