في فيلم رسائل البحر 2010 للمخرج داود عبد السيد، كان قابيل على وشك إجراء عملية جراحية بالمخ سيفقد على إثرها ذاكرته، الأمر الذي يضطره إلى تحفيظ حبيبته (بيسه) أسماء أهم أصدقائه وأقاربه لتكون (بيسه) هي ذاكرته البديلة بعد العملية، فيحتفظ بنفحة من حياته القديمة ولا يتحول إلى شخص جديد بالكامل. يؤكد الفيلم في أحد مستوياته على الذاكرة وأهميتها كطوق نجاة لتجاوز عاهة كالثأثأة، حتى وإن كانت هذه الذاكرة مثقلة بخطيئة كالتي ارتكبها قابيل. يحيى لا يريد أن يبيع بيت العائلة لأنه يمثل له ذكريات وليس مجرد مكان.

 فكرة الذاكرة البديلة هذه هي التي دفعت الكاتب والشاعر السكندري الميلاد والنشأة علاء خالد لكتابة كتاب «وجوه سكندرية» الصادر عن دار الشروق بعد الفيلم بعامين. أراد بذلك الكتاب كما يقول في مقدمته أن يكون الذاكرة البديلة لمدينته المهددة بفعل النسيان.

هذا التماس بين أبطال داود عبد السيد وعلاء خالد، هو ما دفعه بالأساس لكتابة كتابه الأخير «داود عبد السيد..سينما الهموم الشخصية» الصادر عن دار المرايا للثقافة والفنون، هناك اشتباك ما بين شخصيات عبدالسيد وتجربة علاء خالد، هذا الهم الشخصي المشترك ربما يرجع لارتباط الاثنين بالثمانينيات والتسعينيات، عقدي التحولات العاصفة التي تشكل أرضية مشتركة انطلقًا منها الاثنين في تجربتهما الإبداعية.

هذا التداخل بين الشخصيات السينمائية أو الأدبية والمتلقي الذي ربما يكون المعادل الواقعي لها كما في حالة علاء خالد، يحدث نوعًا ما من التماهي، كأن الاثنين داخل ذات واحدة، هذا التماهي هو ما يضمن للعمل بقاءه وإعادة قراءته عبر الزمن، كما يتيح للمتلقي وسيلة لقراءة الذات على نحو أعمق.

جدلية القاهرة والإسكندرية

في رسائل البحر يؤسس داود عبد السيد منذ المشهد الأول لأزمة بطله، بعد وفاة والدته يخبر (يحيى) أخاه أنه سيغادر القاهرة للإسكندرية لأن العالم أصبح صغيرًا عليه موضحًا لأخيه «عمري ما كان عندي حياة خاصة» إيحاء بفقدان الذات في عالم ضيق وإشارة إلى رحلة لعالم أكثر رحابة وحرية، إلى مدينة طفولته حيث يمكنه خوض التجارب وصنع حياته الخاصة.          

تستمد الإسكندرية حضورها في رسائل البحر من ذلك الوجه الكوزموبوليتاني حيث تعدد الهويات والثقافات، فتحضر كمجاز للحرية وأرض للتجربة، كملاذ يوتوبي من زحام القاهرة الذي أفقد يحيى فردانيته.

هذه الرحلة سواء أتت بمعناها الحرفي أو المجازي تشكل رابطًا مهمًا بين أبطال داود عبد السيد، بخوضهم لها يكتشفون عوالم جديدة داخل ذواتهم ويصبحون أكثر اتساقًا معها، كأنهم في بحث عن حلقة مفقودة داخلهم لا يعرفون كنهها. نرجس في أرض الأحلام أضاعت حياتها دون أن تمتلك أحلامًا كصديقاتها، نزع الرتم السريع لحياتها كزوجة وأم خصوصية تجربتها، كان لا بد لها من هذه الرحلة المضنية في بحثها عن جواز السفر، كأن هذه الرحلة هي بحث عن ذاتها المفقودة، قرار السفر حتى لم يكن بالأساس بمحض إرادتها. 

فاتن حمامة ويحيى الفخراني من فيلم أرض الأحلام
فاتن حمامة ويحيى الفخراني من فيلم أرض الأحلام

تجربة يحيى أيضًا في الإسكندرية، ردمت تلك الهوة بينه وبين صوته الداخلي فأصبح أكثر قدرة على التعبير عن ذاته، في مدينة تمنح أبناءها تجربة كالتي خاضها يحيى مع (نورا) فهدأ مع الوقت تلعثمه وأصبح أكثر حرية وطلاقة في التعبير عن نفسه معها. على عكس رحلة (يحيى أبو دبورة) مثلاً في أرض الخوف الذي يسقط للعالم السفلي بهوية جديدة تفصله عن ذاته الحقيقية، تأتي تجربة (يحيى) في رسائل البحر كمحاولة لاستعادة الفردوس المديني المفقود.

تتشابك تجربة أبطال عبد السيد مع علاء في بحثهم عن تلك الحلقة المفقودة، في بواكير حياته  قرر علاء العمل في الصحافة بالقاهرة، وقتها لم يشعر بالاغتراب تجاه المدينة فقط، بل رأى أن كتابته تفتقد ذلك الصدق والهم الشخصي، فقرر العودة للإسكندرية التي فتحت له آفاقًا جديدة في الكتابة حين بدأ يستكشف المدينة من جديد.

تحضر جدلية القاهرة والإسكندرية في نصوص علاء خالد كتوثيق لبداياته الأولى ككاتب، حتى قبل أن يحترف الكتابة كانت تؤرقه فكرة أن هناك أفكارًا تخرج من القاهرة كمركز بينما يبني عزلته داخل الإسكندرية، إلى أن احترف الكتابة فجعل من نفسه وصخبها مركزًا لا يهدأ، لقد صنع قاهرته داخل الإسكندرية على حد تعبيره. القاهرة بالنسبة له قد حققت معنى المدينة في زحامها لدرجة يفقد معها المرء ذاته.

مدينة المتن، والهامش أيضًا 

ينتمي داود عبد السيد للجيل الذي تفتح وعيه على نكسة مدوية ومرحلة انفتاح سحقت أبناء الطبقة الوسطى، هذا الجرح الغائر أثر في الوعي الجمعي لهذا الجيل من السينمائيين أمثال محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة ورأفت الميهي، وشكل تيارًا أطلق عليه الناقد سمير فريد لقب الواقعية الجديدة. اهتم ذلك الجيل باغتراب المواطن والمهمشين وسط تحولات المدينة التي لفظتهم خارج براح المركز وأبقت عليهم داخل الهامش وضيقه. تحضر المدينة في موجة الواقعية الجديدة التي ينتمي لها داود كشاهد على التحولات الاجتماعية التي طالت المدينة وأبناءها.

بخلاف «رسائل البحر» الذي تستمد فيه الإسكندرية حضورها من عصرها الذهبي بوجهها الكوزموبوليتاني، كان «الصعاليك» 1985 وهو الفيلم الأول لداود عبد السيد يمثل الوجه الاَخر للمدينة، هنا تتراجع الإسكندرية كمجاز للحرية والتجربة وتبقى معادلة المهمشين والمدينة في الصدارة. الميناء والذي بدوره جزء من المدينة يمثل خلفية لوقائع الفيلم التي تدور حول صداقة صعلوكين يصعدان في السلم الاجتماعي وقت الانفتاح. لا يعطي عبد السيد مساحة داخل السرد تحتمل ظهور صراع بين أبطال العمل وذواتهم، ربما يمكننا القول إن صلاح ومرسي في الصعاليك هما الأكثر اتساقًا وتصالحًا مع النفس بين أبطال عبد السيد، رغم الشعور بوطأة الموقع الطبقي الجديد على حريتهم لكن تتراجع فكرة المدينة كرمز أو مجاز ويتم تهميشها لصالح الصعود الطبقي السهل للصعلوكين، دون تحميل السرد طبقات أعمق للتأويل.

نور الشريف ومحمود عبد العزيز من فيلم الصعاليك
نور الشريف ومحمود عبد العزيز من فيلم الصعاليك

هذا الوجه الهامشي للإسكندرية الذي صوره عبد السيد في «الصعاليك»، يسيطر على علاء خالد في «وجوه سكندرية» كهاجس يوجد له أكثر من مناسبة للحديث، فيقول مثلاً أن صور إسكندرية النصف الأول من القرن العشرين في الكروت بوستال لم يتم الالتفات فيها إلى الأماكن الشعبية التي يقطن بها المصريون بل كان التوثيق يعتمد أكثر على العنصر الأجنبي للمدينة، يصف علاء الحنين إلى الإسكندرية التي في الصور  بـ«حنين مستعار من شخص آخر»، هذه الصور خادعة لأنها لا تعيد الإمساك بالماضي المفقود، الحنين هو حنين شبحي مثلما كان الوجود أيضًا شبحيًا، بحسب تعبيره.

يحكي علاء عن وسط البلد حيث كانت تغلب الروح الأجنبية على كل شيء بحيث لا يجد العنصر الشعبي متنفسًا للتعبير عن نفسه، لذلك عندما دار التاريخ دورته ورحل الأجانب أخذ وسط البلد يتلون بالطابع الشعبي الاستهلاكي عندما نزح إليه الباعة الجائلون ببضائعهم الرخيصة انتقامًا من سنوات التهميش، وذلك المركز الذي لفظهم خارجه ولم يضمهم في كنفه.

يحاول علاء خالد في نصوصه أن يجد روح المدينة داخل فردانية السكندري العادي، يستخلص الرمزية من تفاصيل شديدة العادية، فهو لا يكتب عن إسكندرية كفافيس أو لورانس داريل، بل يبحث عن إسكندريته الخاصة وسط ذلك الهامش، محاولاً أن يوجد له حضورًا حرمه منه التاريخ منذ بدأ التوثيق للمدينة عبر الوسيط الثقافي. ينسج خالد حول هذا الهامش في كتابته عن الأماكن والأشخاص خيوطًا درامية تكسبه إيحاءات ودلالات جديدة. 

الفردوس المفقود 

في كل الأوقات المدینة الحقیقیة هاربة وغیر ملموسة. هناك بحث عنها، ورغبة في استعادة، تمامًا مثل الفردوس المفقود. كل الأسئلة التي تدور حول المدینة، تنتهي بفكرة استعادة صورة المدينة القديمة. لذا فكرة الاستعادة هي الأقوى في تاريخ المدينة، كأن من یعیش الآن هو شبح المدینة ولیس المدينة نفسها.
كتاب وجوه سكندرية

يصرح يحيى في البداية بأن الذي حدث كان بفعل التحول الاجتماعي لمدينة “لسه فيها ريحة زمان”. يسعى يحيى حثيثًا محاولاً أن يتصل بذاكرة الماضي، الماضي الشخصي له متمثلًا في فترة طفولته الذي يتماس مع ماضي المدينة قبل أن يصيبها التحول الاجتماعي ويفرز نموذج مثل الحاج هاشم يريد أن يستولي على البيت القديم ليبني مكانه مولاً تجاريًا. رحيل كارلا ووالدتها أيضًا يذعن بانتهاء عصر وبداية عصر جديد لا يسمح بالتعدد. هذا الحنين المتولد بفعل التحولات والعجز عن مسايرتها هو معضلة يحيى الحقيقية التي تكمن وراء التلعثم، حنين لمدينته التي استوحشت بفعل الحداثة وتحولاتها. 

في وجوه سكندرية يتسلل ذلك التيه والحنين أيضًا إلى علاء خالد، الذي يشعر بأن حقبة التسعينيات تشكل فجوة زمنية بين عصرين، انبثقت من الإسكندرية مدينة أخرى بالأحرى، لكن لم يأخذ ذلك الحنين صورة تلعثم، بل تخلص منه علاء خالد بكتابته عن مدينته الخاصة كما يعرفها، بلغة شعرية ربما استمدها من نفس الأثر الذي تركته الإسكندرية على روح يحيى.

إذا كان ما يجمع علاء خالد بقابيل في رسائل البحر هو صنع ذاكرة بديلة فإن الذي يجمعه مع يحيى هو رحلة التيه داخل المدينة. طابع الحنين الذي يضفيه علاء خالد في كتابته عن الإسكندرية لا يجعله فقط يشترك مع يحيى في اعتزازه بالذاكرة ولكن أيضًا في التجربة التي تتماس فيها تحولات الفرد مع تحولات المدينة، علاء ويحيى هما نموذجان مأزومان في بحثهما الدؤوب عن منفذ لتجاوز هذه التحولات. 

هذه التحولات التي يصفها علاء خالد بأنها عبرت وراء عيونهم كجيل جديد، جعلت المدينة مطاردة دائمًا بالشعور بالفقد، وجعلت ذلك الجيل الذي تعرف على فردوس المدينة في الأدب مطارد بحنين جارف نحو هذا الفردوس المفقود. 

نسير فقط لنغير المشهد

البحث عن روح أخرى للمدينة، والتململ من مشهد ثقافي راكد في الثمانينيات والتسعينيات، يمثل لعلاء الدافع الأساسي للسير في مسارات المدينة، كان علاء ينتمي لجيل يود أن يكمل حياته بالمدينة التي نشأ فيها، كان يخشى مصير الأجيال السابقة التي تحققت ككتاب وفنانين وأسرتهم أضواء القاهرة، أو بقوا في إسكندرية ولكن أخذتهم الوظيفة بعيدًا عن الفن والأدب أو أسرهم الحس الأمومي للإسكندرية بصمتها فبنوا عزلات شخصية، كان السير الذي شكل ذاكرة بصرية بديلة للإسكندرية التي تعرفوا عليها في الكتب والسينما، مهربًا من هذا المصير.

يقول علاء «كنا نسير فقط لنغير المشهد»، كان السير يحمل دائمًا الجديد بسبب التغير المستمر للسياق والمشهد، حتى كتابة الشعر اكتسبت بالسير تلك الحالة السردية عند علاء من خلال تعدد السياقات أثناء المشي.

في رحلتي الوحيدة للإسكندرية، بعد خروجي من سينما مترو رفقة صديق لي، كنا نتهيأ للعودة إلى منطقة أبي قير حيث نقيم، وقتها اقترحت على صديقي الذي كان قد أصابه الإرهاق ألا نتعجّل في العودة ونسير فقط هكذا دون وجهة محددة إلى حيث تذهب بنا أقدامنا، كنت أشعر أن بهذه التمشية في ظلام الليل والسكون الذي يخيم على المكان، سنكتشف وجهًا اَخر للمدينة لم تفصح عنه وسط الضجيج.

بالسير أيضًا الذي يحضر كعنصر أساسي في سينما داود عبدالسيد، خاض يحيى في «رسائل البحر» تجربة الجلوس في البار لأول مرة حيث نشأت صداقته مع قابيل، أحد مسارات المدينة أهدته مقطوعة موسيقية تتماهى مع مشاعره المختلطة، كأن المدينة كتاب مفتوح يقرأ فيه ذاته.

يتيح السير في مسارات المدينة هذه المساحة من التأمل والاكتشاف الجديد للذات في حياة ذات إيقاع لاهث وسريع، حتى صيد السمك فيها أصبح بالديناميت.