يرتبط الثنائي «أمل وعمر» في الذاكرة المصرية الشعبية بأيام الطفولة والبراءة، حيث كانت صورة «أمل وعمر» على كتاب «القراءة» المدرسي أول ما نتعلق به ونتعرّف من خلاله على العالم، لمن نكن نعرف الكثير حينها عن أمل وعمر ولكنهما كانا في الغالب أخوين، يغنيان للأم والأب والمدرسة، ويرسخان عددًا من المفاهيم والتعاليم التي تحافظ عليها الأسرة المصرية وترسخها في تربية النشء، ولكن ماذا يحدث لو مر الزمان، وتغيّرت الدنيا، وكبر «أمل وعمر» ووجدا نفسيهما فجأة معًا في الفراش؟!

يأخذنا «عز الدين شكري» ابتداءً من هذه المفارقة التي قد تبدو للكثيرين صادمة، لينقلنا إلى الواقع الأشد صدامية وسوداوية وكآبة، ساعيًا إلى الكشف عن عدد من المشكلات الأساسية التي أصابت المجتمع المصري قبيل الثورة وأثنائها وبعد أن مر عليها بعض الأحداث المؤسفة والمواقف المأساوية.

آه .. ما أقسى الجدار عندما ينهض في وجه الشروق ربما ننفق كل العمر.. كي ننقب ثغره ليمر النور للأجيال.. مرة! ربما لو لم يكن هذا الجدار ما عرفنا قيمة الضوء الطليق

ترددت على ذهني كلمات «أمل دنقل» في نهاية هذه الرواية، التي تقلَّب في مواجع المجتمع المصري ومشكلاته وأزماته الحالية والسابقة منذ الثورة وقبلها حتى وقتنا الراهن، يبتعد شكري هذه المرة عن استشراف المستقبل (الذي كان قد قام به في روايته السابقة)، فالسواد والبؤس ليسا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الشرح والتوضيح، ولكنه يغمس قلمه داخل قلب الوطن الجريح هذه المرة علّه ينجح كجراحٍ ماهر في استئصال الداء، أو على الأقل الإشارة إلى مواضع تواجده! أين كمنت الهزيمة إذن؟ كيف يمكن وصفها؟! هل من «أملٍ» في إمكانية تجاوزها؟ أم أن الأمر سينتهي بأمل وعمر فعلاً إلى الفراش حيث «أيام الخرا فايدتها النوم» كما تقول الحكمة المتداولة في الجيش، والتي يصدّر بها شكري روايته؟!

بعد خمس سنوات من «باب الخروج» الرواية التي تنبأت بوصول «العسكر» إلى السلطة بعد الثورة، يعود شكري إلى «عمر فخر الدين» الذي كنّا نوشك أن ننسى حكايته وحكاية والده، التي كان آخر لقاءٍ لنا به في روايته «أبو عمر المصري» تلك الشخصية الثرية التي تورطت في أمورٍ كثيرة وكاد صاحبها يفقد حياته وحياة ابنه ولكنه نجا في آخر الأمر، ليستقر به الحال هنا بين يدي هذه الرواية ـ سجينًا مرة أخرى!

ولكن الحكاية هذه المرة لا تقتصر على «فخر الدين» و«عمر»، بل ولا حتى حكاية عمر وأمل الذين جمعتهما مصادفة الفراش، ولكنها عدد من الحكايات الأخرى، عبر ثمانية فصولٍ معنونة، يحمل كل فصلٍ منها عنوان حكاية مستقلة يربط بينهم جميعًا معرفة عمر بشخصيات تلك الحكايات من جهة، ومصر والثورة من جهةٍ أخرى!

الحيلة الروائية متقنة هذه المرة عمّا فعله شكري في «باب الخروج» مثلاً، حيث كان تدخّل الراوي العليم في أحداث شخصياته سافرًا وغير مبرر في كثيرٍ من الأحيان، كما جاء الوسيط، «الرسالة الطويلة جدًا»، غير منطقي لإيراد كل هذه التفاصيل (التي اتسعت لتكون رواية) أما هنا فالحكايات تأتي كلها على لسان «عمر» الذي يحكي ما يعرفه لأمل، وتجعلنا ندرك أنه يُعمل خياله أيضًا ويستحضر بعض التفاصيل التي يعرفها مع تفاصيل أخرى يفترضها في الحكاية من عنده، ولذا هي تتداخل معه في بعض الحكايات، وتعترض على ما تراه من نهايات مأساوية، وتفترض حلولاً أخرى واقعية وممكنة الحدوث أيضًا.

تأتي الحكاية الأولى لهما، كل واحدٍ يتحدث عن نفسه وحكايته، فنتعرَّف على «أمل مفيد» المصرية الحاصلة على جنسية أمريكية التي تأتي مصر قبل الثورة، وتتورّط في أحداث الثورة وما تلاها، حتى يتم القبض عليها ويطالبونها بالتنازل عن الجنسية المصرية وتضطر للعودة إلى أمريكا مرة أخرى، ونستعيد معرفتنا بـ«عمر فخر الدين» الذي كنّا قد عرفنا طرفًا منها في روايةٍ سابقة، لكنه يجملها هنا، ويعرفنا على موقفه المتفرج، المتابع لأحداث الثورة رغم تواجد أصدقائه كمشاركين وفاعلين في كل تفاصيلها منذ اليوم الأول، انتقالاً إلى بعض الأصدقاء الذين فقدهم بسبب أحداث ما بعد الثورة (تحديدًا مذبحة بورسعيد) وما دار فيها:

للموت أثرٌ غريب علينا، لا أدري إن كنتِ مررت بتلك التجربة ومات لكِ شخص قريب من سنك، تشعرين بعدم التصديق، ثم بالخديعة كأن هناك خطأ في قوانين الكون، ليس من المفترض أن يموت الناس في هذا العمر، كأنكِ تدركين فجأة بشكل ملموس أنك غير خالدة، أنكِ أيضًا عرضة للاختفاء هكذا في أي لحظة، تعرفين هذا، قاله لكِ الشيخ أو القس عشرات المرات، لكن الشعور به أمر مختلف، وحين يكون الموت قتلاً برصاصٍ لا يحتمل مسؤوليته أحد برصاصٍ ينكر الجميع وجوده أصلاً، تصبح الخديعة مزدوجة، وخلل قوانين الكون يصبح مسؤولية هؤلاء الذين تلقين أنت عليهم بالمسؤولية، هكذا ينقطع ما بينك وبينهم، مهما برروا الأمر بعدها، مهما أقسموا على براءتهم وعدم معرفتهم بالخرطوش، أو القناصة أو المدرعات،فيما يخصك كل هذا هراء، هم القتلة وأنتِ تعرفين هذا وتكرهينهم وتنتظرين اليوم الذي تقتصين فيه منهم.

ثم ينتقل بنا إلى حكاية أخرى لا تقل مأساوية عن السابقة، تتعلّق بالتحرش الجنسي بالفتيات وما جرى للصحفية المسكينة «هند» وحبيبها «باسم»، (يشير فيها عز الدين شكري إلى شهادة حقيقية بالفعل مأخوذة من موقع مدى مصر ومنشورة على الإنترنت بعنوان «الاعتداء الجنسي والدولة ..تاريخ من العنف»)، وتحاول «أمل» أن تغير في مسار الأحداث وتفترض حلاً آخر لمشكلة هند وباسم حتى لا تكون الحكاية مأساوية تمامًا كما حدث في القصة الأصلية!

بعد حكاية التحرش تأتي حكاية «فض اعتصام رابعة»، وهي صفحة أخرى شديدة المأساوية مع «حبيبة»، و«شادي» اللذين ينتميان إلى التيار الإسلامي، وإن كانا لا ينتميان إلى جماعة بعينها، ولكن انحيازهما ذلك أثّر عليهما سلبًا حتى جاءت أحداث «رابعة» وشاركا فيه، ويحاول عمر أن يثنيهما عن المشاركة فيه وإقناعهما بعبثية الموقف كله، ولكنه يفشل في ذلك حتى يشهد بنفسه نهايتهما المأساوية!

ثم تأتي الحكاية الخامسة الأكثر صدامًا للمجتمع وهي حكاية شابين هذه المرة «شريف»، و«بهاء» اللذين يكتشفان ميولهما المثلية وانجذاب كل واحدٍ منهما للآخر، ثم يعرض موقف المجتمع منهما والتحولات التي تطرأ عليهما بعد الثورة.

وفي الحكاية السادسة والأخيرة نكتشف جانبًا آخر من الصراع المكتوم داخل الأسرة المصرية، مع «دينا» والعقيد «أيمن» وعلاقتهما التي تنتهي بالزواج، ولكن تأتي الأحداث السياسية (التي يكون فخر الدين طرفًا فيها) لكي يستعيدا التفكير في تلك العلاقة وهل بنيت على المصلحة أم على الحب كما كانا يعتقدان.

يبدأ شكري كل حكاية من حكاياته بشكل سلس، وينتقل بين الحكايات ببساطة، ويعرّفنا على شخصيات كل حكاية منذ بدايتها إلى نهايتها بشكل موجز وذكي، يجمع بين الخيوط النفسية للشخصيات وأثر الأحداث المحيطة بهم على تفكيرهم ومواقفهم، ولعل هذا أبرز ملامح هذه الرواية، أنه يمسك جيدًا بشخصيات روايته على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها، واستطاع فعلاً أن يحكي عن أربع عشرة شخصية ويعبّر عنهم بشكلٍ متقن، هو قادرٌ تمامًا أن يدفعك إلى اليأس، وإلى اليقين أنه «لا فائدة»، ولا يوجد بصيص من الأمل، لا في الحياة ولا في المقاومة ولا في ثورةٍ قادمة ولا شيءٍ من «هذا الهراء»، يعبّر عن ذلك عمر بشكلٍ واضح حينما يقول:

الحقيقة أن الأمل ساورني، فترةٍ وجيزة، عدة أشهر ربما، بعد الثورة مباشرةً صدقت، أنا الذي لا أصدق شيئًا، صدقت بيني وبين نفسي. لم أقل لأحدٍ ولم أفعل شيئًا، لكن الحقيقة أن الأمل تسلل إليَّ. هذه هي المشكلة: أني صدقت رغمًا عني صدقت. ثم توالت الأحداث وتحوّل أملي إلى خيبةٍ كبيرة، الأمل وهمٌ مؤلم. هناك دومًا أناس مثلكِ يحدثون أمثالي عن بارقة أملٍ تحت ركام الواقع. لكن الحقيقة الموضوعية هي أن الركام أقوى. وأكبر، وأثقل، واهم من أي بارقة أمل، الركام داخل الناس أنفسهم ركامٌ يكفي لنسف أي أملٍ فيهم. هذا ليس انفعالاً بل قراءة باردة للواقع. هناك أمم كثيرة انهارت واندثرت أو أصبحت هامشية أو تابعة أو مشلولة أو متفسخة. هذه الأمم كانت أيضًا تريد العيش والتقدم والنمو. لكن الرغبة شيء والقدرة شيءٌ آخر، تمامًا كما يقول المثل الأمريكي «لا يمكنك هزيمة شيء باستخدام لاشيء». هنا لا يوجد شيءٌ نهزم به التخلف، كل شيء مصاب أو منهار، بما في ذلك نحن. الناس أنفسهم مصابون أو منهارون غير قادرين!

ولكن «أمل» موجودة، وتستطيع أيضًا أن تنقلك فورًا إلى الجانب الآخر، وأن تعكس رؤية مغايرة مختلفة تبدو واقعيةً أيضًا وقابلة للتصديق، ويبدو أننا نميل أكثر لقبولها حتى نستمر في العيش:

حمايتك الحقيقية، نقطة الارتكاز التي تقع خارج سيطرة هذا الجنون، أمريكا التي تحميك وتنتظرك، هي ببساطة فهمك، إدراكك، اقتناعك بأن كل الذي يجري من حولنا الآن مؤقت، بأن مصير هؤلاء المجانين الفاشلين هو الفناء، مثل كل الفاشلين المجانين الذين سبقوهم، بأن هؤلاء العَجَزة لا يمكنهم أن يقمعوا بلدًا كاملاً من الشباب القادر، بأن كل هذا إلى زوال حتمي، حتمي لا ريب فيه، وأن كل ما عليك فعله هو النجاة من مطارقهم ومخالبهم، وأن تُعد نفسك لما يأتي بعد هذا، لمرحلة ما بعد خروجك من قبضتهم المكتوب عليها الزوال.

في الرواية سخرية واستهزاء بدور «القضاة» الذين يسارعون بالحكم بالسجن على الكتاب والأدباء لمجرد أنهم كتبوا أسماء بعض أجزاء الجسم في رواياتهم (كما يشير صراحة إلى قضية أحمد ناجي في بداية الرواية) في حين يمتلئ المجتمع بأشخاصٍ وأفرادٍ ومؤسسات تقتل الناس وتعذبهم وتنتهك حرياتهم ليل نهار ولا يتم محاسبتهم، ولا تهتم حتى بتوجيه اللوم لهم!

الرواية لم تنتهِ بعد بالتأكيد، حتى شخصياتها لم يفصحوا جميعًا عن دواخلهم، لا شك أن هناك المزيد من التفاصيل، التي ربما يتاح لها فرصًا أخرى بين يدي «عز الدين شكري» نفسه، بل إن شخصية ثريّة مثل «فخر الدين» لم تظهر إلا محكيًا عنها هذه المرة، وبواسطة ابنه الذي ربما لا يكون الأقدر على الإلمام بشخصية والده، الذي أعتقد أن شهادته ستكون مختلفة ومهمة جدًا عن لحظات النصر والهزيمة في مصر!

يجب ألا ننسى أيضًا التمهيد والتهديد الذي وضعه شكري في بداية الرواية وعلى غلافها الخلفي، أن هذه الرواية الصادمة ليست «لأصحاب القلوب الضعيفة والأحاسيس الخلقية والدينية والوطنية المرهفة»، ذلك لأن رواية كهذه ستدفعهم حتمًا ـ لا سمح الله ـ للتفكير، والمزيد من التفكير في علاقاتهم الخاصة شديدة الخصوصية والعامة علاقتهم بأنفسهم وعلاقتهم بالآخرين، أفكارهم حول الآخر ومدى قدرتهم على تقبله أو نفيه واستبعاده، مشاركتهم الفعلية في خلق إرهابيين وأعداء جدد في كل فترة، ودفعهم الناس دومًا لليأس والموت، حتى لو كانوا أقرب الناس إليهم!

تجدر الإشارة إلى أن شخصيات الرواية الأساسية «أمل مفيد»، و«عمر فخر الدين» يمتلكان حسابات على «فيس بوك» أشار إليها عز الدين شكري بمجرد انتهائه من كتابة الرواية منتصف العام الماضي حينما كان مقررًا أن يكون عنوانها «أمل وعمر في الفراش»، وإن كنّا لا نعلم يقينًا هل هما شخصيات حقيقية أم مجرد حسابات وهمية على فيس بوك.