كنت أتابع الرسالة الإعلامية الموجهة أثناء زيارة للقيادة السياسية للولايات المتحدة، مما جعل جميع القنوات تقدم المحتوى نفسه بدرجة تزيد أو تنقص، أليست الرسالة موجهة! وفي غمرة شعور طاغ بالملل والغثيان، خلال برنامج حواري يبث من العاصمة واشنطن، ترآى لي من حسبت أنني رأيته من قبل، ثم تيقنت أنه هو، وتذكرت ما كان منذ عقد من الزمان، وقتما قابلته وتحاورت معه. فلقد أثار في أخريات عام 2006 ضجة هائلة بسبب انتقاده لسياسة بلاده الولايات المتحدة في العراق، ووصفه لها بالغطرسة والغباء. ولذلك حرصت أشد الحرص أن ألتقي به، عندما كان مدير مكتب الدبلوماسية العامة للشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية، وذلك في العام الذي أمضيته في واشنطن، كزميل لهيئة فولبرايت والجمعية الأمريكية للعلوم السياسية، وقد أجريت معه حوارا، دونته كلمة كلمة، في الثامن عشر من يناير/كانون الثاني 2007.

وبعد ذلك، حينما كان يشغل وظيفة القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم، هاجمته صحيفة الانتباهة السودانية وفتحت النار عليه، في ديسمبر/كانون الأول 2007. وكان ذلك إثر محاضرة عامة، ألقاها في التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه بأحد المراكز البحثية في الخرطوم. ولم تكن تلك المرة الأخيرة التي نجح فيها في إثارة ردود فعل غاضبة في السودان، فقد استدعته بعيد ذلك وزارة الخارجية السودانية، وأبلغته رفضها لتصريحاته حول محادثات السلام بشأن دارفور، وأكدت له أن تصريحاته تشكل تدخلاً سافراً في الشئون الداخلية للسودان. إنه السيد ألبرتو فرنانديز، أو كما أحب أن أطلق عليه اللورد المنفي!

ويضع كل ما سلف علامات استفهام عديدة على تلك الشخصية المثيرة للجدل والمشاكل، ويجعل من اللازم فتح ملف السيد ألبرتو فرنانديز. ولعله يجدر البدء بالتذكير بالمقال القديم الذي نشر في صحيفة الانتباهة السودانية، في أخريات عام 2007. فمنذ البداية لم يستبشر كاتب المقال، الأستاذ الطيب مصطفى، بتعيين فرنانديز كقائم بالأعمال في الخرطوم، فما أكثر ما كان يراه على قناة الجزيرة يمثل السياسة الخارجية الأمريكية في العراق ويدافع عن مساوئها ومخازيها. لذا كان مقدمه للخرطوم، من وجهة نظر الطيب، نذير عهد جديد من القهر والطغيان وانهيار القيم. وقد استشاط الطيب غضبًا من المفارقة بين ما كان يروج له فرنانديز من أن السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا ترتكز على الشراكة لا الوصاية من جهة، وبين ما صرح به عن خطورة الفجوة بين المهمشين الفقراء والنخبة الغنية في السودان، وعما يتعرض له سكان دارفور من مذابح وجرائم على يد قوات مدعومة من الحكومة المركزية، من جهة أخرى.

وأكد الطيب مصطفى على عامليْن غاية في الأهمية، أولهما أن ذات الفوارق الطبقية الإثنية التي أشار إليها فرنانديز موجودة بين حي هارلم الفقير الذي يسكنه ذوو الأصول الأفريقية وبين حي مانهاتن الأنيق الذي يسكنه الأثرياء الأنجلو-سكسونيون في مدينة نيويورك. وبالتالي، ليس هناك منطق من الناحية الموضوعية في إشارة السيد فرنانديز إلى الفوارق الطبقية أو الإثنية في السودان لأنها موجودة في أكبر مدن بلاده. ثانيهما أن تباكي الأمريكيين على ما يحدث في دارفور، بينما كان يتوالى الكشف وقتذاك عن جرائم الولايات المتحدة في جوانتانامو وفى أبي غريب يفقد السيد فرنانديز المكانة الأدبية والحق الأخلاقي في توجيه أي نقد قيمي لما يحدث في دارفور. ولذا خلص الطيب إلى أن تعامى السيد فرنانديز عن الحقائق الموضوعية والسجل الأخلاقي لبلاده، واستمراره في توجيه انتقادات لحكومة السودان بأسلوب يفتقر للياقة، يخرجه عن آداب وقواعد مهنته الدبلوماسية. وقد طالب حكومة الخرطوم آنذاك بعدم الاكتفاء باستدعائه إلى وزارة الخارجية كما حدث، بل بضرورة طرده من البلاد بعد أن يلقى ما يستحقه من اللوم والتأنيب.

أما عن لقائي بالسيد فرنانديز أثناء وجودي في واشنطن، عندما كان مدير مكتب الدبلوماسية العامة للشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية، فسوف أطلع القارئ الكريم على بعض جوانبه، وما خرجت به من انطباع شخصي عن الرجل، كمقدمة لملف ألبرتو فرنانديز الذي سنعرض له فيما يتيسر من مقالات. وكنت قد سمعت عنه للمرة الأولى في حياتي بسبب انتقاده لسياسة الولايات المتحدة في العراق، قبل أسابيع من لقائي معه، إذ ثارت ضجة في الإعلام الأمريكي وقتذاك حول صحة ما نسب إليه بالفعل، أو أنه حدث خطأ في ترجمة كلماته للعربية. وكان الرد على ذلك هو أن السيد فيرنانديز يجيد العربية، وكان ضيفا في برنامج حواري، تحدث فيه بالعربية، ووصف سياسة الولايات المتحدة في العراق بالغطرسة والغباء بلسان عربي مبين.

نزل السيد ألبرتو فرنانديز للطابق الأرضي من وزارة الخارجية بعد إبلاغي لموظف الاستقبال بوصولي وفقا للموعد المحدد، ولم تكن تلك مكرمة لي، بل ضرورة يقتضيها عبوري للبوابات الإلكترونية التي تشبه بوابات المترو في القاهرة. وما أذكره من هذا الاستقبال أن الرجل صافحني (وليس ذلك من عادة هؤلاء القوم)، وتحدث معي بالعربية بعبارات المجاملة المعتادة في ذلك الموقف، بل بدا راغبًا في التعرف على شخصي المتواضع. ولا يعدو كل ذلك أن يكون جزءا من عمل السيد فرنانديز الاعتيادي كدبلوماسي محترف معين من أجل تقديم استفسارات للجمهور عن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تلك المنطقة من العالم التي ننتمي إليها. على أن فرنانديز أفهمني بلباقة شديدة عندما دخلت مكتبه الصغير أن حديثنا سوف يكون باللغة الإنجليزية، ولم يكن ذلك بمستغرب على الإطلاق، فالرجل كدبلوماسي محترف يرغب في انتقاء كلماته والإمساك بزمام الحديث، وهو ما لا يستطيعه مهما كان إتقانه للعربية.

وقد لاحظت أثناء وجودي بالمكتب أن هناك جهاز تليفزيون يعرض إرسال قناة الجزيرة بشكل دائم، فضلاً عن وجود مجموعة من الكتب العربية، وكذلك نسخة من القرآن الكريم. على أن أكثر ما لفت نظري عندما انشغل السيد فرنانديز بمكالمة تليفونية، تحدث فيها بالعربية، هو لوحة معلقة على يساره مكتوب عليها الأبيات الثلاثة الشهيرة لابن عربي:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة :: مرعى غزلان ودير رهبان ومبنى أوثان وكعبة طائف :: وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت :: ركائبه فالحب ديني وإيماني

لقد دار الحديث بيني وبين السيد فرنانديز حول العراق بناء على رغبتي، وقد كانت أحداث العراق وما تبع الغزو الأمريكي له من كوارث وأعداد القتلى من الجنود الأمريكيين بالطبع، مازالت تتصدر صفحات الجرائد. وبدأ الحديث باستعراض السيد فرنانديز لخبرته ومعرفته بالعالم العربي، حيث كان دائما موجودا في قلب الحدث، إذ كان يعمل في عام 1990 بالسفارة الأمريكية في الكويت. وأخذ يشرح بإسهاب تاريخ العلاقة مع صدام حسين، وكيف أنه الديكتاتور العربي التقليدي الذي يبوء باحتقار الأمريكيين، ولكنهم كانوا يرغبون في استخدامه لأغراضهم من خلال تحويله إلى نموذج الأسد (الرئيس السوري السابق حافظ الأسد)، أي الطاغية الذي يمكن التعامل وعقد الصفقات معه. وبكلمة واحدة، كان صدام مجرد أداة للأمريكيين ولم يكن أبدا حليفا لهم. وقد انتقل الحديث إلى فضيحة سجن أبي غريب، فذكر السيد فرنانديز أن ما حدث لا يمثل سياسة للولايات المتحدة، وإنما مجرد جريمة ارتكبتها حفنة من الجنود قدموا للمحاكمة، فضلا على أن الجنرال ريكاردو سانشيز قائد القوات في العراق آنذاك أحيل للتقاعد ولم يمنح وساما.

وقد حمل السيد فرنانديز على ما أسماه الخطاب العربي المفلس، الذي ينتقد الولايات المتحدة في العلن ويتسول صداقتها سرا، وأعطى مثالا على ذلك بالسيد وليد جنبلاط، الذي دائما ما يصطدم به في أروقة وزارة الخارجية الأمريكية أثناء انتظاره (أي جنبلاط) للقاء المسئولين الأمريكيين. ومن ثم ليس من حق الأنظمة العربية السلطوية، التي تعذب شعوبها وتمارس القمع عليهم، أن تنتقد انتهاكات حقوق الإنسان في العراق. وقد كانت الحكومة العراقية السابقة (في عهد صدام حسين) ترتكب جرائم إبادة الجنس البشري على نطاق واسع وبشكل ممنهج، ولا تختلف سجون الحكومات العربية الحالية عن سجن أبي غريب بالعراق. ليس هناك إذن أي تكافؤ على المستوى الأخلاقي أو المعنوي بين ما وقع في أبي غريب والممارسات اليومية للحكومات العربية القائمة، رغم أن ثقافة السلطة -على حد وصفه- تروج بين الدهماء لوجود مثل هذا التكافؤ.

ويضع السيد فرنانديز المشهد العراقي في إطار قانون عام للحركة التاريخية، يطلق عليه قانون النتائج غير المقصودة للأفعال (law of unintended consequences)، وللحق كانت تلك أول مرة أسمع فيها هذا المصطلح، فالتقطته أذني ودونته جيدا، ولا يختلف هذا القانون عما تسميه فرقة المعتزلة بمبدأ التولد. وأوضح فيرنانديز أن ما عناه على وجه التحديد عندما نعت السياسة الأمريكية في العراق بأنها مزيج من الجهل والغطرسة هو سياسات بول بريمر (وهو سفير بالخارجية الأمريكية وترأس سلطة التحالف في العراق بعد جاي جارنر، أول رئيس لها) وإجراءات سلطة التحالف المؤقتة واستخدام العنف على نطاق واسع من قبل القوات الأمريكية.

وعند سؤالي للسيد فرنانديز عن استفادة الإدارة الأمريكية من الخبرة الكولونيالية البريطانية في المنطقة، خاصة أن المملكة المتحدة كانت الحليف الرئيسي في الحرب على العراق، رد بأنه حتى المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية من الأمريكيين قد استبعدوا تماما من عملية التخطيط للغزو وإدارة العراق بعد احتلاله. ففي سياق التنافس بين وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين صارت لوزارة الدفاع اليد العليا في إدارة مشروع العراق، وتمت إزاحة فريق وزارة الخارجية من الصورة. وكان استجلاب بريمر وأناس آخرين على رأس سلطة التحالف المؤقتة عن عمد، لأنهم بالتحديد لا يعرفون شيئا عن العراق، ومن ثم سيصبحون أدوات طيعة لتنفيذ خطط فريق المحافظين الجدد، الذي كان مهيمنا على وزارة الدفاع، في ذلك الوقت، من أمثال ولفوفيتز وريتشارد بيرل ودوجلاس فايث. ومن هنا أبدى السيد فرنانديز -لدهشتي الشديدة- سرورًا كبيرًا، عندما استفسرت منه عما ذكره الرئيس الأمريكي (في حديث لإحدى محطات التليفزيون الأمريكي قبل لقائي بفرنانديز) أنه بناء على نصيحة هنري كيسنجر، بدأ في قراءة أحد الكتب عن حرب الجزائر. وقد علق السيد فرنانديز على ذلك بأنه أمر قيم للغاية بالنسبة للأمريكيين، لأن الفرنسيين لم يخسروا المعركة قط من الناحية العسكرية، وإنما خسروها معنويًا وأدبيًا.

لا أعلم لماذا شعرت بعدم الارتياح، رغم مصاحبة السيد فرنانديز لي إلى الطابق السفلى في طريق خروجي من مبنى وزارة الخارجية، وعودته إلى التحدث معي بالعربية بصورة لا تخلو من ود ومجاملة، ولا أعلم لماذا تذكرت بعد خروجي من مبنى الوزارة العملاق (الذي صار بابًا عالياً يمسح في عتباته أبناء وطننا عوارضهم) ذكريات مالك بن نبي عن الإدارة الكولونيالية في الجزائر. ولكنني الآن أعلم يقينًا أني شعرت حينئذ بضآلة وعجز شديدين؛ كما لو كنت في مواجهة أحد موظفي تلك الإدارة الكولونيالية. ومن هنا فإن فتح ملف السيد ألبرتو فرنانديز يستلزم إزاحة غبار (الدبلوماسي) عن صورته، ووضعها في إطار الديالكتيك النفسي للكولونيالية المنفية، وفي تفصيل هذا الحديث بقية بإذن الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.