ديه مؤامرة بين حماس وإسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية بتفريغ غزة من سكانها!
لا لا يا عم، مش لدرجة مؤامرة من حماس. إسرائيل بذكاء شديد هي وأمريكا، عملوا كمين لحماس، وسابوها تفرح ساعتين، وبعدها استغلُّوا الموضوع وهيعملوا نكبة جديدة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ما حدث في طوفان الأقصى هو مؤامرة بين إيران وإسرائيل، فقد غرَّرَت إيران بحماس، وشجّعتها على هذا الهجوم الانتحاري لتدميرها، كجزء من الحرب ضد أهل السنة والجماعة.

هذه أمثلة بتصرفٍ بسيط، من بينِ كثيرِ من التعليقات والمنشورات العربية على وسائل التواصل الاجتماعي، خلال الأيام الماضية، التي يشنُّ فيها الكيان الصهيوني حملتَهُ الدموية الانتقامية الهستيرية ضد سكان قطاع غزة، ليثأر لخسائره الفادحة في عملية طوفان الأقصى صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي ضربت في مقتل، نظريات الردع والقدرات الاستخبارية الخارقة، والتي يرتكز عليها أمن هذا الكيان ووجوده، وخلّفت حتى لحظة كتابة هذه السطور أكثر من 1400 قتيل إسرائيلي، وما يزيد عن مائتيْ أسير، وهي أرقامٌ غير مسبوقة في تاريخ الصراع على أرض فلسطين التاريخية وفي العمق الإسرائيلي المُحتلّ.

أظهرَ طوفانُ الأقصى بجلاء أحد أبرز الأمراض المزمنة القاتلة للوعي العربي، مرض الهوس بالمؤامرة، والذي يسيطر على عقول الكثيرين، ويجعلهم يعتقدون دائمًا أنَّهُ لا شيء يمكن أن يحدث بتلقائية وعفوية، أو بتخطيط محلي، أو بجهد مستقل من أناسٍ يشبهوننا. بل هناك دائمًا تفسيرات جاهزة تحوم حول أنّ هناك مؤامرة عظمى ترسم خيوط كل شيء، وتتحكم فيها لمصالحها، وما نحن إلَّا عرائس مشدودة إليها على المسرح، ندور في فلك أقدارِها المرسومة. وتختلف نسبة المسؤول عن هذه المؤامرة السرمدية بين حكومة العالم الخفية، الاستعمار، الماسونية، المتنورون، المؤسسات المالية الكبرى، الشركات العابرة للقارات، الصهيونية العالمية، المخابرات المركزية الأمريكية… إلخ.

ليس الهدف من الطرح الحالي هنا أن نقع في النقيض التام من هوس المؤامرة، وهو الهوس بإنكار المؤامرة جملة وتفصيلًا، فلاشكّ أن العالم المعاصر يحفل بقوى الهيمنة الإقليمية والعالمية، والتي تحاول عبر أذرعها الاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية أن تتحكم في المصائر، وتفرض أجندتَها على الغير، لكن لا يعني هذا أنها قادرة دائمًا على سبكِ وحبكِ تلك الخطط والمؤامرات، وإنجاحها، وأنَّ قوى المقاومة المحلية على اختلاف وسائلها ومشاربها لا تستطيع مقاومتها بفاعلية.

كيف يدمِّرُ هوسُ المؤامراتِ شخصية الإنسانَ العربي ومستقبله؟

لا شكّ أنّّ ذلك الهوس المرضيَّ بالمؤامرة هو ابن الهزيمة النفسية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة التي يعاني منها الإنسان العربي، والأسوأ، أنَّ هذا الهوس يعزِّزُ تلك الهزيمة، ويجعلها أكثر فداحة للأسباب التي نوردُها في العناوين التالية:

1. تكريس الهزيمة والعجز عن الفاعلية

أنّى للمرءِ أن يجد الثقة في نفسه، ثم العزمَ والإرادة، وبهما يواجه التحديات الكبرى المحيطة به وبأمته، وهو مقتنع أن كل ما يحدث هو من تدبير مؤامرة كونية مسيطرة، صنعت لنا على عينها واقعًا سرمديًا، واصطنعتنا عبيدًا لإرادتها، وأنه لا فكاك لنا من قبضتها الجهنمية؟

لا يستطيع -ولا يُريد- العقلُ المُستَلَبْ لهوس المؤامرة مجرَّد أن يصدِّق أن فريقًا من أمته يمكن أن يعمل تحت أقصى الضغوط، ويحدث المفاجأة، ويصنع تغييرًا كبيرًا في المعادلات، ويصنع عملًا مدوِّيًا يكسر المعادلات القائمة مثل طوفان الأقصى، فكيف يمكن بداهة لهذا العقل أن يدفع صاحبه إلى أن يفعل أو يُساهم؟

2. التسطيح الأحادي الجانب والعجز عن أخذ المواقف المُركّبة

الحياة معقدة للغاية، وقليلٌ من مواقفِها يمكن التعامل معه بسهولة ووضوح على قاعدة أبيض أو أسود. لكن المهووس بالمؤامرة لا ينظر لأي أمر إلا بشكل ثنائي قطعي، إما خير أو شر، إما حقيقة أو خيال، إما نصر تام أو هزيمة زؤام. ويتجلى هذا الخلل عندما يُلقي العقل المهجوس بالمؤامرة بأحكامِه تجاه أيِّ فعل أو فاعل، سواء كان محليًا أو إقليميًا أو دوليًا. فمثلًا كتائب القسام أفضل من على وجه الأرض، ويكادون لا يخطئون، أو كتائب القسام جزء من مؤامرة «جهنمية» لتفريق الصف الفلسطيني، والانتحار بالفلسطينيين في معارك عبثية… وهكذا.

3. فقدان القدرة على التحليل المنطقي واستبداله بالربط التعسُّفي

«وما كانَ معهُ من إله إذًا لذهبَ كلُّ إله بما خلق ولعلا بعضُهم على بعض»
سورة المؤمنون – آية 91

عندما يحاولُ العقل الخاضع للمؤامرة أن يحلِّلَ أبعاد حدث كبير ما، فإنَّه لا يستطيعُ أن يستخدمَ الأدوات المنطقية والواقعية في التحليل، ليقترب من الأسباب الحقيقية، ويبني عليها خطواتِه العملية الفعّالة، إنما يسارعُ فورًا إلى الارتكان إلى التفسير بالمؤامرة، والتي غالبًا ما تكون هُلامية وغير قاطعة الملامح، بل بلغ الأمر بالبعض إلى الجزم دون دلائل ملموسة بأنَّ هناك مؤامرة واحدة متصلة عمرها قرون أو أكثر، يتوارثها كيان سري واحد بالغ الترابط والتجانس. وهكذا يميل هذا العقل المهووس بالمؤامرة إلى سد الفراغات المعرفية والتحليلية بمؤامرات مُتخيَّلة أو حقيقية مُبالغ في تقديرها.

بالفعل، هناك في العالم دول فائقة القوة والنفوذ، وكذلك أوليجاركيَّات -أقليات- أو عائلات أو شركاتٍ كبرى عابرة للدول والقارات -يحلو لأصحابنا في اليسار وصمها بالكوربوراتية- تمتلكُ ثرواتٍ هائلة، يمكن أن تشتريَ بها بعض الساسة ومساحات الإعلام والثقافة والنفوذ بل والدين، والتي يمكن تدعم حكومات معينة لتمرير مصالحها، وتُسقِطُ أخرى، لكن مراكز النفوذ تلك ليست مطلقة القوة والفاعلية، كما أنَّها متباينة المصالح، ومتضاربة السياسات، ويمكن استغلال تلك التناقضات من الأطراف الأضعف التي تريد مقاومة هذا النفوذ وتغيير الواقع.

طوفان الأقصى: العلاج بالصدمة لهوس المؤامرة

في تخصصي الطبي، أمراض القلب، عندما يصاب المريض باضطراب كهربائي خطير، مثل التسارع أو الرجفان البطيني، فإن القلب يكون في حكم المتوقف، ولابد فورًا من صدمة كهربائية عاجلة تعيد تشغيله، وتعيد به النبض الكهربائي الطبيعي المنتظم. ومن هذا المُنطلق، أتمنى أن تكونَ ملحمة طوفان الأقصى وما يليها حتمًا من ملاحم وأحداث، بمثابة الصدمات الكهربائية العلاجية التي تخلّصُ الكثيرين من مرض هوس المؤامرة. ولكن كيف هذا؟

سردية المؤامرة في قصة طوفان الأقصى هنا تفتقر تمامًا في كافة جزئياتها لأي منطق، فإسرائيل التي قبل 12 عامًا أفرجت عن 1027 أسيرًا فلسطينيًا في صفقة وفاء الأحرار (صفقة شاليط) الشهيرة مقابل الجندي «جلعاد شاليط» الذي أسرته المقاومة في غزة عام 2006، وأفرجت عام 1983 عن 4600 أسير فلسطيني ولبناني من معتقل أنصار في الجنوب اللبناني، مقابل 6 من الأسرى الإسرائيليين كانوا بحوزة حركة فتح، لا يمكن لها أنْ تُخطِّط لمؤامرة تُسفر عن أسر ما يزيد عن 200 من جنودها ومستوطنيها.

وبالطبع، لا يمكن لدولة مثل إسرائيل، مهجوسة دائمًا بالخطر الوجودي، وبحتمية بناء حاجز هائل من الردع الحقيقي والمُتخيَّل، وبالأزمة الديموغرافية المتمثلة في قلة عدد سكانها مقارنة بالتحديات وبتزايد أعداد الخصوم، أن تضحي بما يزيد عن 1400 قتيل، ومعهم نظريًا وعمليًا قدرتها على الردع وسمعتها كواحدة من أبرز القوى الاستخبارية في العالم، لكي تجد لنفسها مبررًا لاجتياح قطاع غزة أو تهجيره. فالقادة الإسرائيليون يتحدثون عن التخلص من غزة منذ عقود، ومشاريع التهجير إلى سيناء تعود إلى خمسينيات القرن العشرين في عهد الإدارة المصرية في رئاسة جمال عبد الناصر، وما حال دون حدوثها آنذاك هو انتفاضة أهل غزة، والتي أجبرت النظام المصري على التراجع عن اتفاقه مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) على تهجير سكان غزة إلى غربي شبه جزيرة سيناء.

ولا يحتاج العدو إلى مؤامرة مؤلمة لكي يجد الذريعة للهجوم على غزة، فقد اجتاح لبنان، واحتلّ نصفَها عام 1982، وقتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، بعد محاولة اغتيال فاشلة للسفير الإسرائيلي في لندن، وهاجم وحاول احتلالَ جنوب لبنان عام 2006، مُخلفًا أكثرَ من ألف شهيد مدنيّ على الأقل، وشرَّد عشرات الآلاف من اللبنانيين، انتقامًا من عملية الوعد الصادق التي نفذها حزب الله وأسفرت عن مصرع 8 جنود إسرائيليين وأسر اثنيْن.

وقد اندفع الكثيرون بحسن نية إلى التفسيرات المؤامراتية، لصدمتهم الإنسانية من المجازر الانتقامية الإسرائيلية بحق أهل غزة والتي خلّفت حتى لحظة كتابة هذه الكلمات أكثر من 5 آلاف شهيد، و 15 ألف جريح، وحصارًا بربريًا للقطاع المُنهك قطع عنه الماء والدواء والوقود والكهرباء، حيث أذهلَهم هذا النزيف الموجع عن مشاهد المبادرة الهجومية في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأفزعهم رفع السقف الأمريكي والإسرائيلي والحديث الفج عن تهجير أهل غزة بالقوة إلى سيناء، فرأوا أن تلك النكبة المزعومة هي دليل على أنَّ الأمر كان مؤامرة مدبَّرة، تاركين تفسيرات أكثر منطقية، وأدلتها ظاهرة، مثل أن العدو ببساطة في حالة من الانتقام الدموي الهستيري نتيجة خسائره البشرية غير المسبوقة، وورقة الأسرى المرعبة التي أصبحت في حوزة المقاومة، وأنه رفع سقف الدم والانتقام لأنه بحاجة إلى ثمن باهظ مقابل ما أُخذ منه.

فمثلًا في أكبر الحروب على غزة قبل الحرب الحالية، حرب صيف 2014، والتي أسمتها المقاومة (العصف المأكول) قُتِل 72 إسرائيليًا، مقابل 2200 شهيد فلسطيني، أي كانت النسبة أكبر من 1 إلى 30 في الخسائر البشرية. أي إنه إذا -لا قدر الله- خلال الأيام القادمة وصل عدد شهداء غزة إلى 10 آلاف مثل، فإن النسبة الدموية تظل ربع نسبة معركة العصف المأكول التي شاهدناها منذ 9 أعوام.

وهل كنَّا نتصور انتقامًا أقل دموية من هذا من عدو ذي غريزة عنصرية وحشية اعتاد الانتقام في أجساد الأبرياء والعُزَّل، كما فعل قبل أكثر من 50 عاماً في مصر عندما انتقم من خسائره العسكرية في حرب الاستنزاف بقصف مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل وغيرهما؟! كما أن العدو يأمل من هذه الوحشية أن تسهّل عليه التوغل البري في غزة، والذي يخشاه كثيرًا، لكنه مضطرٌّ إليه لكيْ يصنع صورة نصر ما تحفظ ماء وجهِه أمام شعبه والعالم، بأن تزيل مربعات سكانية يمكن أن تعيق حركة قواته المدرعة، وتساعد المقاومة على نصب الكمائن، وبأن تخلي له ما أمكن من أحياء ومدن من غطائها السكاني، فتكون حرب المدن أقل ضراوة وخسائر.

اقرأ: مكسب إستراتيجي: لكي لا يذهب طوفان الأقصى سُدى.

إن قيام كتائب القسام بمثل هذا العمل الكبير والصادم، منطقي، لمحاولة كسر المعادلات القائمة التي أطالت الحصار على غزة 16 عاماً، وجعلت القضية الفلسطينية في حالة موت سريري، لاسيّما مع تكالب الدول العربية على التطبيع مع إسرائيل، التي تُرِك لها الحبل على الغارب في الاستيطان، وتهويد القدس، والاستفراد بالضفة الغربية وتصفية أية بذور مقاومة بها.

وإذا انتقلنا إلى الشق المتعلق بدور إيران، فسنجدُ الكثيرين ممن هالتهم جرأة وحجم هجوم طوفان الأقصى، وارتداداته الإقليمية والعالمية، يتحدثون عن أنه كان ضربة إيرانية خالصة، بل جنح البعض إلى أنه ضربة روسية صينية للولايات المتحدة انتقامًا من حرب أوكرانيا. وليس معنى أن طرفًا قد استفاد جيدًا من حدث ما، أنه لزامًا قد شارك في صنعه، وليس معنى التحالف بين قوة صغيرة صاحبة إرادة، ودولة كبيرة ذات مصالح، أن تتحكم تلك الدولة بهذه القوة بالريموت كنترول، بل هناك أشكال من الندية والاستقلال تصلح -بل وتجب- بين الحلفاء الأنداد. وقد شاهدنا في عشرات المقاطع المصورة لاقتحام مواقع غلاف غزة، أن جميع من نفذوها من مقاومي غزة، وأن العالم أجمع قد تفاجَأ بما حدث، القريب قبل الغريب.

 وإيران إذا أردنا النظر إليها بتوازن وتعقُّل، بعيدًا عن هواجس المؤامرات، هي قوة إقليمية برغماتية مستقلة، متمردة جزئيًا أو بشكل شبه كلي على النظام الدولي الأمريكي الغربي منذ الثورة الإيرانية التي أسست النظام الحالي عام 1979م، وتتفاوت خطوات إيران في سبيل ترسيخ مكانتها في الإقليم والعالم بين الجرائم كما فعلت ولا تزال من دعم بشار الأسد في المحرقة السورية ضد شعبه، والعزائم، كمحاولتها امتلاك مشروع نووي، وإنتاج الكثير من الأسلحة المحلية الوازنة كالصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيَّرة، ودعمها السخي ماديًا ومعنويًا وتسليحيًا لأبرز ثلاث فصائل مقاوِمة ضد إسرائيل وهي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيّتيْن، وحزب الله اللبناني.

الخلاصة

طوفان الأقصى نقلة تكتيكية هائلة في العمل الفدائي الفلسطيني والعربي ضد إسرائيل، ومثلت زلزالًا وجوديًا للنظام، لكن لا يُشترَط أن نتائج أي عمل مُتقَن تكون 100% جيدة، حتى نصدق أنه لم يكن مؤامرة خبيثة. وفي الصراعات غير المتماثلة بين قوة مقاومة محدودة التسليح، وجيش مدجّج بالسلاح، يحتاج المقاومون إلى الاحتماء بحاضنة شعبية مؤمنة بالفكرة، وقابلة لدفع الثمن، إذ غالبًا ما يميل العدو إلى عقاب تلك الحاضنة الشعبية لإيلام المقاومة واستنزافها معنويًا وماديًا، ولذا يخبرنا التاريخ أن خسائر الشعب المقاوم بشريًا كثيرًا ما تكون عشرات أضعاف العدو، لكن بالصمود، وجودة التحالفات، ينتصر المقاوم رغم الكلفة الباهظة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.