لم أقرأ للغيطاني تقريبا؛ كتابان فقط. اشتريت «الزيني بركات» منذ سنوات ولم أقرأها، وكنت دائما أنتظر فرصة لم تأتِ حتى الآن. لم أعرف عنه بما يكفي، سوى وَلَعِهِ بالعمارة، وبنفسه، وبالكتابة. هذه المقالة إذن ليست رثاءً شخصيا لموته، بل تماهيا مع حزن «سعيد الكفراوي»، كاتبي المفضل، والذي أراه، وأراني، وأرانا جميعا، نودع كل يوم رجلا من هذا الجيل الذي شكَّلَنا وعبث بنا منذ بدأنا القراءة والجري وراء الأسئلة. ونخشى من فُحش الوحدةِ، مع كل غياب.

الغيطاني، الذي بدأ الحكي في الثالثة، والقراءة في السابعة، رغِبَ في الكتابة عندما أتم عقده الأول، وكتب أول ما كتب في الخامسة عشرة، قصة قصيرة. دخول سريع ومخيف، كأن الكتابة في دمه، لكنه فقط انتظر بما يكفي ليمتلك حدًّا أدنى من ثروة اللغة ليكتب، لم يتوقف عن الكتابة إلى أن رقد في غيبوبته، وأظن أنه ساعتها أيضا كان يفعل، لكننا لم نكن نقرأ.

دخل مدرسة النسيج الصناعية، فأخذته الألوان والصور وفنون السجاد، وظل مفتونا بكل ما هو فارسي وتركي، في الموسيقى واللحن والشعر والتراث. قال أنه يملك على حاسوبه إحدى عشرة سنة من الموسيقى الفارسية والتركية. وقال أيضا، أنه تعثر يوما في مقولة لـجلال الدين الرومي: «لا تبحث عن مركز العالم، أنت المركز»، فهز رأسه طاعة لنصيحة المعلم، و مشى في دربها.

كتاب «أيام الحصر» كتبه الغيطاني عن ذكريات مرضه بحصوة في المثانة، والمعاناة التي مر بها مع تلك الحصوة

هذه الذاتية الغيطانية، يبدو أنها خصوصية جدا، كل الكتاب منتفخون بذواتهم، لكن جزءا من خصوصية جمال الغيطاني أتت من المرض. أول ما قرأته له صغيرا، كتاب اسمه «أيام الحصر»، اشتريته أصلا لأعرف ما معنى العنوان، ولأنني لم أقرأ له مسبقا، واكتشفت، تدريجيا، أن هناك رجلا كتب كتابا كاملا عن ذكريات مرضه بحصوة في المثانة، والمعاناة التي مر بها مع تلك الحصوة، ومع احتباس البول إلى حد الانفجار، إلى أن خرجت الحصوة وتحسنت حالته.

وكان في ألمانيا، ويصف قسطرته البولية بدقة، كيف حدثت، الظروف التي أتى فيها المسعفون، كيف تعاملوا معه، واكتشافه أن المسعف الألماني كان غليظا عليه في إدخال القسطرة فآذى مجراه البولي. كل هذه الدقة في الوصف، وهذا الموضوع العجيب الذي لم أظنه أبدا يصلح محورا لكتاب، يحدث داخل شِعْرِيّة سردية مثيرة للريبة، إذ تجبرك على أن تخوض مشاعر متداخلة، كمن يشاهد فيلما عن الحرب على أنغام أغنية رومانسية.

في عام ١٩٦٩ عمل الغيطاني مراسلا حربيا لـ«أخبار اليوم»، ولا أعلم إن كانت تحقيقاته ومواضيعه الصحفية ساعتها مجمعة في كتاب، لكنني دائما أتساءل عن شكل هذه التحقيقات، وهل كتبها بنفس هذه الشعرية، ونفس هذا الحزن الوجودي، الخفيف أحيانا، والطاغي كثيرا؟

لا يتوقف الغيطاني عن اهتمامه بتجربة المرض ونقلها أدبيا، القلب وجراحة القلب المفتوح أخذت حيزا من كتاباته، بدءا من الفحوصات، والأطباء وجمودهم، ورقتهم، والعملية نفسها، ورؤيته للأشياء.

أتابع ما حولي، ليس واقعا، لكنه مجرد صور، صور بعيدة عني رغم قربها، لحظة لم أعرفها من قبل، يتساوى فيها البعد و القرب.
جُمعت هذه الكتب في كتاب واحد، أسماه «كتاب الألم».

والألم الجسدي الذي مر به الغيطاني يتجاوز ألم المرض، بل يرجع إلى سنوات بعيدة، حيث اعتقل في عهد «عبد الناصر»، وعُذِّب في سجنه، وكان يكتب القصص على ورق السجائر، وإن لم يجد ما يكتب عليه، يسرد في عقله كتابته ويحاول حفظها، في حوار عن السجن، لا يريد الغيطاني أن يسهب كثيرا فيما حدث له، يقول أنه تم استجوابه وتم تعريضه لضغوط جسدية العنيفة.

لكن اكتشفت أن الضغط النفسي أبشع؛ يعني أن تسمع شخصًا يتألم بسبب التعذيب أكثر فداحةً بكثير جدًا. عندما يبدأ تعذيبك أنت ينتهي كل شيء، لأنه ماذا سيحدث أكثر من ذلك؟ انتهت القصة.

ورغم ذلك رثى الغيطاني عبد الناصر، وتأثر به، وأكبر الزعيم وتاريخه في تناقض لم يستطع جيلنا أبدًا أن يفهمه، وسيكون هذا الإرث الناصري الذي يحمله سببا في قطيعة، أو لِنَقُلْ صدمة، من كثير من أبناء جيلنا، الذي لم يتوقع انحيازاته السياسية الصريحة بعد ٣٠ يونيو/حزيران، ولم يهتم هو لذلك، ولم ينقطع من أصابتهم الصدمة عن قرائته، وإن اهتزت صورته، وخابت رجاءاتهم فيمن رأوه قدوتهم.

للغيطاني فضل عليّ أنساه غالبا، وأتذكره عندما أتذكر هذه اللحظات الشيقة من حياتي، على مدار الثلاث سنوات الأولى من كلية الطب، حيث كنت أخرج من صلاة الجمعة، وأذهب إلى بائعة الجرائد وأشتري «أخبار الأدب»، وأفتحها وأقرأها وأنا أسير وتكاد تصدمني السيارات، إلى أن أذهب إلى مقهى بلدي قريب، أشرب القهوة وأدخن الشيشة وألتهم مواضيعها الرئيسية، وأترك الباقي لأقرأه في البيت. توقف هذا الطقس عندما أغلق المقهى، وعندما توقف عن إدارته لها.

أخبار الأدب شكَّلَتني شخصيا، عرفت الكثير منها، قرأت إبداعات جليلة، وتحليلات نقدية وأدبية حسَّنت من ذائقتي، وكنا ننتظر بشغف العدد الذي يسبق معرض الكتاب ونحتفظ بالصفحات الكثيرة التي تحمل كل إصدارات العام ودور النشر، لتجعل زيارتنا للمعرض محددة وغير قابلة للتشتيت إلى هذا الحد، ومتماشية مع الميزانية.

أسس الغيطاني هذه الجريدة المركز في حياة مصر الأدبية ومثقفيها، رأس تحريرها أربعة عشر عاما، وكتب خمسين كتابا أو أكثر، روايات، وأدب رحلات، وقصصا قصيرة، وأدبًا عن الألم. ظل يخرج كل أسبوع في طقس السير المقدس في شوارع القاهرة المملوكية القديمة. وظل يسافر ويعمل ويكتب لنصف قرن دون توقف.

في حوار قبل غيبوبته بأشهر يقول أنه يملك مشاريع تجعله مشغولا لعشرين سنة أخرى، لكن قلبه تداعى قبل كل هذا، أو بسببه. أنا لا أعرف الغيطاني جيدا، لم أشغف به بما يكفي لذلك، وكنت أقول أن وقته لم يأتِ بعد. لكن لي معه ذكريات طيبة ومرتبكة في آن، وبرحيله، تعود غصة غياب من أثَّروا فيَّ، وفي غيري، وفي من نحبهم، آبائنا بعد آبائنا، ومن رسموا جزءًا من حيواتنا، رحمك الله يا غيطاني، وليتجاوز عنك، ونرجو الله ألا تغادرك في قبرك جمال النقوش الفارسية.

«لا أنا غير سعيد، لا أؤمن بكلمة لو، وإنما كان يمكن أن أنتج أكثر لو تفرغت بالرغم من أن إنتاجي ليس قليلا وإنما كان يمكن أن أنتج أكثر. أكثر فترة نادم عليها فترة رئاستي أخبار الأدب. أنا من النوع الذي إذا أسند إليَّ مهمة أتقنها وأخلص لها فهذا كان على حسابي، وحساب حياتي الشخصية حتى علاقتي بأسرتي.

وكنت أتمنى أن أخرج في التعديل الأخير لرؤساء التحرير إلا أنه تم تمديد الرئاسة لي، ولكن طبقا للقانون هي سنة واحدة فقط وأخرج من رئاسة التحرير. ولكن القضية ليست فقط أخبار الأدب، أيضا شعوري بأن الحياة ولَّتْ بسرعة، فرصة الحياة نادرة يا سيدتي، أنا في الأواخر وهذا هو الشعور الذي كتبت فيه دفاتر التدوين كلها. الحياة فرصة محدودة جدا وأنا معنيٌّ بما نعيشه.

الحمد لله راضٍ وربنا وفقني بالمقاييس العملية، ولكن هروب الحياة هو الذي يثير الشجن. الحياة قصيرة ومحدودة ولا بد أن يكون فيها ظروف تحقق إنسانية الإنسان وهو ما يتماشى مع فكري وهو العدالة الاجتماعية. وهناك قضية فلسفية أخرى لديّ؛ أن وعيي بالزمن حاد، أي وعي مبكر منذ الطفولة. وأنا شاب كنت كهلا في التفكير، لم أعِشْ مراهقة أو شبابًا ولا كهولة حتى «ضاحكا». باستمرار سابق سني، هذه قضية حاولت أن أعبر عنها بالكتابة. ولكن أنا الآن في مرحلة وصلت قرب قمة التل فأشرف على المنظر كله»

من حوار مع جريدة إيلاف الالكترونية – 2009