هل يُعقل أن يتم دفع بعض الجزائريين نحو المجهول من خلال نداءات مشبوهة ظاهرها التغني بالديمقراطية وباطنها جر هؤلاء المغرر بهم إلى مسالك غير آمنة، بل غير مؤمنة العواقب؟ بعض الأطراف الذين يزعجهم أن يروا الجزائر آمنة ومستقرة، يريدون أن يعودوا بها إلى سنوات الألم وسنوات الجمر

رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق «أحمد قايد صالح»، في تعليقينمنفصلين على الاحتجاجات الرافضة لترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة.منذ تخلص الجزائر من الاحتلال الفرنسي عام 1962، والمؤسسة العسكرية تتحكم في كرسي الرئاسة، من يصعد من ينزل، كلها أمور لم يتنازل جنرالات الجيش عن إدارتها طوال العقود الماضية. رغم ذلك، طمع الشعب الجزائري في أن تكون له كلمة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمزمع إجراؤها في 18 أبريل/ نيسان المقبل، فخرجوا زَرافاتٍ وَوُحْدانًا قائلين: «لا للعهدة الخامسة».لم يطلب الجزائريون الكثير. لم يريدوا سوى التخلص من الرئيس الحالي، عبدالعزيز بوتفليقة (82عامًا)، الذي يحكم البلاد منذ عام 1999، شبه الميت إكلينيكيًا منذ نحو 6 سنوات، جراء إصابته بجلطة دماغية منعته من الحركة، وجعلت ظهوره إلى العلن حدثًا جللًا. لم يطلب الشعب الجزائري سوى ألا يكون مسخرة بين الأمم بالسماح لرئيس قعيد لا يستطيع أن يقول كلمتين، بأن يصبح رئيسًا لفترة خامسة. وبالرغم من أهمية الحراك المناهض لترشح بوتفليقة واعتراف رئيس الوزراء «أحمد أويحيى»، برفض عدد كبير من الجزائريين الولاية الخامسة للرئيس، فإنَّ الكلمة الحاسمة في أمر الرئاسة تظل للجيش.


الجيش: صانع الرؤساء

سيطر الجيش على السلطة في الجزائر، بشكل مباشر وغير مباشر، منذ نحو 55 عامًا. فلم تكد ثورة التحرير تنتهي، حتى وجه العسكريون فوهات بنادقهم إلى رفاق الأمس من المدنيين. البداية كانت عام 1962، عندما قاد وزير الدفاع الجنرال هواري بومدين انقلابًا عسكريًا على الحكومة المؤقتة المنتخبة ديمقراطيًا، وعين حليفه أحمد بن بلة رئيسًا للبلاد.انتقل الجنرال بومدين إلى حكم البلاد بصورة شخصية عام 1965، بعدما عزل حليف الأمس ابن بلة فيما عُرف بحركة «التصحيح الثوري». خشي بومدين أن يلقى مصير سابقه على يد رفاق السلاح، فاحتفظ لنفسه بمنصب رئيس مجلس قيادة الثورة والحكومة ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة والاستخبارات. استمر بومدين رئيسًا حتى وفاته أواخر عام 1978، وخلفه وزير الدفاع الشاذلي بن جديد. ظل ابن جديد في منصبه 14 عامًا ثم أجبره قادة الجيش على الاستقالة عام 1992، بسبب نيته التعايش مع الإسلاميين لو شكلوا الأغلبية البرلمانية.مع بدأ حرب الجيش والإسلاميين، فيما سيعرف بعد ذلك بـ«العشرية السوداء»، استدعى الجيش محمد بوضياف، أحد أبرز وجوه ثورة التحرير الجزائرية، من منفاه في المغرب، ليتولى مسؤولية رئاسة البلاد، لكن سرعان ما اغتيل بوضياف على يد أحد حراسه في يونيو/ حزيران 1992، وخلفه الرئيس المؤقت علي كافي الذي تولى الرئاسة حتى عام 1994.عاد الجيش إلى الحكم بشكل مباشر عام 1994، بصعود وزير الدفاع اليامين زروال إلى سُدة الحكم، لكن سرعان ما دب الخلاف بين زروال وباقي قادة الجيش بسبب الرؤية الخاصة بالتعامل مع المعارضين الإسلاميين، فاضطر الرئيس إلى الدعوة لانتخابات مبكرة عام 1998. دعم الجيش ابن المؤسسة القديم عبدالعزيز بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 1999، مما دفع باقي المرشحين إلى الانسحاب احتجاجًا، وهكذا أصبح بوتفليقة رئيسًا للجزائر.استمر دعم أغلب قادة الجيش والمؤسسات الأمنية لوجود بوتفليقة في سدة الحكم خلال الاستحقاقات الانتخابية التي أجريت أعوام 2004 و2009 و2014، وما زال قادة المؤسسة العسكرية يريدون دعمه فترة رئاسية جديدة.

اقرأ أيضًا: الديوان الأسود: سؤال العسكري والسياسي في الجزائر


من يتحكم في الجيش الجزائري؟

مع بداية العشرية السوداء، بزغ نجمان في سماء المؤسسة العسكرية، هما: رئيس دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات الجزائرية)، محمد مدين المعروف باسم الجنرال توفيق، وقائد أركان الجيش، الفريق «محمد العماري».تحول جهاز المخابرات على يد الجنرال توفيق إلى جهاز لمكافحة الإرهاب، وتحت هذه الذريعة بسط مدين نفوذه في كافة المؤسسات العسكرية والمدنية، حتى وُصف بـ ـ«رب الجزائر»، أما العماري فكان أحد أشرس المعارضين للإسلاميين والمؤيدين لسحقهم، وقاد العمليات العسكرية ضدهم.مع صعود بوتفليقة إلى كرسي الحكم، عام 1999، سعى إلى تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية المتمدد في كل مكان، فاتخذ خطوات جادة باتجاه إنهاء حالة الطوارئ، وأصدر قانون «الوئام المدني»، ثم ميثاق «السلم والمصالحة الوطنية»، وهو ما رفضه بعض قادة الجيش وعلى رأسهم الفريق العماري.كانت الانتخابات الرئاسية عام 2004 ميدانًا للتصارع بين مدين والعماري، إذ أيد الأول بوتفليقة في مساعيه لتولي عهدة رئاسية جديدة، أما العماري فدعم منافس بوتفليقة وغريمه علي بن فليس. وبعد فوز تحالف مدين/ بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية، تمت الإطاحة بالعماري وتعيين الجنرال «أحمد قايد صالح» خلفًا له.استمر بوتفليقة على كرسي الرئاسة بدعم كامل من المؤسسة العسكرية، حتى أصيب بجلطة دماغية في أبريل/ نيسان عام 2013، نُقل على إثرها إلى العاصمة الفرنسية باريس، في رحلة علاج استمرت ثلاثة أشهر. وخلال هذه الفترة سعت المعارضة إلى تفعيل المادة 88 من الدستور الخاصة بشغور منصب رئيس الجمهورية، وهو الأمر الذي ساعد على ظهور الانقسام بين قيادات المؤسسة العسكرية.كان رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، يعمل على طمأنة الشعب بشأن وحدة وأمن البلاد، في حين كان الجنرال «توفيق يشكك» في قدرة الرئيس على إدارة شؤون البلاد ومعارضًا ترشحه لعهدة رابعة. فاز بوتفليقة المريض بعهدة رئاسية رابعة بفضل تحالف شقيقه ومستشاره «السعيد بوتفليقة» مع رئيس أركان الجيش، ثم استكملت عملية قصقصة ريش الجنرال توفيق، والتي كانت قد بدأت عقب الهجوم الإرهابي على منشأة عين أميناس للغاز جنوب شرقي الجزائر عام 2013، وفي النهاية تمت إقالة مدين من منصبه عام 2015.

اقرأ أيضًا: عهدة خامسة لرئيس مغيب: كيف وصلت الجزائر إلى طريق مسدود؟

عين بوتفليقة، اللواء «عثمان طرطاق» الشهير باسم «البشير»، في منصب رئيس جهاز الاستخبارات. وكان البشير يعمل، قبل توليه رئاسة المخابرات، مستشارًا أمنيًا لدى الرئاسة، برفقة سعيد بوتفليقة، وذلك بعد خلافات بينه وبين الجنرال توفيق، أدت إلى إحالته للتقاعد، عام 2014.منذ عام 2013، أجريت العديد من التغييرات داخل الجيش بمختلف فروعه، لكن وتيرة هذه التغييرات تسارعت كثيرًا خلال عام 2018، وبدا واضحًا أنَّ هناك معركة تدور في الخفاء. في يناير/ كانون الثاني 2018، سعت الرئاسة إلى إعادة هيكلة القادة العسكريين وتغيير قيادات النواحي العسكرية الستة، إلا أنَّ الفريق قايد صالح رفض هذه التغييرات، وسط أحاديث عن خلافات بينه وبين النخبة المقربة من بوتفليقة المريض، بقيادة أخيه سعيد.بعد إحباط الجيش أكبر محاولة لتهريب الكوكايين إلى البلاد، في مايو/ آيار الماضي، دعم رئيس الأركان حملة تغييرات مسّت الأجهزة الأمنية والدرك، وعددًا من القادة في المناطق العسكرية والشرطة العسكرية ومكتب التحقيقات، ووصلت إلى إقالة قائد جهاز الأمن العام اللواء عبدالغني هامل، المقرب بشدة من عائلة بوتفليقة و أحد أبرز المرشحين لخلافة الرئيس.وفي أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول الماضيين، أُجريت تغييرات واسعة في قيادة الجيش، شملت تغيير قائدي القوات البرية والجوية اللذين ظلا في منصبيهما لنحو 14 عامًا، كما تمت إقالة العديد من قادة النواحي العسكرية الكبار، المقربين من قايد صالح، بينما اعتُبر ردًا من دائرة بوتفليقة على التغييرات التي أجريت عقب عملية الكوكايين. لا يمكن القول إنه يوجد حاليًا من يسيطر بشكل كامل على الجيش الجزائري، لكن بشكل عام يمكننا أن نعتبر أنَّ هناك توازنًا هشًا للقوة بين رئيس الأركان أحمد قايد صالح من جهة، والدائرة المقربة من بوتفليقة بزعامة أخيه سعيد من جهة أخرى.


موقف الجيش من الاحتجاجات

منذ بدء موجة الاحتجاجات الحالية، خرجت العديد من النداءات التي تطالب المؤسسة العسكرية بالتدخل لتلبية مطالب الجماهير، وهو ما رفضه رئيس الأركان قايد صالح واصفًا الاحتجاجات بـ«المشبوهة»، ومتهمًا أطرافًا لم يسمها بالرغبة في إعادة الجزائر إلى «سنوات الألم وسنوات الجمر».

يفتقر المطالبون بتدخل المؤسسة العسكرية لصالح الجماهير إلى الواقعية، فكما أسلفنا، قادة الجيش ليسوا على قلب رجل واحد، وإذا افترضنا جدلًا أن قايد صالح قرر دعم المظاهرات منذ الغد، فمن غير المستبعد أن يرفض باقي قادة الجيش قراره وتتم الإطاحة به بسهولة.المرجح حاليًا أن الجيش لن يتحرك لدعم المظاهرات وسيظل متمسكًا بولائه للرئيس بوتفليقة، تاركًا للنخبة السياسية التعامل مع الأمر، تمامًا كما حدث خلال احتجاجات 2011 التي واكبت تظاهرات الربيع العربي. وحتى لو تواصلت الاحتجاجات وفشلت النخبة في احتوائها، فمن غير المرجح اتفاق قادة الجيش على الإطاحة ببوتفليقة، إلا إذا أُريقت دماء، واتخذت الاحتجاجات طابعًا عنيفًا، وهو أمر مستبعد إلى الآن، لاسيما والذاكرة الجزائرية لم تنس بعد سنوات الدم.