تتحد الأعمال الثلاثة لأليس رورفاكر Alice Rohrwacher في الوقوف على مشكلة الإنسان المعاصر من خلال أزمة المقدس في المجتمع الصناعي الحديث،  فعالمنا الحالي بحد تعبير ماكس فيبر «نُزع عنه السحر»، أو تعبير أدق «سُلِخت عنه القداسة»، كما أورد الكاتب والمؤرخ الروماني «مرسيا إلياد»، وهذا الأمر وضع الإنسان في أزمات وجودية جارفة.

فتيات في بداية سن المراهقة يقابلن مسائل وجودية، الأولى تقع بين حرية الإنسان وسلطة المقدسات، تسكن عائلتها تحت رعاية الكنيسة، تقع بضرورة أمام رغبتها في اتخاذ القرار قبالة رغبة الكنيسة في تحديد مسار مسبق لها. الثانية تشارك بفاعلية أساسية في حياة عائلة تسكن الريف الإيطالي، وتقاوم في حالات غير عادلة تحت رغبة الوالد في أن يكملوا العيش في القرية بمجهودات عملهم الخاصة. داخل العائلة تكمن سلطة الأب الذي يسقط رغباته على جميع أفراد عائلته، ويربط بين عاطفته تجاههم وبين رغبته في السير على خطى إرادته التي تقيِّدها الحكومات. وشاب ثالث يقع تكوينه بين الواقعي والسحري، يحمل تلقائية الوجود الأول للإنسان بكل طيبته وسذاجته، يقيم في قرية نائية وسط مجموعة من المغيبين عن العالم والمقهورين تحت وطأة الإقطاع. هكذا تنطلق  أليس في أفلامها الثلاثة من شخوصها المتجهين  دائمًا إلى اغتراب ضروري، موضوعة في اختبار مدى قدرتهم على العيش في عالم أصبحت طبيعته غريبة عنهم.

السلطة الكنسية واحتكار المقدس

في فيلم جسد سماوي heavenly body تُطرح هذه الأزمة بإظهار سلطة الكنيسة ودورها في حجب القداسة من خلال احتكار المقدس، بل يتعدى هذا باستخدامه كوسيلة سلطوية لتحديد مسارات الأمور الحياتية العادية.

مارتا هي البنت الوسطى لعائلة تعيش تحت رعاية الكنيسة، تبدأ مارتا في حضور الدروس الكنسية حيث تبدأ الاستحقاقات المأخوذة بالقوة لممثلي الكنيسة على حياة مارتا، تُحكى لنا الأحداث هنا بعيون مارتا انطلاقًا من طبيعتها الصامتة.

 لدينا هنا عائلة مارتا التي تعيش تحت رعاية الكنيسة، مجبرين على حضور المناسبات والاحتفالات الدينية، فالأعياد لم تعد لها قيمتها المقدسة القديمة، بل أصبحت عبئًا إجباريًّا تفرضه الكنيسة عليهم لإثبات سلطتها. مارتا نفسها منذ بداية الفيلم تجد نفسها في مواجهة مسارات محددة لها مسبقًا دون اهتمام لأي سؤال يعترضها.

لم يكن اختيار اسم مارتا عبثًا من قِبل أليس، بل إن له دلالة أبعد إلى القديسة مارتا[1] التي كرست حياتها لخدمة المسيح واتِّباعه، لهذا اكتسبت صفة القداسة، فالقديس ليس مقدسًا، بل حرَّم على نفسه أشياء تحريمًا جعل منه قديسًا[2].

وهذه التقابل ليس تأويلًا اعتباطيًّا، من خلال لمحات ومشاهد بسيطة سنرى كيف تعالج أليس حالة حجب القداسة من قِبل الكنيسة بشكل ذكي.

في أحد المشاهد في دروس الكنيسة، نرى المدرسة تسأل مارتا سؤالًا عن اسم اخت القديس لازارو/لعازر، فجاوبت الطفلة أن اسمها مارتا، لكن المدرسة وبّختها وقالت إن اسمها ماريا. الاثنتان بالفعل أخوات لعازر، لكن القديسة مارتا تقع في حالة من التهميش والحجب، وبالمثل نجد أن هذه الحالة هي ما تتعرض لها الطفلة مارتا طوال الفيلم.

في مشهد آخر تضرب هذه المدرسة مارتا بعنف أمام الجميع لأنها ضحكت على سقوطها بالرغم من ضحك الجميع، فذهبت مارتا غاضبة وحزينة إلى بيتها، يأتي بعدها مشهد فني جميل تقص مارتا شعرها بغضب عندما أخبرتها أختها الصغيرة أنها تريد أن تصبح قديسة ثم تعطيه لها، هنا دلالة مدهشة على حالة رفض لقيمة القداسة المتصلة بسلطة الكنيسة، وقد تكاملت الصورة بغضب الرمز المقدس نفسه، تدفعه أليس إلى الرفض بدلالة فنية مدهشة، حينما يسقط التمثال الخشبي للمسيح من أعلى عربة القسيس وهو ذاهب به إلى احتفال ديني في الكنيسة. يسقط التمثال مستقرًّا على سطح النهر أسفل الطريق، يبدو بعيدًا وبالكاد نراه، لكننا نراه في تناسق لوني وشكل صوري شديد الجمالية، بعدما كان محفوف بحالات اغتراب عن الصورة في المشاهد السابقة.

حاولت أليس هنا تحرير المقدس من محاولة احتكاره، وأعادت بلورة مفهوم القداسة من منظور مارتا المنشغلة بأمور عادية أقرب لسنِّها، التي تجد نفسها قبالة أسئلة تتعلق بفترتها العمرية، حيث تبدأ في تأمل وتتبع التطور الطبيعي لجسدها كأنثى، وحيث تجد في اللعب مع القطط والأطفال الآخرين حالة أقرب لها وجوديًّا من دروس الكنيسة، بل إنها تهرب من الاحتفال الكنسي الذي يصيبها بالحزن، وتبتسم لمجرد رؤية ذيل مقطوع يتلوى بصحة أطفال آخرين.

نجد هذه اللمحة بشكل عابر في فيلمها سعيد مثل لازارو happy as lazzaro في مشهد بديع. حينما زار الكنيسة في المدينة، هناك يسمع موسيقى جميلة، لكن أحد القساوسة هناك يطرده، حينها نجد الموسيقى تترك المكان وتسير مع لازارو، حيث ترفض الموسيقى نفسها احتكار الكنيسة لها.

من فيلم heavenly body - إخراج أليس رورفاكر
من فيلم heavenly body – إخراج أليس رورفاكر

أزمة المكان والمقدس

يدور فيلمها العجيبون The wonders حول أزمة أخرى من أزمات المقدس في العالم الحديث، أزمة المقدس والمكان، فإضفاء القداسة على المكان من أهم سمات الكائن الديني في الديانات القديمة، لأنه يؤلف صورة العالم وأن العالم هو خلق إلهي. لكن المجتمع الصناعي فقد هذا الأمر، أصبح المكان مجرد (آلة للسكن) على حد تعبير (لوكوربوزيه) أحد المهندسين المعماريين، فتحول السكن بحد ذاته آلة من جملة آلات المجتمع الصناعي.[3]

تتناوله (أليس) من خلال عائلة تعيش في ريف إيطاليا وتعمل مستقلة تحت رعاية الأب في تصنيع عسل النحل، لكن سلطات الدولة تضيق عليهم في إمكانات العمل. الفيلم هنا يعتمد على سلطة المكان بشكل أكبر، ويبدو جزءًا من قدرة العائلة على الهرب من شعور الاغتراب، ويتجلى ذلك في علاقة العائلة بالمنزل. تنطلق أليس من خلال فتاة في سن المراهقة، ليبدو تطورها الشخصي وأثره على مشاركتها في نشاط العائلة هما الأداتين الرئيسيتين لعرض الفيلم.

تقول أليس أثناء إحدى لقاءاتها عقب عرض الفيلم في مهرجان كان، أن الفيلم يطابق جزءًا كبيرًا من طفولتها، ليس بالنسبة لتكوين العائلة فقط، بل بالنسبة لطبيعة المكان وكونه جزءًا من الذاكرة أيضًا، تقول أيضًا إن الفيلم لا يعدو سيرة ذاتية لكنه يشاركها هواجس الطفولة وذكرياتها بشكل كبير.

تمارس الصورة وجودها الحيوي في الفيلم، كمحاولة للتجاوب مع المكان كذاكرة، ليس فقط كدلالة مادية للاحتواء. يمارس المكان دوره كعنصر مقدس يشكل جزءًا كبيرًا من تكوين شخصياتها، ويتأثر هو بدوره بوطأة المجتمع الحديث. تتحرك الكاميرا دائمًا على امتداد المكان محاولة عرض أثره بالتطورات الحاصلة، وأن الأمكنة عمومًا إن أتيحت لها القدرة أن تخرج عن طبيعتها الأولى لأجل التمدن كحالة تقدمية بالضرورة، حينها تستطيع أن تشكل عاطفة مغايرة عن العاطفة البشرية، تجاري الأحداث الحاصلة لها وتحفظها في ذاكرتها التي تستطيع أن تصمد بصمود المكان. يفتتح الفيلم بالمكان مقفرًا ومهجورًا، ثم نشاهد تواري قدرة المكان والعائلة على الصمود.

نطالع مشكلة المكان أيضًا في (سعيد مثل لازارو)، حيثما نرى حالة الصراع بين الحياة الزراعية البسيطة والحياة الصناعية الحديثة. بعد أن تم تهجير أهل القرية إلى المدينة نجدهم في حالة اغتراب جذري عن أجواء الحياة الجديدة، لكن أليس كعادتها تصنع مفارقة من مشهد بسيط، بجوار العربة التي يسكنون فيها تنمو في أرض المدينة نبتة بطاطس، يتحول المكان نفسه تحولا أنطولوجيا، لينطبع هذا الأثر الوجودي داخل هؤلاء الأشخاص كانتصار كبير لهم.

انحلال بنية المقدس في المجتمع

في فيلمها (سعيد مثل لازارو) تنطلق أليس من أزمة انحلال شكل المجتمع ذي البنية الثنائية المستمد من نظرة الإنسان الديني القديم للعالم. ينقسم العالم في نظر أغلب العشائر الطوطمية وغيرها من العشائر في مختلف الثقافات إلى ثنائيات في جدلية دائمة: الأرض/السماء، الليل/النهار، الشمس/القمر، الذكورة/الأنوثة، النور/والظلمة.. هذا الشكل من الرؤية الثنائية للعالم محمل بنوع من القداسة الكونية كونه من خلق الآلهة.

 الإنسان الديني لم يكن مجرد (وجود في العالم)[4] كما هو الإنسان في العصر الحديث، بل إنه معني بخلق العالم باستمرار كما فعلت الآلهة في الزمن الأول، فيعيد تمثُّل أفعالها، ويستمد شكل البنية الكونية في مجتمعه.

يتجلى هذا الشكل الثنائي في انقسام العشيرة إلى بطنين، أو عمارتين، تكمل إحداهما الأخرى، إنما تمثلان فضائل خاصة متكاملة، تتعاضد وتتعارض. كل عمارة لها وظائف واضحة تمامًا، وتتشارك مبدأً محددًا،  كاستمرار للشكل الأعمق من الجدلية بين المقدس والدنيوي، وعليه يكون المقدس وثيق الصلة بنظام العالم، إنه تعبير فوري عنه ونتيجة مباشرة له.[5]

لكن يتغير هذا التكوين المجتمعي بسبب تعقد المجتمع المتزايد على مدى الزمن، فينتفي مبدأ التضامن والتعاون لصالح سعي الجماعات إلى فرض هيمنتها وتوسيع نفوذها، مما يقضي بالغلبة لعشيرة دون سائر العشائر، ثم لفرد دون سائر الأفراد، فيزول النظام الثنائي وتبرز سلطة هرمية، مثلما نرى هنا في المجتمع الإقطاعي الذي تتناوله أليس.[6] ينطلق الحدث هنا من خلال مجموعة من الناس يشكلوا عائلة واحدة كبيرة تسكن بيت ريفي واحد، تقع هذه المجموعة تحت وطأة سلطة الإقطاع من قبل (السيدة الكبيرة)، هذه السيدة تسكن المدينة وتوكل موظفين لها كي يتواصلوا مع أهل القرية المغيبين عن الحياة خارج حدودهم.

تلعب أليس هنا أيضًا على مفارقة مهمة من خلال الشخصية الرئيسية، لازارو، وهنا أيضًا اختارت أليس الاسم لدلالة أبعد، فاسم لازارو- lazzaro يعود إلى اسم القديس لازارو/لازاروس، ويدعى بالعربية (لعازر)[7]، وتنعكس تكوين القداسة هنا على لازارو في عدد من المشاهد، نرى في إحداها مرض لازارو الطويل الذي تعافى منه بمعجزة، ثم مشهد إعادة إحيائه بعد سقوطه من فوق الجبل في القرية.

المفارقة هنا تكمن في وجود اغتراب دائم لشخصية لازارو طوال الفيلم، الحالة الأولى في القرية، حيث تكوين شخصية لازارو في جذره لا يتفق مع المجتمع الذي يعيش فيه، فلازارو يحمل صفة التعاون والتضامن المفترضة في الشكل القديم بين العشيرة، لكنه يقع تحت استغلال الآخرين بسبب هذا، تتجلى هنا حالة اغتراب للقداسة في آليات البنية الاجتماعي. الحالة الثانية في المدينة، فإذا كان الاغتراب في القرية في الشكل الاجتماعي الأبعد نواجه هنا حالة اغتراب كاملة، اغتراب القداسة عن المجتمع الحديث، والذي نراه في مشهد النهاية يتعدى هذه الحالة إلى حالة اعتداء صريحة من أبناء المدينة على لازارو، أو بمعنى أدق اعتداء على المقدس.

نلمس شكل هذه التداعيات في البنية الاجتماعية لأشكال سلطة فردية داخل شكل الأسرة نفسه في فيلميها الآخرين، في (جسد سماوي)، داخل بيت مارتا نواجه هذه المشكلة، حيث تبدو الأم وديعة وهادئة، بينما الأب غير متواجد في الصورة، تتجلى أشكال السلطة العائلية بصورة مغايرة حيث تمارس الأخت الكبرى رغبتها في صنع القرار والتعنيف تجاه مارتا.

وفي (العجيبون  the wonders)، تبدو صورة السلطة الأبوية مشوبة بالحميمية والعاطفة، كعادة أشكال السلطة الأبوية في القرى. تحظى الأم في الفيلم بحضور عاطفي وتقليدي حيث تبدو وسيلة البوح الأكثر قربًا لجيسلمينا، الفتاة التي تعرض أليس من خلالها جزءًا كبيرًا من فيلمها. العلاقة بين جيلسمينا وبقية الفتيات وبين أبيهم علاقة محفوفة بسلطة العاطفة حيث تبدو غير قصد وسيلة للتحكم وفرض قرار الرؤية الواحدة، حيث يتخذ الأب قراره بالبقاء حسبما يريد لا حسبما تريد بقية العائلة، يقرر الأب الطريقة المناسبة للعمل وطريقة عيشهم والتفاصيل الصغيرة في اليوم والأحداث الكبيرة، جميعها من خلال المحبة والخوف. يظهر هنا يشكل أوضح هذه البنية الهرمية للأسرة، حيث الأب يمثل سلطة المقدس، بالشعورين الكامنين فيه، المحبة والخوف، أو (الجلالة والرهبة) كما يسميهما رودلف أوتو.[8]

إشكالية اللغة والتواصل

هل تتحقق القدرة على التواصل من خلال التحدث بنفس اللغة، أو العيش في نفس الإطار الاجتماعي؟

تحاول أليس هيكلة هذه الإشكالية، من خلال ثلاثة رؤى متباينة في أفلامها الثلاثة، ومن خلال ثلاثة شخصيات يواجهوا نفس المشكلة بصورة أكثر تركيزًا، وأيضًا، تتجلى الإشكالية بصورة أكثر عمومية عند بقية شخصيات أفلامها.

في فيلم heavenly body تنطلق مارتا في تكوينها من خلال السؤال، لكنها تتعرض لرفض غير مباشر لهذه الأسئلة ومباشر في أحيان أخرى، لأنها تجد نفسها أمام أطراف لا تستجيب لهذه الأسئلة من الأساس، وبالتالي لا تستطيع أن تكوِّن معهم قدرة على اللغة والتواصل.  تتمثل حالة  اللا تواصلية لدى مارتا  في زفرة يأس المسيح الأخيرة على الصليب: “إيلي إيلي، لما شبقتني”، أي إلهى إلهي لما تركتني. حينما رُددت الكلمات على مارتا تساءلت عن معناها، لكن معلمة الكنيسة لم ترد عليها، وظلت هذه الكلمات محور تساؤل بالنسبة إليها. وبينما كان الآخرين يرددونها دون فهم وقفت مارتا على الكلمات وظلت تتساءل، إلى أن قابلت في أحد المشاهد باقتراب النهاية قسًّا من مدينة مهجورة ليخبرها بالمعنى.

الأطراف شديدة الثانوية، والتي غالبًا لا تمثل سوى ظهورًا جانبيًّا لمرة أو مرتين بالكثير، لا نستطيع أن نثنيها من القدرة على التواصل ومشاركة الأفكار، الخوف من اللا تواصل عادة يأتي من أطراف تتسيد المشهد. تبدو هذه الفكرة هي أساس إشكالية اللا تواصل في فيلم the wonders. جيلسمانيا الفتاة المراهقة التي تتحمل أعمالًا ومسؤولية أكبر من سنِّها، وتتحمل مع أبيها جزءًا كبيرًا من ضرورات العمل، لا تستطيع أن تتواصل أو تعبر بأريحية عن أفكارها، تبدو الأم طرفًا ممكنًا في الفيلم لكنها طرف محفوف بقهر محدودية القدرة على صنع القرار، لأننا في مواجهة عائلة لديها أب يمثِّل الصوت الواحد. يتداعى عجز جيلسمانيا عن التواصل إلى إحالتها تجاه أشكال مغايرة من التواصل، حينما يعيش معهم ولد في نفس مرحلتها العمرية لكنه يتحدث لغة أخرى. نجد جيلمسانيا تخلق حالة تواصل تتماس بشكل كبير من تكوينها العاطفي اللغوي مع ولد لا تتحدث نفس لغته، حيث تبدو هذه الحالة أكثر قربًا لها وأكثر قدرة على تكوين مفردات خلالها، أكثر من قدرتها على التواصل مع العائلة.

في فيلم لازارو لا تتمثل حالة اللا تواصل من خلال اللغة بشكلها التواصلي التقليدي، بل تعود بصورة أكبر إلى أصول المسميات، حيث الأشياء تحمل دلالة واضحة من خلال الاصطلاح البشري المستمد من تاريخ طويل. وتبين أليس مدى مأساوية غياب قدرة أحدهم على التواصل المعنوي المتجاوز لحدود اللغة، والذي يحيل صاحبه إلى الاغتراب عن محيطه.

نرى هذا حينما يأخذ لازاروا (نبلة) من ابن صاحبة المزرعة، ويخبره الأخير أنها (سلاح) هدية له كعربون صداقة. في المشهد الأخير يستخدمها لازاروا بشكل ساذج لا يعي خطورة مفردة (سلاح) حينما تنطق في المدينة، يفزع الجمع المحيط به في البدء، ثم ينهال عليه بالضرب حينما يتحسسان طيبته الطافحة على وجهه.

فيلم The wonders - إخراج أليس رورفاكر
فيلم The wonders – إخراج أليس رورفاكر

الكتابة السينمائية: شخصيات عادية لا تُنسى 

خلال أفلامها الثلاثة، بدا واضحًا رؤية أليس في الكتابة السينمائية، ندرك منذ فيلمها الأول أنها تعمل على نهج تقليدي في الكتابة، لا يطمح لتجاوز مسيرة خط سردي واحد، يتطور وتتداعى أحداثه متصاعدة بمستوى ثابت لا يحمل عنصر المفاجأة أو تغيير مجرى الأحداث إلا في حالات نادرة وضرورية. تعمل أليس خلال ذلك النهج من الكتابة على الالتزام الواقعي في عرض موضوعاتها، المستقاة من تجارب حياتية كاملة، لذلك نرى أفلامها، على اختلاف طرق المعالجة، تتشارك في انسياب هادئ لمجريات أحداثها. ننتهي من أي فيلم من الأفلام الروائية الثلاثة لأليس وندرك انشغالها الأساسي، بالرغبة في نقل تجربة ما من أكثر جوانبها الخفية عن الرؤى التقليدية.

 تتخذ شخصيات أليس بعديها الأساسيين، بتوزيع يحافظ على الانفصال الجزئي لكل  شخصية، حيث تمارس الشخصيات حالة وجود حر، لتشكل على مستوى خاص مسيرتها الفردية، التي تعنيها هي وحدها، في نفس الوقت تلتقي هذه الشخصيات بمصيرها المشترك، الذي تدفعها لتكوين الرؤية الخارجية والصورة الكاملة للنص السينمائي. لا تتمتع شخصية بعينها من شخصيات أليس ببطولة كاملة، لدينا فقط حضور مميز، على مستوى لا يطغى على الشخصيات الأخرى في ممارسة تكوينها. وجود شخص نستطيع أن نرى من خلاله مسيرة الفيلم ثيمة معتادة في أفلامها الثلاثة. عادة تكون هذه الشخصية ليست ذات مركزية كاملة، ربما يتأتى ذلك من قناعة أن الحكي الواقعي الحالي، يلزم منَّا أن ننظر إلى الحكايات ككل، وأنها لا تحمل بطلًا مخلِّصًا أو مشكلًا لها بالضرورة. ربما تنبع أهمية الوجود المميز لشخصية معينة، أنه يحمل الجانب الأكثر قدرة على إظهار الجانب المتواري في الفيلم، والذي لا يكسبه بطولة بالضرورة، لكنه فقط يشكل له حضورًا مغايرًا.

في فيلمها الأولى جسد سماوي-heavenly body تقدم أليس مقدمة تقليدية لنتعرف على طبيعة القرية خلال تجمعهم في إحدى الإحتفالات التابعة للكنيسة، نأخذ انطباعًا عموميًّا من خلال الصورة، دون أن تشير أليس إلى أي شخصية بعينها، عن مجموع الشخصيات المحركة للفيلم. الحضور المتميز، أو بالأحرى العين التي من خلالها نعايش حالة الفيلم، مثل حضور مارتا في فيلم «جسد سماوي».

في فيلمها الثاني العجيبون -the wonders يتخذ النص السينمائي عند أليس صورة مطابقة خارجيًّا لنص الفيلم الأول. خلال المشاهد الأولى، نعايش طبيعة المكان، العائلة وما يميزها، هنا تقدم حالات انطباعية لمشكلات العائلة نفسها، ندركها من لمحات سريعة لا تتجاوز كونها مشاهد اعتيادية في الظاهر، لكنَّها تبدو بطانة جوهرية لتماسك النص حينما تتجلى هذه المشكلات منفردة، وتتخذ المساحة الأكبر من مسار الفيلم.

بالنظر إلى مسار جيلمسانيا في فيلم العجيبون  ومسار مارتا في جسد سماوي،  نلاحظ التماس في نقاط الحضور الأولى لكل منهم وبعض الأسئلة التي تشير أليس من خلالها إلى خروج كل شخصية من حيز الفردي. ننظر مثلًا إلى مارتا وهي تقف عارية في الحمام وتحاول التعرف على جسدها الذي يبدأ في النمو، أما عن جيلسمانيا فقد تشكل الأمر من خلال علاقتها المحدودة في البدء بالولد الألماني وكيف تتقبل حضوره الذي يدفعها للتعرف على تركيبات شعورية جديدة عليها.

السن عند الشخصيتين لا يتوقف عن كونه تركيز على مرحلة بعينها ومحاولة التعرف على تطوراتها المغاير لرؤانا التقليدية. تستخدم أليس سن المراهقة عند جيلسمانيا ومارتا، لتضعهما أمام دهشة عالم جديد مركب، يريانه بعين البرائة التي توشك على الأفول وتبدأ عين جديدة في النظر، تتفاجأ ثم تحاول مواكبة النظر بصورة واقعية للعالم الذي يبدو محيرًا وشديد التركيب.

في فيلم سعيد مثل لازارو –happy as lazzaro  تكونت شخصية لازارو في مساحة حرجة، حيث إنها تبدأ ويتكون تطورها خلال محطات فارقة تبدأ من واقعية القرية، دون أن ندرك حالتها الأسطورية، وخلال أول نصف ساعة من الفيلم يبدو اتساق وجود لازارو مع طبيعة المكان، وطبيعة الشخصيات المسكينة، مسلوبة الحلم والإرادة، ذلك الاتساق لا يخلو من غرابة البرائة الشديدة التي يبدو عليها لازارو المطيع لأهل القرية، الذين نعرف منذ البدء أنهم جميعا أهل،  لكن لازارو على الرغم من اقترابه الشديد بهم، لم يظهر أي صلة قرابة بهم. ذلك الوقوف على وجود لازارو، المشارك والمتصل بطبيعة المكان، والمتسق مع مشكلات أهل القرية، لكنه يظل محتفظًا بجزء من استقلال مساره الذي سيتطور فيما بعد ليتجاوز حدود الواقعي، ليصبح لازارو شابا كما هو بعدما يشيخ الجميع، ويظل مستقرًّا على وجوده الأول، حتى حينما يبدو أهل القرية كلهم على صراع بين الحفاظ على ذاكرة القرية من خلال العيش بما تبقى من مفرداتها المتاحة، وبين الاستجابة للوجود في المدينة، ومحاولة التأقلم بالطرق المتاحة وغير المتاحة مع ذلك.

happy as lazzaro - إخراج أليس رورفاكر
happy as lazzaro – إخراج أليس رورفاكر

إن الالتزام الواقعي (حتى في نقطة إحالة شخصية مثل لازارو إلى تكوين أسطوري) عند أليس، لا يعدو التزامًا قشريًّا، يبدأ وينتهي بحكاية تقارب تجربة حياتية ولا تخرج عن مسارها الطبيعي، الواقعية عند أليس تتخذ (منهجًا) يعنيها بصورة ذات خصوصية. تقول المخرجة أليس رورراوتش إن أول شيء تعمل عليه عقب التأكد من الرغبة في العمل  والقدرة الفنية لدى كل فرد في فريق عملها، هي أن تحافظ على وجود (لغة) اجتماعية تعنيهم، أي أنها تتعامل مع فريق العمل على الفيلم بأنهم عائلة، وأن المشاركة الفعالة بين هذه العائلة هي سر جودة أفلامها، وهي دلالة قدرة الفيلم على البقاء أن يكون صادق وملتزم بصورته الواقعية.

رؤى في الإخراج والصورة 

 خلاصة الواقعية هي تقديم فيلم يحكي حكاية، دون إعطاء أي انطباع بأن هناك أحدًا يحكي الحكاية[9]

خلال فترة حكم موسيلليني في إيطاليا، كانت السينما إحدى الأدوات السلطوية  لدى النظام الفاشي، يقول موسيلليني على نفس نهج لينين إن السينما بالنسبة له هي أقوى سلاح. خلال فترة الثلاثينيات حتى منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، تضاعفت يد السلطة على السينما، حتى أصبحت أداة تغييب عن الواقع يقول بعض مؤرخي السينما:

 وكما في القطاعات الأخرى من الحياة الثقافية، كان التأثير الفاشي في البداية سلبيًّا وقمعيًّا، فبدلًا من إجبار الفنانين والمثقفين على اتباع مواقف سياسية جاهزة، فإن الفاشيين أرادوا ببساطة أن يحولوا الاهتمام به فيما عدا رجال السياسة.[10]

خلال عامي 1945-1944 بدأ الناقد السينمائي والمخرج روبرتو روسيلليني تصوير فيلم (روما مدينة مفتوحة –Rome,  open city)، ذلك الفيلم بالمشاركة مع فيلم (سارقوا الدراجات – bicycle thieves) للمخرج فيتيرو دي سيكا، كانا أساس الواقعية الإيطالية الجديدة في موجتها الأولى.

دافع العمل السينمائي في فيلمي روما وسارقوا الدراجات لم يكن دافعًا لنقل صورة واقعية للمجتمع الإيطالي فقط، بل استمدت الواقعية الإيطالية الجديدة أهميتها الأولى من فكرة مدى الاحتمال والقدرة على مقاومة السلطة، بدأت من مقاومة السلطة الفاشية وتبعاتها خلال آخر فترات الحرب وبعد انتهائها، لكن ظهور الحزب الديموقراطي المسيحي خلال الخمسينيات، أعاد السينما الإيطالية إلى كونها أداة سلطة وتوجيه، حتى استعادت شكلًا أكثر نضجًا وأكثر إبداعًا وفنية على يد المخرجين الثلاثة لوتشينو فيسكونتي وفيديريكو فيلليني ومايكل أنجلو أنطونيوني.

تستمد أليس أدواتها السينمائية بالأساس من نقاط بدء الواقعية الإيطالية الجديدة وتتماس مع أفكارها الأولى. لا يعدو امتداد أليس بواقعية سينما بلدها امتدادًا عموميًّا، بل تستعيد خصوصيات وتفصيل سينما الواقعية الإيطالية حينما اعتمدت أليس  على التصوير الخارجي  كثيمة أساسية في فنيات الصورة خلال أفلامها الثلاثة، خاصة الفيلمين الأخيرين. كذلك تستعيد محاولات مخرجي الواقعية الإيطالية الأوائل في وضع المشاعر الإنسانية المنوطة بالقصة السينمائية في أكثر حالاتها صدقًا وواقعية، حيث كانوا يعتمدون على ممثلين غير مشهورين، تعتمد أليس في كل أفلامها على أن يكون جزء غير قليل من الممثلين غير مشهور، أو تكون هذه هي تجربته السينمائية الأولى، والأهم أن يكون الممثل له علاقة تعايش وتجربة حقيقية  مع سردية الفيلم. يتجلى ذلك الصدق بصورة واضحة في شخصية لازارو، الأداة السردية الأكثر أهمية في فيلم أليس الأخير، كانت هذه تجربته السينمائية الأولى. 

يحظى التصوير الخارجي عند أليس، الابنة البارة للواقعية الإيطالية الجديدة، بجزء كبير ومركزي. في فيلمها الأول، رغم أنه يحيلنا إلى معالجة أكثر ذاتية لشخصية مارتا، لكن الأحداث الفارقة في هذا الفيلم تتشكل من المشاهد الخارجية، كانت مارتا تعاني من مشكلة في قدرتها على التواصل مع العائلة بأريحية، أو في التواصل مع معلمة ومسؤولي الكنيسة، لم نكن نستطيع أن نخمِّن أو نتخذ رد فعل انطباعيًّا يبدو على وجه مارتا. بدت حركة الكاميرا دائمة الالتصاق بمجال نظر مارتا، كبديل لصمتها المطبق في كل حالاتها، تستخدم أليس الصورة ليست فقط كأداة للحكي لكنها تشغل جزءًا من قدرة مارتا على التعبير عن نفسها. حينما تجد مارتا نفسها  قبالة شعور غير قادرة على تحديد ماهيته، أو لأنها تجربه لأول مرة، كانت الصورة، والمكان، يتراجعان عن كونهما عناصر منفصلة نوعًا ما عن الشخصية، ويتحدان لمشاركة مارتا في تحديد ماهية شعورها والتفاعل معه.

تبدو مركزية التصوير الخارجي في الفيلمين الأخيرين لأليس، لأنهما يعتمدان بصورة كبيرة على المكان. الوجود الطبيعي والأصيل للقرية يعطي الصورة مساحة وقدرة كبيرتين على توظيف الحالات الشعورية وعرضها. في فيلم lazzazro ندرك الشكل الكامل لكيفية عيش أهل القرية المغيبين تحت وطأة الإقطاع، ومدى الفقر والتغييب الذي يعيشون فيه. كل ذلك من خلال بضعة مشاهد متتابعة في أول الفيلم.

المراجع
  1. القديسة مارتا أو مرثا في الترجمة العربية هي أخت لازارو أو لعازر في العربية وماريا أو مريم في العربية وهم من بيت عنيا، وتظهر في إنجيل يوحنا من الإصحاح الحادي عشر عندما ذهب المسيح لإلعازر عند سماعه بمرضه، ثم في معجزة إحياء المسيح لأخيها. وظلت مخلصة للمسيح وكانت من النساء القليلات معه أثناء الصلب طبقًا للعقيدة المسيحية.
  2. فتحي المسكيني/ الإيمان الحر أو ما بعد الملة/ صفحة 235.

  3. مرسيا إلياد/ المقدس والعادي/ الصفحات من 59:100.
  4. أحد سمات (الدازاين) أو الكائن هنا، وهو مصطلح أساسي في فلسفة هايدجر.
  5. روجيه كايو/ الإنسان والمقدس/ الصفحات من 98:112.
  6. روجيه كايو/ المصدر نفسه/ مقدمة المترجم، صفحة 13.
  7. هو أخ للقديسة مارتا (هامش 1)، وقصة إحياء المسيح له تقع في الإصحاح الحادي عشر من إنجيل يوحنا.
  8. رودلف أوتو/ فكرة القدسي/ ينطلق أوتو في كتابه من تحديد هذين الوجهين للمقدس (الرهبة والجلالة).

  9. لوسيانو فيسكونتي: مسرحي ومخرج وسيناريست إيطالي، أشهر أفلامه (الموت في فينيسيا).

  10. مجموعة مؤلفين/ موسوعة السينما في العالم: الجزء الثاني.