هذا المقال هو استكمال للمقال السابق بعنوان: أين ذهب وقف «علي مبارك».. وما قصة «أوراق البِيكْيَا»؟

بأيسرِ نظرٍ تبيَّن أنَّ هذه الأوراقَ ذاتَ صلة بما كنتُ أبحثُ عنه في موضوع وقفِ علي مبارك قبل عشرِ سنواتٍ. وتبين أيضاً: أنَّ هذه الورقاتِ إمَّا إنَّها كانت مُعدَّة للإرسالِ إلى مديريَّة أوقافِ القاهرةِ استجابةً للمكاتبةِ -التي سبقت الإشارة إليها- ولكنَّها لم تصل إلى تلك الجهةِ، وإمَّا إنَّها وصلتْها وتسرَّبت منها بفعلِ فاعلٍ مجهولٍ حتى استقرَّت في عربة الروبابيكيا التي مرَّت بجانبي ظهر ذلكَ اليوم الجميلِ في حي معروف؛ لتكون ملكَ يدي بعد مساومةٍ خاطفَةٍ.

وتأكَّدْتُّ من سلامةِ هذا الاستنتاجِ ومن صحَّةِ نسبةِ هذه الورقات لوقف علي مبارك، من تطابقِ البيانات الأساسيَّة الواردةِ فيها مع البيانات الأساسيَّة المتاحةِ عن هذا الوقف، وهي البياناتُ التي كنتُ قد حصلتُ عليها من سجلات وزارة الأوقاف. فاسمُ الواقفِ هو هو، وبلدُه الذي يقعُ فيه أراضي الوقف هو «برمبال الجديدة»، ومساحةُ الوقفِ هي هي، ثلاثمائة فدَّان. والورقاتُ تتضمنُ حساباتٍ عن سنة 1946م وهي سنة من السَّنواتِ التي طلبتْ إدارةُ الأوقافِ والمحاسبَةِ من مديريَّةِ أوقافِ القاهرةِ الاتصالَ بحارسي الوقف لتقديم كشف حساب عن حصَّة الخيرات فيها، وهي السنوت من 1946 إلى 1966م.

الفرقُ الأساسي بين البياناتِ التي تضمَّنَتها ورقات «البيكيا» -ولنسمِّها بهذا الاسم المحزن من الآن فصاعداً- والبياناتِ التي تضمَّنتْها أوراقِ ملف المحاسبةِ هو: أن بياناتِ ورقاتِ «البيكيا» تفيد أنَّ علي باشا مبارك كان يمتلكُ ثلاثين فداناً لم يقمْ بوقفِها، إضافةً إلى الثلاثمائة فدانٍ التي وقفَها. وأغلبُ الظن أنَّه كان قد اشترى تلكَ الأفدنة الثلاثين من حر ماله بعد أنْ عركَ الحياةَ وعركتْه على ما تَقُصُّه سيرتُه الذَّاتيَّة.

1- «كشفُ إيراداتِ ومصروفاتِ زراعة برمبال»، الذي يشغلُ صفحتين من ورقات البيكيا؛ لا يُميزُ أراضي الوقفِ عن الأرضِ المِلك في الإيرادِ والمصروفِ؛ بل تشتملُ البياناتُ على إيراداتِ الثلاثِمائة وثلاثين فداناً ومصروفاتِها جملةً واحدةً عن سنة 1946م كاملةً.

وقد بلغتْ جملةُ الإيراداتِ عن تلك السنة 10.372 ج.م، و965 مليماً (عشرة آلاف وثلاثَمائةٍ واثنينِ وسبعينَ جنيهاً مصرياً وتسعمائة وخمسة وستين مليماً)، عبارة عن ثمَن: قمح هندي 854 جنيهاً و540 مليماً. وشعير 211 جنيهاً و750 مليماً، وتِبن شعيرٍ (مشعر) 20 جنيهاً و200 مليمٍ، وقطن 5987 جنيهًا و630 مليماً، وأرز شعير 2563 جنيهاً 780 مليماً، وأذرة 547 جنيهاً و465 مليماً، وزيادة ثمن محصولاتٍ جنيه واحد و780 مليماً. ومتحصل إيجارِ ثمانيةِ أفدنةٍ وأربعةِ قراريط 146 جنيهاً.

2- أما المصروفاتُ فبلغتْ جملتُها 2.254 جنيهاً، و930 مليماً (ألفين اثنيْن، ومائتينِ وأربعة وخمسين جنيهاً، وتسعمائة وثلاثين مليماً لا غير). وهذه المصروفاتُ: تشملُ مرتباتِ موظَّفي الزِّراعَةِ (236 جنيهات، و970 مليماً)، وأموالاً أميريَّة (362 جنيهاً، و375 مليماً)، ومقابلَ تصليحاتٍ وثمنِ عُدَدٍ وسيورٍ للماكينةِ والسيارةِ والساقيةِ الكبيرة 209 جنيهات و830 مليماً، وثمنَ زيتٍ معدنيٍّ، 138 جنيهاً و350 مليماً، وثمنَ غازِ ديزل وغازٍ أبيض307 جنيهات و35 مليماً (مجموع 655 جنيهاً، و215 مليماً).

كما تشملُ المصروفاتُ أثمانَ: تقاوٍ وبذورٍ وأسمدةٍ كيماويَّةٍ 154 جنيهاً و530 مليماً، وثمنَ شعيرٍ تقاوي 25 جنيهاً و400 مليمٍ، وثمنَ بذرة قطن 80 جنيهاً و205 مليمات، وثمن كيماوي للأرز والقمحِ 170 جنيهاً و210 مليمات، وثمنَ أرز شَعير تقاوي 113 جنيهاً و600 مليم، وأجورَ نقاوةِ لطع الدودة، وملخٍ وشَتْلِ الأرز 78 جنيهاً و785 مليماً.

ومنصرف في مساعدة جني القُطنِ 70 جنيهاً و770 مليماً، وأجورَ خُولي (مراقب) مياه الرَّي والصَّرف 82 جنيهاً و645 مليماً، ونفقات «نشو زواريق» (تطهير مواسير الصرف الزراعي المغطى) 22 جنيهاً و590 مليماً، وأجورَ غفرِ محصولاتٍ وحراسةٍ 88 جنيهاً و485 مليماً، ومشالَ محصولاتٍ وقَبَّانَة وخلافه 37 جنيهاً 960 مليماً، وثمنَ أكياسٍ وجوالاتٍ وكَاباتٍ (أغطية للرأْس للوقايةِ من حرارة أشعة الشَّمس) لعمليَّةِ جني القطنِ 29 جنيهاً و205 مليمات، ومصاريفَ انتقالاتِ موظَّفي الزراعَةِ 11 جنيهاً و980 مليماً، وثمنَ أدواتٍ كتابية، وبوستة وتلفونات 5 جنيهات و155 مليماً، وترميمات بئر الماكينة والساقية وثمنَ أسمنت 8 جنيهات و400 مليمٍ، وتصليحِ طبْلِيَّة الميزان 600 مليمٍ، ومصاريف نثرية 7 جنيهات و850 مليماً، ومرتب السيد/ م.ح.ق (اكتفَيْنا بالحروفِ الأولى من الاسم) 12 جنيهاً.

وعليه يكونُ صافي إيراداتِ وقفِ علي مبارك في سنةِ 1946م، بعد خصمِ المصروفاتِ، هو: 8118 جنيهاً، و35 مليماً (ثمانية آلافٍ ومائة وثمانيةَ عشر جنيهاً مصرياً وخمسة وثلاثين مليماً لا غير). وعلى أساسِ صافي الإيرادِ، تُحسب حصةُ الخيراتِ في الوقف، وتُحسبُ كذلك حصَّةُ المستحقين في هذا الريع استحقاقاً أهلياً طبقاً لشروطِ الواقف. وبما أنَّ حجَّة هذا الوقفِ في حكمِ المفقودة، بعد أنْ تعذَّر العثورُ عليها، فكيف السبيلُ لمعرفةِ نوع الوقفِ نفسَه: أهو خيريٌّ بأكملِه؟ أم هو أهليٌّ بأكملِه؟ أم هو مشتركٌ بين الاثْنيْنِ؟ وإن كان مشتركاً: فما مقدارُ الحصةِ الخيرية، وما مقدارُ الحصَّةِ الأهليَّة؟

3- تفيدُ ورقات البيكيا معلومتيْن أساسيتيْن تصلحان للإجابةِ على تلك الأسئلة، ولا يوجَدُ لدينا مصدرٌ آخر لمعرفتِهما سوى هذه الورقاتٍ وهما:

  • المعلومةُ الأُولَى: أنَّ وقفَ علي باشا مبارك «وقفٌ مشتركٌ»؛ أي إن به حصةً خيريَّةً (يصرف ريعُها مباشرةً على وجوه البِّر والخيراتِ)، وحصةً أهليةً (يُصرف ريعُها على ذريةِ علي مبارك، وعلى الَّذِين حدَّدهم بالاسم من أقربائه أو مِنْ غيرِهم).
  • المعلومةُ الثَّانِيةُ: أنَّ حصةَ الخيراتِ في ريعِ هذا الوقفِ قيراطانِ اثنانِ فقط. وتقاليدُ حِسابِ الحصَّةِ بالقيراط في الريعِ الوقفي تعني: تقسيمَ إجمالي صافي الرِّيع إلى أسهمٍ متساوية عددها أربعةٌ وعشرون سهماً. باعتبار أنَّ جملةَ صافي الريع يُرمز لها بأنَّها أربعةٌ وعشرونَ وحدةً متساوية، أو أنَّها «أربعةٌ وعشرونَ قيراطًا»، بلا زيادة أو نقصان؛ قياساً على أنَّ تمامَ مساحةِ الفدَّانِ أربعة وعشرون قيراطاً، وقياساً على أنَّ تمامَ الزِّمامِ الزِّراعي في مصر ـ حسبَ لغةِ عصرِ المماليكِ والعصرِ العُثماني ـ هو: أربعة وعشرون قيراطاً، وقياساً أيضاً على أنَّ تمامَ جرام الذَّهب الخالصِ من الشوائبِ صحيحَ الوزنِ أربعةٌ وعشرونَ قيراطاً. والنَّاس في العاميَّة المصريةِ يعبِّرون عن الشيءِ المضبوط بقولِهم: «تَمام أربعة وعِشرين قِيراط».

تبَيَّنَ مما سبقَ حتَّى الآن: أنَّ وقف علي باشا مبارك «وقفٌ مشترك»، وتأكَّد أيضاً أنَّ حصَّةَ الخيراتِ قدرُها «قيراطان»، وأنَّ إجمالي أراضي الوقفِ والمِلك معاً 330 فداناً، وأنَّ صافي ريعِها/ إيراداتِها عن سنةِ 1946م، (التي توافرت بياناتُها من أوراقِ البيكيا) مبلغٌ قدرُه: 8118 جنيهاً، وخمسةٌ وثلاثونَ مليماً. وعليه يكون نصيبُ الأطيان الملك (30 فداناً) هو: 676 جنيهاً و503 مليمات، ونصيب أطيان الوقف هو: 7441 جنيهاً و532 مليماً.

ومن المبلغ المذكور (7441 جنيهاً، و532 مليماً) الذي هو ريعُ أطيانِ الوقفِ، يمكِن معرفةُ قيمةِ حصَّةِ الخيراتِ التي قدرُها «قيراطان» في السَّنة؛ وذلك بقسْمةِ إجمالي الحصة الموقوفة من الأراضي على 24 (قيراطاً)، ونضربُ الناتجَ في اثنين. فيكون نصيبُ حصة الخيرات هو: 7441ج. و532 مليماً ÷ 24 × 2= 620 جنيهاً و128 مليماً بالتمام والكمَال. وبما أنَّ كشف حسابِ خيراتِ الوقفِ، حسب بيانات أوراق البيكيا.

يخصُّ ثمانيةَ أشهرٍ فقط من سنة 1946م، إذن، يكون نصيب الخيراتِ عن تلك الأشهر الثمانية مبلغاً قدره: 413 جنيهاً 418 مليماً (هو حاصلُ قسمةِ إجمالي نصيبِ الخيراتِ عن سنة 1946م كلها، مقسوماً على 12 شهراً، وضربِ النَّاتجِ في 8 أشهر مدةَ الحساب المدون في ورقات البيكيا، مع خصمِ مبلغ 12 جنيهاً و745 مليماً قيمة رسومٍ حكوميَّةٍ، ومبلغ 205 مليمات قيمة تمغةٍ على الإيصالاتِ، فتكون حصَّةُ الخيرات في الثمانية أشهر 413 جنيهاً، و418 مليماً فقط لا غير.

والآن ليسَ من مصدرٍ لمعرفةِ بنودِ صرفِ هذا المبلغ (حصة الخيرات) حسب شروط علي باشا مبارك في وقفه سوى «ورقات البيكيا»؛ فحجَّةُ الوقفِ مفقودةٌ، وملف التَّوليَةِ وملف المحاسبةِ الخاصَّيْن بهذا الوقف تم افتراسُهما ونهشُ محتوياتِهما على ما بينَّاه فيما سبَق. فهل تخذلُنا «ورقاتُ البيكيا» هي الأخرى ولا تَكشِفُ عن بنود صرفِ حصَّة خيراتِ وقفِ علي باشا مبارك؟

لا، ثم لا، لم تخذلْنا؛ إذْ إنَّ كشفَ حساب خيرات سنة 1946 الذي يقعُ في ورقتين من ورقات البيكيا الأربع، يكشفُ عن تلكَ البنود بالتفصيل (بعضها أشخاصٌ مُستَحقون أسماؤهم مدونة في الكشف -واكتفي بذكرِ الأحرُفِ الأولى من اسم كلٍّ منهم ولقبِه فقط- وبعضها جهاتٌ أسماؤها مدونة في الكشف أيضاً) وبيانها هو الآتي:

  • مساعداتٌ للطلبةِ، جملتُها 185جنيهاً، و510 مليمات، منها: 40 جنيهاً لـ م.أ.ك و10 جنيهات لـ م.أ.ح، و35 جنيهاً و510 مليماتٍ لأولادِ المرحوم الشيخ ح.ش، و50 جنيهاً لـ ف.أ.ع.ك، و50 جنيهاً لـ ف.أ.ك.
  • مساعداتٌ في المآتم ولتُرَبي العائلةِ، جملتها 54 جنيهاً و500 مليمٍ، منها: 50 جنيهاً لمأتمِ والدةِ الشيخ ج.م، و4 جنيهات و500 مليم لتُربِي العائِلة.
  • ثمنُ أدويةٍ للمرضى، جملتُه 5 جنيهاتٍ، صُرِفَت لـ إ.م.
  • مساعداتٌ اجتماعيَّةٌ مختلفةٌ لنِساءٍ وبعضِ أقاربِ علي باشا مبارك جملتُها 138 جنيهاً، و840 مليماً.
  • مساعدةٌ للجمعيَّةِ الخيرية الإسلاميَّة، قدرُها واحد جنيهٍ مصريٍّ لا غَيْر.

وعليه يكونُ إجمالي المُنصرِف من حصَّةِ الخيراتِ 850 جنيهاً، 382 مليماً فقط لا غير. ويكون الفرقُ بين جملةِ ريعِ حصَّة الخيراتِ وجملةِ المنْصرِف -مضاف إليه رسومٌ بواقِع 2.5% قدرها 12 جنيهاً و745 مليماً، و205 مليمات ثمن تمغَة- هو: 413.418 – 395.800 = 17.618 (فقط سبعة عشر جنيهاً وستمائة وثمانية عشر مليماً)، وهو المبلغ الباقي بدون صرف، وقد أشار كشف الحساب إلى أن هذا المبلغ الفائض قد رُحِّل لحسابات سنة 1947م. [لاحظتُ أنَّه تُوجد زيادة قدرُها واحد جنيه في مقدارِ المبلغ المتبقي كما أوردتُه هنا عن المبلغِ الواردِ في أوراق البيكيا بسببِ خطأٍ حسابي وقعَ فيها كاتب الكشف]. ومعنى هذا أنَّ ريعَ الحصَّة الخيريَّة قد كفى وحقَّقَ فائضاً بالمقدارِ المذكور.

ويلفتُ النَّظرَ أنَّ هذا الفائضَ على المستوى الجزئي في ميزانيةِ الحصَّةِ الخيريَّةِ، قابلَهُ فائضٌ على المستوى الكلي في الموازنَةِ العامَّةِ للدَّولةِ عن تلك السنة نفسها 1946م حسبَ بياناتِها الرَّسميةِ بالبرلمان المصري آنذاك. وهذه النُّقطةُ الأخيرةُ تحتاجُ إلى مزيدِ من التَّقصِّي والبحثِ لمعرفةِ ما إذا كانت العلاقةُ ارتباطيَّةً وطرديَّةً أم لا؛ بين حالةِ الموازنةِ على مستوى الاقتصادِ الكلي للدولة، وحالة الموازنة على مستوى الاقتصادِ الجزْئي لهذا الوقفِ أو ذاك من الأوقافِ المصريَّةِ في تلك الحقبةِ الزَّمنيَّةِ.

إنَّ قصَّةَ «وقف» علي باشا مبارك لها فصولٌ أخرى، ولكن افتراسَ أغلبيةِ مستنداتِ هذا الوقفِ قد طَمَسَ تلك الفصولِ، ولم يعد باليدِ حيلةٌ لمعرفتِها أو الوصولِ إليها. ولكن: منْ يدْري، لعلَّ تدابيرَ القدر تكشفُ عنها – في المستقبل – في عربةِ «بيكيا» أخرى.

وقد لا يعرفُ كثيرونَ – وبخاصة من شبابِ اليوم – عن «علي مبارك» سوى أنَّه اسمٌ لأحدِ الشوارع في هذه المدينةِ أو تلك، ومنها: شارع علي مبارك بمدينة طنطا. [بالمناسبة تم تغييرُه في سنة 2017م بقرار من السيد اللواء محافظ الغربية في تلك السَّنَة بعد وقوع حادثة إرهابية ضد إحدى كنائس مدينة طنطا، وأصبح اسمُه: شارع الشُّهدَاء! وجرى خلعُ اللَّوحاتِ المعدنيةِ التي كانت تحملُ اسم «علي مبارك»! وكأنه هو من ارتكب الجريمة النكراء، وتم تثبيتُ لوحاتٍ جديدةٍ مكتوبٍ عليها «شارع الشهداء»، ومع ذلك فالناس في عمومهم عندما يشيرون إليه يقولون: شارع علي مبارك].

وُلد علي مبارك في سنة 1239 هجرية/ 1824 ميلادية لأسرةٍ فقيرةٍ، ولكنَّها كثيرةُ العَدد في قرية برمبال الجديدةِ. وكانت مصاعب الحياة بانتظارِه قبل أن يشْتدَّ عودُه صبياً؛ إذْ أرسلَه أبوه إلى رجلٍ كفيفٍ كان يحفِّظُ الأطفالَ القرآنَ الكريمَ اسمُه «أبو عسر» [بفتح العين والسين]، وهو اسمٌ أو لقبٌ لا يبعثُ على الطمأنينةِ. وسرعان ما فرَّ منه الصبيُّ «علي»، فساقَهُ قدرُه إلى شيخ آخر في عرب السَّماعنة بالقربِ من «برمبال». وقبل أن يَسْتَدَّ ساعدُه تقلَّبتْ به الأيامُ ما بين مواصلةِ حفظ القرآن والعمل في خدمةِ بعض الكّتَبةِ. وفي سن العشرين ألقتْ السلطاتُ القبض عليه وسجنته بوشايةٍ من الكاتبِ الذي كان يشتغل عنده مساعدًا له في مأمورية «أبو كبير» بالشرقية، ولمَّا علِمَ محمد علي باشا بالخبرِ أمرَ بالإفراجِ عنه، لتبدأَ مرحلةٌ جديدةٌ في حياتِه وبخاصةٍ بعد أنِ التحقَ بمدرسةِ قصرِ العَيْنِي.

كان الشابُّ علي مبارك ينشدُ الراحةَ في تلكَ المدرسةِ فوجدَ المتاعب تنتظرُه بين جدرانها، وأُصيبَ في أثناء إقامته بتلك المدرسةِ بمرض شديدٍ كاد يقضي عليه، ولكنَّه صبرَ وتحمَّل آلام المرضِ والجوعِ في آن واحد، وتمكَّن من إتمامِ دراستِه متفوقاً في الهندسة والميكانيكا والديناميكا والجيولوجيا والقسموغرافيا (الطوبوغرافيا)، وغيرها من العلوم التي كانت مقررةً آنذاك باعتبارها مدرسة عسكرية. ووقع عليه الاختيارُ ليكون أحدَ أعضاءِ البعثة التعليميةِ إلى باريس في سنة 1260هـ/ 1844م رفقةَ بعض أبناء محمد علي باشا كما عرفنا، وقد كان منهم إسماعيل باشا (الخديوي فيما بعد).

وفي باريس سرعانَ ما ظهر نبوغُه وتفوقُه في تعلُّمِ الفرنسية، وفي نيل شهادة «كلية متز» العسكرية. ولما عاد من باريس كان في رقبتِه ديْنٌ لأحدِ أصدقائه الفرنسيين. ولكفاءتِه العاليةِ أسندَ إليه الخديوي إسماعيل خمسةَ مناصب كبرى دفعةً واحدةً هي: مدير هيئة السكة الحديد، وثلاث وزارات هي: المعارف، والأشغال، والأوقاف، ومديراً للقناطر الخيرية. لكنه سرعان ما اختلفَ مع إسماعيل باشا المُفتِش (شقيق الخديوي إسماعيل من الرضاعة) الذي عزلَه، فعادَ ليعملَ مدرساً لمحو أميَّة صغار العسكر. ثم أعادَه الخديوي إسماعيل للوزارة مرة أخرى في عهد حكومة مصطفى رياض باشا.

حقق علي باشا مبارك إنجازاتٍ كثيرة في التعليمِ، والأوقافِ، والأشغالِ العموميَّةِ، والزراعة والرَّي، وأسس أول مدرسة لتعليم البناتِ في تاريخ مِصرَ الحديث، ووضعَ أوَّل لائحةٍ لإصلاحِ الكتاتيبِ، وأشرفَ على المدارسِ الأوليَّة بنفسِه؛ حتى إنَّه كان يعلِّمُ صغارَ التلاميذِ كيفَ يلبَسون ملابِسَهم وأحذِيَتِهم، وكيف يكتُبون ويقرَؤون، وبلغتْ نسبةُ المجانيَّةِ في التعليمِ في عهدِه إلى 41% في المدارسِ الحكوميَّةِ، و23% في المدارسِ الأهليَّة.

وفي سنة 1870م أنشأَ دارَ الكُتبِ الخديوية (المصرية حالياً) باعتبارها مؤسسة وقفية تعتمدُ على ريعِ ما يقربُ من ألفِ فدانٍ وقفَها عليها الخديوي توفيق وقفاً خيرياً مؤبداً [ولنا عودةٌ إلى هذا الوقف ومآلاته]. وفي سنة 1871م أنشأَ «دار العلوم»، وهي واحدةٌ من مآثر علي باشا مبارك الخالدة؛ شأنُها شأْنُ «دار الكتب»، وشأن «شبكة المياه والصرف الصحي» التي خطَّطَها وأشرفَ على تنفيذِها في المحروسة، وشأنُ ترعَتَي الإسماعيلية والإبراهيمية، وشأنُ كثيرٍ من الأشغالِ العموميةِ الأخرى في رصفِ الطُّرق، وتنظيمِ الأحياءِ السَّكنية، وإضاءة الشَّوارع بغازِ الاستصباحِ، وغير ذلك من أعمال التَّحضر والمدنية التي عرفتها مصر آنذاك، ولا تزال آثارها ماثلة في أرض الواقع إلى اليوم.

ولِمَنْ سأَلَ: أينَ ذهبَ وقفُ علي مبارك؟ أقول: لا أدرِي، ولا أَعْرِف. وكلُّ الذي أعرِفُه هو أنَّه: سواءٌ أُعيدتْ تسميةُ بعضِ الشَّوارع بأسماءَ مختلفةٍ لتحلَّ محل اسمِه، أو لا؛ وسواءٌ بقي وقفُه قائمًا على أصولِه ومسبلاً على سبلِه أوْ لا؛ وسواء اتفقَ المؤرخون على دوره في ثورة عرابي أو اختلفوا بين موافق ومعارض؛ فإنَّ علي باشا مبارك سيظلُّ من أعظم بُناةِ الدولةِ المصريةِ الحديثةِ الذين أنبتَتْهم القريةُ المصريةُ وظهروا على مسرح الحياة العامة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري/النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. لقد كان رجلَ علمٍ وعملٍ وقِتال وفعل الخيرِ معاً، ونادراً ما اجتمَعَ العملُ والعلمُ مع القِتالِ وفعلِ الخيرِ في حياة كبارِ الرجال.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.