أن تكون ثائرًا على الأغنياء أمرٌ مفهوم إذا كنت فقيرًا، وأن تكون ناقمًا على الملكيّة أمرٌ حتمي إذا كنت من خارج العائلة المالكة، لأنك لن تحلم بالحكم أبدًا، أما أن تثور على الأغنياء وأنت منهم، وتنقم على الملكيّة وأنت أحد أبناء مؤسسها، فأنت صاحب مبدأ قوي، أنت طلال بن عبد العزيز. ثار شابًا، وأضرب عن الطعام كهلًا على مشارف التسعين. وضع دستورًا للمملكة فطُرد منها، خالفته ابنته المُفضلة فطردها. صُودرت أمواله وجواز سفره، وهو أبو الملياردير وليد بن طلال المُرحب به في أقطار العالم.

أميرٌ بلا إمارة، لم تُنزع منه عنوةً بل نزعها عن نفسه اختيارًا. فاشتراكية الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر أقرب لقلبه الفتي من ملكية والده وإخوته السبعة عشر الذين سبقوه في الميلاد، حتى صار مُلقبًا بالأمير الأحمر نسبةً إلى الاشتراكية. بزغت شمسُه العملية بالتزامن مع ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 إذ كان أول وزير للمواصلات في المملكة السعودية. ثم بعد عامين نائبًا لوزارة المالية ثم وزيرًا لها عام 1960، وأخيرًا سفيرًا لبلاده لدى فرنسا عام 1961.

إلا أنه بين هذه الانتقالات السلسة في سلم العائلة المالكة طرأ انتقال غيّر حياة طلال إلى الأبد. ثلاثة معسكرات، الأول فيه الملك سعود بن عبد العزيز ومشايخ القبائل، الثاني فيه الأمير فيصل بن عبد العزيز وعددٌ من الأمراء وكبار التجار، الثالث فيه طلال بن عبد العزيز ومعه خريجو الجامعات الأجنبيّة وعدد من موظفي الشركات المختلفة تحت اسم «الأمراء الأحرار».

اقرأ أيضًا: التاريخ المنسي لنضال العمال في أرامكو السعودية

كان طلال هو العدو المشترك الذي اتفق الطرفان على التخلص منه أولًا، فتحالفت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المحافظين من الأمراء مع جماعة فيصل بالتأكيد لدى الملك أن إجراءات طلال الإصلاحية تمثل خطرًا داهمًا على المملكة. حاول طلال أن يضع دستورًا للمملكة، وأن يحولها لملكيةٍ دستورية مُنتخبة، وكلَّف لذلك عددًا من الحقوقيين المصريين الذين وضعوا مسودة دستور بلغت 200 مادة. أعلنت عنه إذاعة مكة في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1960، ثم عادت بعد 3 أيام لتنفيه.


الإصلاح على مذبح التقاليد

تحول الأمر من ثلاثة مراكز متصارعة إلى مركزين فقط، غيبوبةٌ داهمت الملك سعود بن عبد العزيز دفعته إلى السفر للولايات المتحدة لتلقي العلاج، لكن بعد تولية الأمير فيصل وليًا للعهد. ثم في مارس/ آذار 1962 عُين فيصل رسميًا رئيسًا للحكومة ليتبقى فقط أمام هذا التفاهم المشترك عائق واحد، وهو طلال بن عبد العزيز ونزواته الإصلاحية. لذا في 15 أغسطس/ آب عام 1962 رأى طلال والذين معه أن عقول بقية العائلة المالكة أشد صلادةً من أن تحنو على بذرةٍ إصلاحية، فغادروا المملكة إلى لبنان.

في لبنان قال طلال إنه يريد تأسيس نظام دستوري ديموقراطي تحت مظلة الملكية السعودية، وذكر أنّه خامس خمسة من المؤيدين ومعه عبد المحسن بن عبد العزيز، وبدر بن عبد العزيز، وفواز بن عبد العزيز، وسعد بن فهد. لكن لبنان ضاق ذرعًا بالمتمردين خشية الشقاق بينه وبين المملكة، ففتح عبد الناصر أحضانه لهم. في مصر ارتفع سقف مطالبهم، خاصةً بعد غزو اليمن، فأعلنوا رغبتهم في الخروج من عباءة «الملكية الاستبدادية» كما وصفوها، وطالبوا بنظام برلماني ورفض تأجير قاعدة الظهران. كانت تلك المطالب أكبر من استعياب المواطن السعودي آنذاك فضلًا عن الأمراء، ففقدت الحركة ظهيرها الشعبي.

الخطر المُحدق بكل من يحاول أن يُغير العالم هو أن يتغيّر ليكون نسخةً رديئةً من العالم الذي أراد تغييره. كان الخطر المُحيط بطلال أكبر، فإغراءات المال والسلطة من جهة، وترهيب النفي والحياة كمغضوبٍ عليه من الجهة الأخرى، لكن والدته استطاعت أن تحصل له على صفقةٍ هى أكثر صفقة عادلة قد يحصل عليها متمردٌ من المملكة، الحياة الآمنة مقابل الفم المُغلق والتنازل عن ترتيبه في وراثة عرش أبيه.


عجزت عن تغيير العالم، فلا تتغير أنت

التزم طلال بالاتفاق، عمل في المجال المجتمعي وأمور التنمية والتعليم، عام 1980 قام بتأسيس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية من أجل دعم التنمية في الدول النامية. لم يهجر طلال مبادئه يومًا، إنما يبدو أنّه تمنى أن تُخرج له مشاريع تنشئة الأطفال ودعم التعليم والمدارس جيلًا جديدًا يكون ساعدًا فتيًا يحمل مشعل التجديد، ويزيل غبار الزمن من فوق قلب طلال العجوز.

16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، طلال مع موعدٍ لإعلان أن الرماد تحته نارٌ لم تنطفئ. أعلن استقالته من هيئة البيعة، جاهرًا بمبدئه من جديد بأن الملكيّات العربية يجب أن تتحول إلى ملكيات دستورية إذ لم تعد الملكيّات الحالية تواكب العصر، وتوقع أن تلقى تلك الممالك مصير الاتحاد السوفييتي يومًا. وفي 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2012 اتخذ خطًا معاكسًا لما تنتهجه المملكة مع جارتها قطر، عدوة المملكة ونموذج الدولة الناجحة عند طلال. ثم أعلن مرةً أخرى اعتراضًا ضمنيًا على التقلبات التي يشهدها القصر السعودي، وأهمهما كان تنصيب الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد،واصفًا إياها بالارتجالية.

والإعلان الأخير جاء في ديسمبر/ كانون الأول 2018 بوفاته، الأخبار التي تواترت عنه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 تقول بأن حالته الصحية تدهورت إثر إضرابه عن الطعام اعتراضًا على اعتقال ثلاثة من أبنائه، أحدهم الأمير الوليد بن طلال، رجل أعمال الذي يتصدر قائمة «فوريس» لأغنى رجال العالم. صرّح مقربون منه أنّه رفض التطرق إلى اعتقال أبنائه عندما زاره الملك سلمان في المستشفى كي لا يُنقذ أبناءه ويبقى آخرون رهن الاعتقال.


الملكية وراثة، أما الثورة فاحتمال

الملكية نقيض الثورة، فبينما تنتقل الملكيةُ حتمًا عبر الوراثة، فالثورة قد تفعل أو لا تفعل. فلا يمكن القول إن الوليد قد ورث من أبيه الرغبة في دستورية الحكم، لكن على الجانب الآخر لا يمكن النفي بذلك. فالوليد أمير مُشاكس، لا هو على الحياد ولا هو من المحسوبين على القصر. لكن المؤكد أنّه رجل أعمال يخشى على ممتلكاته، ويعرف كيف ينجو بها من تقلبات السياسة العاصفة. كذلك المؤكد أنّه بعد 11 ساعة فقط من كتابة أبيه لتدوينته التي وصف فيها ولاية ابن سلمان للعهد بالارتجالية، كتب الوليد يُبايع صراحةً.

لكن مبدأ الثورة يبدو جليًا في حياة ابنته سارة بنت طلال، الأميرة المُهاجرة تعيش في بريطانيا منذ 11 عامًا، وبعد سبع سنوات من إقامتها هنا تقدّمت بطلب لجوء سياسي عللته بتعرضها لمضايقات من داخل العائلة المالكة. سارة اشتُهرت إعلاميًا بمطالبتها المُتكررة بمحاسبة الفاسدين المستترين بمظلة آل سعود، سواء كانوا قضاةً شرعيين أو دبلوماسيين، أو عاملين في الديوان الملكي.

اقرأ أيضًا:السعودية والإمارات تفتحان النار على مسلمي الكونجرس

تكر وتفر سارة عند الحديث عن أبيها، فهو الفرع الثائر الذي استمدت منه روح الثورة وتعلّمت منه خلال فترة عمله في الـ «يونيسيف»، وهو كذلك الذي أراد سحقها حين ارتكبت ما لم تُسمه لكنها وصفته بأن أباها لم يستطع أن يغفره لها.


آخر الفرسان

لا يقدر أحدٌ على الجزم بأن طلال بن عبد العزيز سيكون آخر من يعارض القصر السعودي، لكن كان آخر من دفعوا ثمن ذلك حقًا. دائمًا ما يخشى المواطنون، فضلًا عن الأمراء، من ضريبة إعلان الرأي، فقد تكون حياتهم أو أموالهم. أما طلال فقد دفعها مُقدمًا لذا لم يعد هنالك ما يخشاه.

لقد حاول كثيرًا أن يختلف عن كل طلالٍ في العائلة، فالاسم شائعٌ في العائلة لكن معناه كأرض نديّةٍ طيبةٍ لم يكن متحققًا هكذا إلا في واحدٍ فقط. كذلك فإنه يتمايز عن معظم من أعلنوا تمرّدهم أو سيُعلنون، فالسياسة كالواقع كلاهما لا يعرف دوام الحال، إنه أعلن ذلك لمبدأ يُؤمن به. لم يكن طمعًا في تدبير انقلاب قصر، أو في اقتناص ولاية العهد لأحد أبنائه. هذا ما جعله ندًّا صعبًا طوال حياته، وهو أيضًا ما جعل قبوله بالأمر الواقع في النهاية هزيمةً لفكرة التغيير أكثر منها هزيمةً لشخص طلال بن عبد العزيز.