بعد ثلاثة أسابيع متواصلة من الاحتجاج المتصاعد، وفشل محاولات النظام الجزائريّ محاصرته وإفشاله، استجاب أخيرًا الرئيس الجزائريّ عبدالعزيز بوتفليقة (أو من يحكمون باسمه) لمطلب الحراك الرئيسيّ، وذلك بإعلانه عدم الترشّح للعهدة الخامسة، لكنّ إعلانه ذاك جاء جنبًا إلى جنب مع قرار تأجيل الانتخابات، إلى أجلٍ غير مسمّى، تمّتفسيره بعد ذلك بـ«قبل نهاية العام».

يقفُ الجزائريون ومتابعو الشأن الجزائريّ في حيرةٍ أمام «نصف الانتصار» الذي حازه الحراك، فمن قائلٍ قد حقّق هدفه، ومن قائلٍ هي محاولة التفاف، بينما حربٌ مستعرةٌ تدورُ بين مراكز قوى النظام الجزائريّ في الخفاء.


الحراك: الانطلاقة المفاجئة

منذ بدايته، كان الحراكُ المناهضُ لترشّح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسةٍ مفاجئًا جدًّا، في حجمه أوّلًا، إذ كانت استجابة الشعب فوق المتوقّع، وفي ردّ فعل السلطة ثانيًا، فالنظام البوليسيّ الذي يمنع التظاهرات منذ عقدين وقمع بالحديد والنار تظاهرات 2011 في أجواء أكثر مناسبةً للفعل الثوريّ، سمح – بصورة مريبة- بالتظاهر السلميّ، وهو وإن كان قد قمع محاولات الزحف نحو القصر الجمهوريّ، فإنه تجاوز عمّا دون ذلك، وهذا يعني أنّ المتحكمين بالدولة الجزائريّة لم يكونوا بالجديّة المعتادة في قمع حراكٍ يهدد رأس النظام.

قيادة الجيش الجزائريّ أخذت موقفًا ملتبسًا، فمن جهةٍ أعلنت شبه انحياز للرئيس بوتفليقة، و تحذيرًا من الحراك بوصفه عودةً نحو سنوات الدم، ومن جهةٍ أخرى غازلت الشّعب و عدّت الجيشَ الوطنيّ «محظوظًا بشعبه»، في محاولةٍ للتوازن، أو إمساك العصا من الوسط، مما يُعطي فكرةً عن كون الحراك مدعومًا من أطرافٍ يراعيها الجيشُ رغم ميله لبوتفليقة.

فمن الأطرافُ داخل النظام الجزائريّ، التي يخدمُها تصاعد الاحتجاجات ضدّ بوتفليقة، ويُشتبه بكونها محرّكةً له من الأساس، وسببًا في عدم قمعه كما يُتوقع من نظامٍ شديد الصرامة، وتفسيرًا لذلك التوازن الغريب؟

اقرأ أيضًا: الديوان الأسود: سؤال السياسي والعسكري في الجزائر


الصراع بين بوتفليقة والمخابرات

في ولاية بوتفليقة الثالثة رأت قيادة دائرة الأمن والاستعلام (المخابرات) أنّ طول مدّته في الرئاسة منحه نوعًا من السلطة الحقيقية، وخلق مراكز قوى جديدة لا تأتمرُ بأمرها، ودار حينذاك صراعٌ خفيّ داخل أجنحة الدولة، سرّبت خلاله المخابراتُ وثائق فساد تطال شقيق بوتفليقة ومقربين منه، ثمّ عارضت ترشّحه لولايةٍ رابعة، مما جعله يشنّ حملةً على قادتها بعد أن تمكّن من كرسيّ العهدة الجديدة مستفيدًا من خفوت سطوة المخابرات عبر سني حكم بوتفليقة الطويلة، بلغت حملة بوتفليقة ذروتها بمحاكمة الجنرال «عبد القادر آيت وعرابي» الشهير بالجنرال «حسان»، مما تسبب في إجبار «حاكم الجزائر الخفيّ لعقود» الجنرال محمّد مدين الشهير بـ«توفيق»، على الظهور الإعلاميّ الأول والأخير له، مدينًا تلك المحاكمة ببيانٍ أصدره بالفرنسية، بينما أحاله بوتفليقة إلى التقاعد أيضًا ظانًّا أنه قد وضع حدًّا لمن لُقّب بـ«ربّ الجزائر».

قبل سنةٍ كاملةٍ من الآن، على خلفية إضرابات نقابية ضدّ الرئيس بوتفليقة، تُمثّل إرهاصات لتظاهرات اليوم العارمة، والتي خرجت من رحم النقابات أيضًا،صرّح محامٍ، وضابطٌ جزائريٌّ سابق في جهاز المخابرات بقوله: «ابحثوا عن الجنرال»، ويقصد بذلك الجنرال محمد مدين المعروف باسم «توفيق»، حيثُ رأى أنّ «خبر اعتزال الفريق توفيق الحياة السياسية في الجزائر ليس صحيحًا، بل يُترجمه حضور قوي لجناح سري يسيره خلف الكواليس، وينشط بأوامر مباشرة منه». هذا الجناحُ يتمثّل في «التركة الكبيرة التي خلفها في عهدته من ضباط ساميين وسياسيين نافذين ورجال أعمال ونقابيين يعتبرون صناعة خالصة للجنرال توفيق».

على الجهة المقابلة سرّع فريق بوتفليقة وتيرة الحملة على الجنرالات من خلال فتح ملفات الفساد، فشهد الربع الأخير من السنة الماضية محاكمات لخمسة جنرالات دفعةً واحدة، بتهمة «الثراء غير المشروع والفساد المالي والعقاري واستغلال النفوذ، في سابقة داخل المؤسسة العسكرية». وبرأي كثيرين لم تكن تلك حربًا على الفساد بقدر ما كانت حربًا داخل النظام، فقد علّق برلمانيّ جزائريّ على ذلك بقوله: «إن حملة الإقالات التي شهدتها المؤسسة العسكرية تندرج ضمن مساعي تمهيد الطريق أمام الرئيس بوتفليقة لخلافة نفسه لعهدة رئاسية خامسة».


الوصول إلى الاحتجاجات الشعبية

أوائل شباط الماضي، قبل اندلاع الاحتجاجات بأقل من عشرين يومًا، نشر الكاتب عميرة أيسر مقالةً بعنوان: «حظوظ الجنرال توفيق في رئاسة الجزائر»، خلع فيها على الجنرال أعظم الألقاب والأوصاف، لعلّ أهمها «صانع الرؤساء والمُقرّر الرئيسي لاستراتيجيات الدولة وسياساتها الكبرى داخليًا وخارجيًا، والذي بقيَ في الظلًّ يعمل في الكواليس لسنواتٍ طويلة جدًا»، تحدّث فيه بلسان الجنرال، ونقل عنه أنّه «حسم قراره بأن يبقى كما عهدناه دائمًا في غياهب الكواليس يُدير اللعبة إلى حدّ بعيد، ويدعم مرشّحه الذي اختاره».

وبالنظر إلى تاريخ الكاتب، فإنّه يبدو شديد الولاء للقيادة العسكرية الجزائرية التاريخية، وخاصّة الجنرال توفيق، ومقتنعًا فخورًا بدورها في إدارة البلاد من خلف الكواليس، مخوّنًا المعارضة التقليديّة، والأهمّ، مؤيّدًا شرسًا للحراك الشعبيّ الحاليّ ضدّ بوتفليقة.

أما رأيه في الجنرال توفيق وفاعليّته في الساحة فيشاركُه فيه محللون كُثر، فهو «رغم تقاعده منذ عام 2015، فإن امتداداته داخل المؤسسة العسكرية وداخل ما يعرف بـالدولة العميقة (جهاز الاستخبارات المنحل) قائمة، فضلًا عن فئة المتقاعدين والمشطوبين المقدرة بنحو 300 ألف عسكري».

كل ذلك يجعلُ وجهة النظر القائلة بأن الاحتجاجات الحالية إن لم تكن من صنع «دولة توفيق العميقة»، فهي على الأقلّ شديدةُ الاستفادة منها، وأكبرُ من يُخشى خطره عليها، وكما يقول الكاتب فراس بن حزام: «ما لن يقبل المتظاهرون الجزائريون سماعه، أن الجيش أبرز المستفيدين من حراكهم ضد ولاية جديدة للرئيس، لأنه باب ستعود منه المؤسسة العسكرية إلى الإمساك بزمام الحكم مجددًا».

ويشير إلى أنه «على مدى أكثر من خمسة عقود أحكم الجيش قبضته على مقاليد الحكم، أنتج الرؤساء وأطاحهم ولم يبلغ القصر رئيس خارج طوعه. هذا العرف السياسي أصابه الوهن في ولاية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الحالية، إذ تعرّض الجيش لتدخلات مكّنت رجال الأعمال من السيطرة على قرار الرئاسة، وبدؤوا في طرد جنرالات السياسة، وإحلال جنرالات تحت القصر وليس فوقه».

اقرأ أيضًا: لهذه الأسباب لا نتوقع أن يتدخل الجيش لحسم أزمة الجزائر


الحراكُ فوق الدولة العميقة

وبقدر ما يُعدّ الحكم على الحراك الجزائريّ المُبهج والمُنعش لآمال ثوّار الربيع العربيّ قاسيًا بالتشكيك في افتعاله أو اختراقه من قبل الجنرالات، فإنّ ذلك لا يبدو عسيرًا على من اعترفوا بتشكيل جماعات مسلّحة من الصفر، من أجل اختراق «كتائب إسلامية متشددّة»، فالقدرة على اختراق حراكٍ شعبيّ أيسرُ بكثير من اختراق واحتواء تنظيمات عسكريّة.[1]

وبالرغم من شبهة الاختراق هذه، فإن الحراك جاء أعظم من أن يتحكّم به أحد، وحجمه الكبيرُ هو ضمانته الأهم في مواجهة التحكّم والاختراق، وبإمكان الشعب الجزائريّ إذا تيقّظ ووعى ما يُدار أن يقلب الطاولة بالكليّة على الفاسدين جميعًا، بمن فيهم الذين أمّلوا عودةً على ظهور الشباب الثائر.

إنّ مراكز قوى الدولة العميقة «لم تقم إلا بتأجيج وضع أكثر من ناضج لحصول احتجاجات بهذا الشكل. بعبارة أخرى، حتى وإنْ كانت بعض المجموعات من داخل النظام قد شجعت المظاهرات التي انطلقت يوم 22 شباط/ فبراير، فليست هي من هندسها.المواطنون هم من تكفّلوا بأنفسهم واختاروا شعاراتهم وأشكال التعبير الخاصة بهم».

وبناءً عليه فإنّه لا يُستهان بالتنازل الذي قدّمه بوتفليقة (أو جماعته)، من جهة أنه أعطى الشارع قوّة، فكان خطوةً إلى الأمام، إلا أنّه ترافق مع خطوةٍ إلى الخلف، بإعلان تأجيل الانتخابات، أي: تمديد ولاية بوتفليقة الحالية، مما يتيح للمتنازعين داخل النظام (وخارجه) أن يجدوا فرصتهم للترتيب والتقاسم والتصالح على أكل حقّ الشعب في تقرير مصيره.


الغطاء الكولونياليّ

ثمة مخاوف على الحراك أن يقطف الاستعمارُ ثمرته، بالتحالف مع جنرالات الظل، فكم هو مريبٌ تصدّر رمطان لعمامرة للمرحلة، ولعمامرة هو وزير الخارجية السابق، الذي استغنى عنه بوتفليقة منذ عامين بلا أسباب معلنة، ويُوصف من قبل بعض المعارضين الجزائريين برجل أمريكا وفرنسا، وقد سارع بمنح تصريحه الأول بعد تعيينه نائبًا لرئيس الحكومة، مؤخرًا، للإذاعة الفرنسية الرسمية.

ومثيرٌ أنّ صاحبَ المقالة التي تنقل عن توفيق قرار عدم الترشّح المباشر للرئاسة، ذكر أنّ الرئيس القادم للبلاد، «سيتم اختياره من طرف رجالات النظام، وكبار جنرالات المؤسّسة العسكرية، ولكن يجب أن يكون مقبولاً لدى الدول الكبرى التي لها مصالح استراتيجية وطاقوية تجب حمايتها هنا في الجزائر، وإلا فإنها ستلجأ إلى فرض عقوبات اقتصادية وعسكرية علينا». هكذا قال!

فمن المقصودُ غيرُ فرنسا وأمريكا، ومن الرئيسُ المنشود إن لم يكن رجلهما. ولعلّ في مباركة أمريكا وفرنسا الصريحة والسريعة، دلالةٌ على منحهما الغطاء لهذه الوجوه.


المآلات

لا شكّ أنه من المغامرة بمكان الجزمُ بنتائج الحراك الجزائريّ الحاليّ، مع ما سبق تبيانه من الغموض والخفاء الذي يكتنف طبيعة الحكم في الجزائر، غير أنّه يمكنُ التنبّؤ بترجيح كفّة «الدولة العميقة‌» بما تمثله من تحالف بين جنرالات المخابرات السابقين، وامتداداتهم داخل المجتمع النقابيّ ورجال الأعمال، وهزيمةٍ بدأت تحيق بمحيط بوتفليقة (شقيقه السعيد وشبكة المنتفعين)، فيما يحافظ الجيشُ على توازنه الظاهريّ بين جناح بوتفليقة الذي انحاز إليه وسمح بتمدده، وبين الجنرالات وحلفائهم الذين يبدو أنهم يصعدون من خلال الحراك.

وإذا نظرنا إلى القسوة البالغة التي اتّسم بها جنرالات المخابرات في التعامل مع خصومهم من شركاء السلطة (اتّهمهم نجل الرئيس الأسبق بوضياف بالوقوف خلف قتل والده على الهواء)[2]، فإنّه لا يُستبعد أن يغادر رموز جناح السعيد بوتفليقة وشركاه – في حال تحققت هزيمتهم- المشهد السياسيّ بالكليّة، ولا يَبعدُ أن يخرجوا تمامًا من الجزائر مؤثرين المنفى الآمن على المقام تحت التهديد.

أما الشعبُ الجزائريّ، فتبدو مهمّته عسيرةً في انتزاع حريّته من بين أنياب أساتذة الدهاء وخبراء الالتفاف والاختراق، لكنّه أثبت مرارًا أنه قادرٌ على المفاجأة وقلب الطاولة، ولعلّه يكون. وأما القوى الاستعماريّة، فستكون مصالحها بأحسن حال مستقبلًا، إذا لم يحدث الشعبُ الجزائريّ مفاجأة كبيرة، فعادةً يقدّم لها المتنازعون القرابين بحثًا عن الدعم والغطاء، وقد ظهرت بوادر ذلك بالتصريحات الفرنسية والأمريكية الإيجابية تجاه المتغيرات الجديدة.

وأخيرًا فإنّ الحراك الجزائريّ أيًّا ما كان مبتدؤه، وأيًّا من كان المستفيدُ المتربّص به، فإنّه قد تلقّى استجابةً شعبيّة حقيقيّة وقويّة وسلميّة، ذات ضخامة حشد تجعلها أكبر من أيّ احتواء، وهو فُرصةٌ حقيقيّة للجزائريين ليتلمّسوا طريقهم نحو دولة الديمقراطية والتعددية والحرية والعدالة الاجتماعية، والانعتاق الكامل من القوى الاستعمارية، مما يوجبُ على النخب الجزائرية الحُرّة أن تلتفّ حوله، وتدعم مطالبه وتطوّرها، وتأخذ حذرها الكامل من محاولات الاختراق والسرقة والاستغلال.


[1] كان من ضمن الاتهامات التي وجّهت إلى الجنرال حسان تأسيس جماعة متطرّفة مسلحة، وقد ورد الخبرُ دون تفصيل في عدد من وسائل الإعلام الجزائرية والدولية، لكن موقع الخبر الجزائري ذكر تفاصيل مثيرة: «حادثة تعود إلى سنة 2012، تقول إن قوات الجيش ألقت القبض على جماعة مسلحة في منطقة صحراوية، وعند التحقيق معها ذكر عناصرها أن الجنرال حسان هو من سلحهم. ثم رد المدافعون عن الجنرال من محاميه، أن تلك العملية لم تكن سوى محاولة لاختراق جماعة مسلحة وكانت تحت علم قائده المباشر الجنرال توفيق» ويكادُ يكون هذا الاعتراف الوحيد من طرف الجنرالات بتأسيس جماعة إسلامية متطرّفة لاختراق واحتواء التنظيمات الإسلامية المسلحة وتوجيهها، التهمة التي ظلّت المخابرات تنكرها سنوات خشية ربطها بمجازر التسعينيات.[2] كان ناصر نجل الرئيس بوضياف اتهم جنرالات أربعة بقتل والده، توفي منهما اثنان، وبقي على قيد الحياة اثنان: خالد نزار وزير الدفاع الأسبق المقيم بسويسرا حاليًا، والجنرال توفيق.