كنا في مسجد كلية طب الأسنان بقصر العيني، نستعد لصلاة الظهر، حينما بدأ النقاش واحتد. كان ذلك في عام 2002، وكنا في المسجد فرقاً وطوائف: إخواناً عاملين، وسلفيين، وشباب الأقاليم الوافد على القاهرة والمعتصم بتدينه القروي ليحتمي من عدائية المدينة، وشباب قاهري مقبلٌ على التدين وفي أذنه صوت عمرو خالد. وفئة قليلة ممن كانوا مثلي؛ تربوا في بيوت إخوانية أو سلفية، لكنهم ليسوا إخواناً ولا سلفيين، وما زالوا يبحثون عن إجابة أكثر انفتاحاً وأقل تورطاً في السياسة. كان القرضاوي في ذلك الوقت وجهة محببة لهؤلاء. اعتدنا حينها أن نراه خارج ماضيه الإخواني؛ عالماً جليلاً لم تستوعبه دائرة الجماعة الضيقة. كنت حينها حديث عهد بكتابه «الحلال والحرام في الإسلام»، (ذلك الذي كتبه بدعوة من الأزهر) وهو الذي قال في مقدمته:

وقد رأيت معظم المتحدثين عن الإسلام يكادون ينقسمون إلى فريقين: فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية. هؤلاء الذين اتخذوا مبادئ الغرب وتقاليده قضية مسلمة لا تعارض ولا تناقش. والفريق الثاني جمد على آراء معينة في مسائل الحلال والحرام. فإن سئل عن حكم الموسيقى أو الغناء أو الشطرنج كان أقرب شيء إلى لسانه أو قلمه كلمة (حرام). وقد حاولت ألا أكون واحداً من الفريقين.

نعم، بالضبط. هذا هو القرضاوي الذي كنا نعرفه حينها. صوت يفتح باباً للتجديد من خارج ثنائية «السلفية» و«العلمانية».

كانت أخبار الانتفاضة الفلسطينية حديث الساعة، وكان النقاش الذي احتدم حينها حول العمليات الاستشهادية التي كانت في ذلك العام تحديداً في قمة نشاطها وتواترها. لست أذكر بالضبط كيف وصلني رأي القرضاوي وقتها، لكنه كان نفس الرأي الذي عبر عنه في لقاء «الجزيرة» الأشهر لاحقاً، والذي قال فيه إن العمليات الاستشهادية «لا تجوز إلا بأمر من الجماعة».

كان معنى هذا الكلام واضح تماماً حينها. كان يعني دون لبس «جماعة المسلمين»، أي السلطة المنظمة للاجتماع العام، وهو ما يعني – إن شئت نقله إلى مفرداتنا الحديثة – «الدولة» أو السلطة التي يتم التوافق عليها في حالة سقوطها. وهذا المعنى هو نفس معنى كلمة «الجماعة» في عموم أدبيات السياسة الشرعية قاطبة، ولا يشك فيه عاقل. وقد كان كلام القرضاوي حينها مثيراً لغضب الجميع، بمن فيهم جماعة الإخوان، وحركة حماس، الراعي الأول للعمليات الاستشهادية في ذلك الوقت. كان كلام القرضاوي أقرب ما يكون لمفهوم «الدولة» بالمعنى الذي نعرفه الآن في كل أدبيات السياسة. الدولة، التي تحتكر العنف ويكون شرعياً فقط إن صدر عنها. ماذا قال القرضاوي غير ذلك؟

لكن الأيام دول هي الأخرى كما يقال. فبعد عقد كامل تقريباً مر منذ تلك المناقشة، كنا جميعاً في ميدان التحرير نشارك في ما عرف لاحقاً بـ«الربيع العربي»، ونستعد في حماسة لاستقبال الشيخ القرضاوي في الجمعة التي مثلت لحظة الانتصار القصوى للثورة، ومثلت– دون أن ندرك نحن حينها– بداية التحول في معنى «القرضاوي» الذي عرفناه. ليس بالضرورة تحول الرجل، وإنما تحول «معناه». فالإخوان الآن لم يعودوا «التيار الوحيد القادر على مواجهة مبارك» كما اعتاد «الكليشيه» أن يتكرر، ولكن صاروا طرفاً ضمن أطراف عدة في منافسة محمومة لخلافته، وصاروا يجمعون النقاط لصالحهم ما استطاعوا. وهنا عاد «القرضاوي» إخوانياً، وإن لم يفعل. عاد «معناه» إخوانيا. صارت دلالة حضوره ينظر إليها باعتبارها حضورا للإخوان، من قِبَلِ كل الأطراف الأخرى التي تتحسس مسدسها كلما تحرك الإخوان يمينا أو يسارا.

وتنامت الشكوك وتأكدت، ودارت الدوائر على الإخوان، منذ 2012. وبعد أن كانوا – يوم احتدام نقاشنا القديم في مسجد الكلية – خصوما للنظام المتهالك يحظون بتأييد الجميع وتعاطفهم، صاروا الآن «أعداء الدولة»، هم وكل من تربطه بهم رابطة أو صلة. وهنا انحبس القرضاوي إلى الأبد في «المعنى» الإخواني. لم يكن ثمة طريق لاستعادة القرضاوي الذي عرفناه صغاراً. فقد سقط الشيخ دون قصد منه في أفخاخ الميديا وتقلبات السياسة.

ما بين عامي 2015 و2016، تداول الجميع تسجيل الشيخ القرضاوي وهو يجيب على سؤال حول العمليات الاستشهادية في سياق الثورة السورية. لكن لاحظ: الظرف السياسي الآن صار مختلفاً تماماً. كيان الدولة في مصر وفي المنطقة عموماً يتعرض للهجوم المسلح من قبل «أطراف إسلامية»، ولا فكاك من ربط هجماتهم بالإخوان الذي خسروا للتو مقعدهم في القصر الرئاسي في عملية استئصال مؤلمة. لكن الشيخ بعفوية مفرطة أجاب بنفس إجابته القديمة نصاً: «لا تجوز العمليات الاستشهادية إلا بأمر من الجماعة».

هنا، صار لنفس عين العبارة معنى آخر. فبدلاً من أن تعني كلمة الجماعة «جماعة المسلمين» بمعناها السني المتعارف عليه، (الذي يقيناً عناه الشيخ)، أصبح الجميع في دوائر الإعلام والسياسة يفهم منها جماعة الإخوان المسلمين، وبدلاً من «لا تجوز إلا بأمر من…»، أصبح الجميع يفهمها كأنما تعني «تجوز فعلاً بأمر من…». أطبقت وسائل الإعلام جميعاً تقريباً على هذه القراءة المشوهة بطريقة لا تخلو من سوء نية متعمد وظرف غير موات. أراد الجميع أن يؤكد رسالة مفادها أن الرجل غلبت عليه «إخوانيته»، وأنه بهذا الكلام يؤيد العنف المسلح ضد الدولة، ويفتي بجواز العمليات المسلحة ضد «الدولة». بينما هو هو نفس الكلام الذي كان معناه على النقيض تماماً في مطلع الألفية: لا يجوز العنف المسلح إلا عن طريق الدولة، وهو ما يستتبع ضمناً أنه لا يجوز ضدها كذلك.

هل أخطأ الشيخ في استخدام نفس المصطلحات القديمة مرتين، دون اعتبار للمتغيرات؟ نعم بالطبع. لكن كل منصفٍ يعرف ما أراد الشيخ أن يقول بحديثه، وما لم يُرد. وكذلك كل من كان قريباً من دوائر الإسلاميين يعرف مدى انفصال الشيخ عن الواقع المحيط به، وتأثره بمن حوله بخاصة في سنواته الأخيرة. وربما قد ظن الشيخ بالفعل أن «الجماعة» -جماعة الإخوان- التي انتمى إليها يوماً ما، صارت الآن بموجب الانتخابات تعبر عن شرعية «الجماعة» – جماعة المسلمين – التي عناها بحديثه، أي الأمة، أو المجتمع، أو الدولة، سواء أياً من هذه المصطلحات شئت أن تختار.

ولعل الشيخ القرضاوي، رحمة الله عليه، ظن لوهلة – أو هكذا صُوِّر له الموقف – أن بإمكان الإخوان الحفاظ على هذه الشرعية – كما وهِم كثيرون غيره في تلك اللحظة الضبابية. لكن ما أنا على يقين منه هو أن الشيخ، رحمه الله، لم يدرك تحولات المرحلة، ولم يكن على اتصال كامل بدقائق الأحداث حتى ينتبه إلى أنه قد صار الآن متهما بمناقضة نفسه، لمجرد أنه كرر نفس كلامه مرتين. فقد تحول «معنى» القرضاوي ومعه معنى خطابه، بتحول الظرف السياسي المحيط.